الفقرة (1)
في معنى الصوم
الصوم لغةً: هو الإمساك، وشرعاً: هو الإمساك عن المفطِّرات مع النية، والإمساك: هو الكفُّ عن أيِّ شيءٍ قد يرغب فيه الإنسان. يقال: أمسك عن الكلام أو عن المشي يعني تركه. وكذلك الإمساك عن المفطِّرات في الصوم أو لأجل الصوم، إنما هو تركها. والصوم تطبيقياً أو عملياً ليس إلا مجموعة تروك، ولا يحتوي على معنى إيجابيٍّ أو عمليٍّ إلا النية.
ومن هنا كان له أهميةٌ خاصةٌ على عدة مستويات, نذكر منها ما يلي:
المستوى الأول: إنَّ الصوم مع اقترانه بقصد القربة إلى الله عزَّ وجل، يعني رمزيةً واضحةً عن الإمساك عن اللذائذ المحرمة وكفِّ النفس عنها والصبر على تركها، سواءٌ منها اللذائذ المحرمة على مستوى الفرد الإيمانيِّ، أو اللذائذ والإندفاعات النفسية التي يكون في تركها تكاملٌ معنويٌّ مرضٍ لله عزَّ وجل.
ولهذه التروك عدة مستوياتٍ قد تصل بنا مع عمق درجة الإيمان وصفاء القلب، إلى ترك التوكل على غير الله، وترك الخوف مما سواه, وترك ذكر غيره من الأسباب والمسببات، وترك التوجه إلى كمال غير ما يوجبه عطاؤه، مع ترك التوجه إلى حبِّ الدنيا وطلب لذائذها وزخارفها ومغرياتها بطبيعة الحال. وكلُّ فردٍ ينال من ذلك بمقدار ما أوتي من ثقافةٍ ووعيٍ وإيمان، وما أوتي من توفيقٍ وتسديد.
ولذا ورد: [إنَّ الدنيا للمؤمن صوم يوم]. ويراد بالصوم الإمساك عن اللذائذ, وباليوم الحقبة الزمانية المعينة التي يكون الفرد فيها يعيش الحياة الدنيا. وإفطاره يكون في الجنة.
وفي نحو ذلك ينسب إلى رابعة العدوية:
تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحـبِّ إرباً لما مال الفؤاد إلى سواك ا[[504]]
المستوى الثاني : إنَّ الصوم يكاد أن يكون هو العبادة الوحيدة التي يمكن أن تبقى مكتومةً عن غير الله سبحانه وتعالى، لانعدام المظهر الخارجيِّ للصوم، لأنه لا يحتوي على أيِّ حركةٍ أو تصرف، بينما الصلاة تحتوي على حركةٍ وتصرف. كما لا يحتوي الصوم على طرفٍ آخر، وإنما يستقلُّ به الفرد لنفسه، بينما كثيرٌ من العبادات كالزكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف بل والحجّ أيضاً، تحتوي على طرفٍ آخر، بل لا يمكن إنجازها إلا بذلك.
فالزكاة فيها الفقير الذي تعطيه المال، والأمر بالمعروف فيه المذنب الذي تنهاه عن المنكر، والحجُّ فيه الرفيق الذي يدلك على الطريق، بينما الصوم لا يحتوي على شيءٍ من ذلك.
والمعاملات كلها على الإطلاق تحتوي على أكثر من طرفٍ واحد, سواءٌ منها العقود أو الإيقاعات. فالعقود كالبيع والإجارة, فيها الطرف الآخر كالمشتري والمستأجر, والإيقاعات كالعتق والطلاق، فيها الطرف الآخر كالزوجة والعبد.
وإنما الفرق بين العقود والإيقاعات: أنَّ العقود لا تكون إلا برضا أكثر من فردٍ واحد، بينما الإيقاع ينفذ من شخصٍ واحد، ويؤثر في الآخر, سواءٌ رضي أم غضب، وسيأتي الحديث عن جهاتها الأخلاقية في محلها من هذا الكتاب بحسن التوفيق إن شاء الله تعالى.
هذا، بينما نرى الصوم خالياً من أيِّ طرفٍ آخر. ومن هنا يمكن أن يكون عبادةً سريةً عن كلِّ البشر, لايطلع عليها إلا خالقها سبحانه وتعالى. وفعلاً نجح الكثيرون ممن يودون كتم عباداتهم بالإسرار بهذه العبادة المباركة.
ومن هنا ورد في الحديث القدسيّ: [الصوم لي وأنا أجزي به][[505]].
أما أنَّ الصوم لله سبحانه, فلأنه يمكن أن يكون مكتوماً عمن سواه كما عرفنا, فيتمحض لله عزَّ وجل، ويكون خالياً من الرياء والدوافع الدنيوية جميعاً. وأما سائر العبادات فقد لا تكون لله, أو لا تتمحض له عزَّ وجلَّ بالشكل التامِّ المرضي له تعالى, لأنَّ لها مظاهرها الخارجية التي يمكن أن يطلع عليها الآخرون.
صحيحٌ أنَّ الصوم يمكن أن يعلن، كما أنَّ الصلاة يمكن أن تكتم أو أيَّ عبادةٍ أخرى, إلا أنَّ الأفضلية مع ذلك تبقى للصوم, لأنه أسهل كتماً من غيره, ولا يوجد فيه أيُّ مظهرٍ يمكن الإطلاع عليه.
وأما قوله في الحديث القدسيّ: أنا أجزي به, فقد نقرؤه بالبناء على الفاعل، وقد نقرؤه بالبناء على المفعول المبنيِّ للمجهول.
أما إذا بنيناه على المعلوم، فيكون لهذه الفقرة عدة أساليب من الفهم, نذكر بعضها:
الأسلوب الأول : إنَّ الله سبحانه يجزي عن الصوم بمعنى أنه يعطي الثواب عليه, وبهذا لا يفترق الصوم عن غيره من العبادات التي يعطي الله عليها أنواع المثوبة.
ومعه تكون هذه الفقرة غير خاصةٍ بالصوم، والفقرة الأولى خاصةً به.
الأسلوب الثاني : إنَّ الله سبحانه يستقلُّ دون عباده وخلقه من الملائكة أو الأولياء أو غيرهم، بإعطاء الجزاء للعبد. فبينما يكون جزاء العبد في سائر العبادات على الخلق وبواسطتهم، فإنه يكون في الصوم على الله عزَّ وجلَّ مباشرةً.
وهذا يعني عدة أمور، منها: كثرة العطاء, لأنَّ العطاء الوارد من الله سبحانه لا شكَّ أجزل من العطاء الوارد من المخلوقين، وإن انتسب إلى الله في نهاية المطاف.
ومنها: كتم العطاء على الآخرين. فكما أنَّ العبد يعطي لربه عبادةً مكتومةً هي الصوم، كذلك الله يعطي لعبده ثواباً مكتوماً عن الآخرين، وهذا فيه للعبد لذةٌ معنويةٌ لا يعرفها إلا ذووها.
هذا إذا بنينا الفقرة في الحديث الشريف للفاعل المعلوم.
أما إذا بنيناها للمجهول، فستكون المسألة ألطفَ وأعجبَ, لأنَّ معنى قوله: وأنا أُجزى به، أنَّ الصوم بنفسه سيكون جزاءاً من العبد لربه على نعمه وأفضاله.
والله سبحانه غنيٌّ عن العالمين, لايمكن أن يصل إليه النفع والجزاء من أحد، وإنما هو معنىً مجازيٌّ يمثل أهمية الصوم إلى درجةٍ تصلح أن تكون جزاءاً لله عزَّ وجلَّ بإزاء نعمه اللامتناهية وآلائه المتواترة المستمرَّة.
ومن هنا نرى أنَّ في الحديث تفخيماً للصوم من جهةٍ أخرى، وهي أنَّ آلاء الله غير محدودة، فلا يمكن أن يكون جزاؤها عبادةً محدودةً مهما كانت صفتها، وإنما إعطاء التفخيم والأهمية للصوم إلى هذه الدرجة، جعله الله بكرمه ورحمته كذلك.
ولكن لا ينبغي أن ننسى، أنَّ ما جعله الحديث الشريف جزاءاً لنعم الله سبحانه ليس كلّ صوم، بل الصوم المكتوم حين قال: الصوم لي، يعني: الذي لا يعلمه غيري.
ومن الممكن القول بهذا الإعتبار: أنَّ العبادة مع تمحضها لله عزَّ وجلَّ ستكون من الناحية المعنوية غير محدودة، بخلاف العبادة التي تشوبها الشائبة أو الشوائب، فإنها بذلك ستكون عبادةً محدودة, أو بالأحرى هزيلة، لا تصلح أن تكون جزاءاً لنعم الله العظيمة.
إذن، فالصوم المكتوم لا محدود، فيمكن أن يكون جزاءاً للنعم غير المحدودة. ولا يخفى على أيِّ حالٍ أنَّ في هذا تسامحاً ورحمةً من جهة الله سبحانه على عبده، أكثر من استحقاق المورد مهما كان عظيماً، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يمكن حقيقةً أن تجازى آلاؤه أو تشكر نعماؤه أو يطاع حقَّ طاعته، كما ورد ذلك في الأخبار [[506]].
وإنما هذا الباب من قبيل ما ورد[[507]]: إذا رضي الله عزَّ وجلَّ عن العبد رضي منه بالقليل من العمل.
المستوى الثالث : من مصالح الصوم العامة.
أنه يذكر بجوع يوم القيامة وعطشه.
فإنَّ أكثر طبقات الناس في يوم القيامة، سوف يوقفون طويلاً للحساب، ويعانون الكثير من الحرِّ والجوع والعطش، حسب استحقاقهم في الحكمة الإلهية, وإن كان هذا ليس عاماً لكلِّ واحد، فهناك من يحشر إلى الجنة بغير حساب، وهناك من يحشر إلى النار بغيرحساب، باعتبار أنه مستغنٍ عن الحساب, وواضح النتيجة قبل التصدي لحسابها. غير أنَّ أغلب الناس سوف لن يكونوا كذلك, بل سوف يحاسبون على أيِّ حال، إما حساباً يسيراً، وإما بسوء الحساب، أو بأيِّ نحوٍ آخر, كلٌّ حسب استحقاقه.
والمهمُّ: أنَّ الجوع والعطش خلال الصوم، مما يحصل غالباً لأيِّ فرد, فيذكره بذلك الجوع والعطش. كما أنَّ الحرارة التي يعانيها الصائم إن كان الوقت صيفاً، يذكره بحرارة يوم المحشر وحرِّ النار، أعوذ بالله من كلِّ ما لا يرضي الله سبحانه.
غير أنَّ إنتاج هذه النتيجة تحتاج إلى أمرين:
الأمر الأول: أن يعاني الصائم فعلاً، ولو قليلاً من الجوع والعطش، وأما إذا بات وطعامه وشرابه ذو أنواعٍ كثيرةٍ وأصنافٍ عديدةٍ مما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين، فهذا ممن زاد بطراً وغفلةً وتمسكاً بدنياه في حال صومه عن حال إفطاره، فإنه في حال الإفطار لم يكن يتناول مثل هذه الأطعمة، فما حداه أن يفعل ذلك في الصيام؟.
وفي مثله من الصعب جداً أن يكون صيامه منتجاً لمثل هذا المستوى من الفكر، أعني مذكراً بجوع وعطش يوم القيامة.
الأمر الثاني: إنَّ مجرد التذكر لجوع وعطش يوم القيامة بنفسه ليس فيه فائدةٌ كبيرة، ما لم ينزل إلى حيِّز التطبيق, فيصحِّح به سائر أعماله، فيترك غير المرضيِّ ويسلك السلوك المرضيّ، ويتوجه إلى ربه حقَّ التوجه. وعندئذٍ يكون قد أنتج صومه لله النتيجة المطلوبة على هذا المستوى.
المستوى الرابع: من مصالح الصوم العامة:
إنه يذكِّر بجوع الفقراء وعطشهم, وبالتالي يذكر بمجمل أحوالهم لمن لم يكن منهم.
وهذا أيضاً ينبغي أن يقترن بما يشبه الأمرين السابقين للمستوى السابق لكي يكون منتجاً، فهو يتوقف على عدم الإسراف في الطعام والشراب إلى حدٍّ يزداد على حال الإفطار، وإلا كان من الصعب الإلتفات إلى حال الفقراء، مضافاً إلى أنه لا يكون منتجاً، ما لم يكن له نتيجةٌ عملية، وهي مساعدة المحتاجين ورفع حاجة المعوزين، وأما إذا التفت الفرد الموسر إلى حالة الفقراء، فاستمرَّ على بخله وإعراضه وتكبره، فسوف يزداد سوءاً ولعنةً وبعداً عن الإيمان، وسوف يكون صومه منتجاً لضرره لا نفعه.
وأما إذا كان حين ذكر الفقراء أبرَّهم وأكرمهم، إذن، فقد أضاف إلى إحسانه إحساناً وإلى لطفه لطفاً. ويكون صومه منتجاً لنتيجته الجيدة على هذا المستوى.
المستوى الخامس : لمصالح الصوم:
إنه يذكِّر بأحوال الدنيا لمن كان غافلاً عنها، وما أكثر الغافلين، فإنَّ الدنيا نزولٌ وصعودٌ وأحوالٌ متقلبةٌ وصفاتٌ مختلفة، لا تستقرُّ بحالٍ، ولا تدوم فيها الأحوال. فالفرد تارةً يجوع وتارةً يشبع، وهو مرةً يصحُّ وتارةً يمرض, وهو مرةً يشبُّ وأخرى يشيب, وهو تارةً يثرى وأخرى يفقر. إلى غير ذلك كثير.
وأيام الصوم كذلك، فإنَّ الفرد خلال صومه يعاني الجوع والعطش غالباً، بينما نراه في الليل شابعاً راوياً يسعد بالراحة واللذة النسبية، فقد رأى تحول الأحوال في يومٍ واحد، فكيف بتحويلها في الأيام المتعددة والسنين المتمادية.
المستوى السادس: أنَّ الصوم بما فيه من كفِّ النفس عن الطعام والشراب، وغيرها من المفطرات يمكن أن يعوِّد الفرد على درجةٍ مهمةٍ من قوة الإرادة والتحمُّل والصبر في المعاناة, الأمر الذي يسهل عليه تحمل معاناةٍ أخرى وأخرى، مما تتطلبه الحياة الدنيا.
فإنَّ في الدنيا بلاءاً، وفيها مصاعبُ شخصيةٌ, ومصاعبُ أسريةٌ، ومصاعبُ اجتماعيةٌ, ومصاعبُ دينيةٌ, وغير ذلك، فإنها لا تصفو لأحد، ولا يستقرُّ حالها بأيِّ زمانٍ ومكان.
والفرد يحتاج إلى قوةٍ في الإرادة والصبر لتحمل هذه المصاعب، والمطلوب دينياً، ليس هو كلُُّ صبر، بل الصبر الذي معه رضا وتسليمٌ وشكرٌ لله عزَّ وجل. والا فما أكثر الناس الذين يواجهون المصاعب بصبرٍ ولكنه صبرٌ معه مكرٌ وحيلةٌ وغدرٌ, بل معه اعتراضٌ على قضاء الله وقدره, وكفرٌ بنعمائه وآلائه. فهذا الشكل من الصبر ليس مطلوباً دينياً، بل هو يضرُّ صاحبه في الآخرة بكلِّ تأكيد.
والمهمُّ، أنَّ الصوم بصفته طاعةً لله عزَّ وجل، سوف يربي الإرادة والصبر إلى الجهة الصحيحة المطلوبة دينياً. وعندئذٍ سيكون الفرد صابراً محتسباً راضياً شاكراً لتكون آخرته آخرةً فاخرة.
المستوى السابع : إنَّ الصوم موجبٌ لغفران الذنوب السابقة, مع اجتماع الشرائط فيه. وهذا أحد المعاني الأساسية للحديث الشريف القائل: [الصوم جُنةٌ من النار][[508]], أي مانع عنها. فإنَّ الذنوب توجب العقوبة بالنار, والصوم يوجب غفران الذنوب والمنع عن العقاب.
المستوى الثامن: إنَّ الصوم يوجب تطهير القلب وصفاء النفس على عدة مستويات:
منها: أنَّ الطعام والشراب قد يحتوي على شبهاتٍ ومحرمات, الأمر الذي يوجب قسوة القلب وظلمانية النفس. فإذا جاء الصوم وأمسك الفرد عن مثل هذا الطعام والشراب، أوجب ذلك قلةً في القسوة وانكشافاً من الظلمانية.