بمرور الزمن، قد يجد المتابع للمسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية نفسه، دون أن يعمد إلى ذلك، قد غدا خبيرا في السيناريو والحوار، خصوصا مع الكم الهائل من الإنتاج الدرامي التلفزيوني المتنوع مابين التركي والهندي والمكسيكي والأمريكي والعربي، بمختلف أصنافه، المعروض على جمهرة المشاهدين عبر الفضائيات العربية فضلا عن الأفلام السينمائية. ولكل منشأ أسلوبه وأدواته التي قد تتراوح بين الركاكة والهشاشة في المحتوى والسيناريو المتوقع بل ربما تكاد الأحداث تـُروى على لسان المتابعين قبل أن يشاهدوها، من جهة اخرى تجد الرومانسية المفرطة وقصص العشق والـ(هويام) التي ما عاد كثيرون يعتقدون بوجودها إلا في المسلسلات لاسيما التركية منها، وهنالك أيضا المسلسلات الاجتماعية الهادفة والتاريخية الرصينة، ناهيك عن الأفلام والمسلسلات الهندية التي تفاجئك باستمرار بقدرتها اللامحدودة على المغالاة والمبالغة المتخللة برقصات ايقاعية جميلة والحان شجية في اجواء ماطرة على الأغلب، فضلا عن مسلسلات وأفلام الحركة (الاكشن) وسيناريو البطل المنقذ الذي بإمكانه هو وحده فقط أن ينفذ في اللحظة الأخيرة مخطط انقاذ البشرية من الخطر الداهم ولو كان نيزكا او بركانا أو تصدعا وتشققا في طبقات الأرض وربما مخلوقا فضائيا غريب الاطوار، ليس غريبا أن يطمح كل واحد من كتاب السيناريو الى احتلال موقع بارز والوصول إلى مكانة تؤكد قدراته في إبتداع الاحداث غير المتوقعة ورسم تشابكاتها وتفرعاتها ومآلاتها الحزينة والسعيدة، فكل يعتقد في نفسه امتلاك قدرات خارقة موازية لإمكانيات نظرائه من كتاب الأفلام الأجنبية الذين كثيرا ما ابهروا المشاهدين في جهات الأرض الأربع بأفلام حازت جوائز عالمية كالاوسكار والدب الذهبي والسعفة الذهبية.
ربما يظن كثيرون أن مكان أمثال هؤلاء هو في استوديوهات التصوير الضخمة أو في صالات التكريم الفخمة، أو في دور العرض يجمعون ما أمكنهم من أيرادات حد التخمة، لكن كثيرا من هذه القناعات بدأ يتغير على نحوٍ مفاجئ بعدما شدَّت حلقات المسلسل الجديد الذي تدور أحداثه على مسرح الحياة في العراق العظيم، تصور وتعرض ببث مباشر على الفضائيات المحلية والعربية والعالمية كأنه واحد من برامج تلفزيون الواقع، ويتابعها الملايين بشغف بل بذهول منقطع النظير في القارات الخمس، فقد شدت الجماهير من أقصى الارض الى أقصاها بعدما فاقت أحداثها «ليالي الحلمية» في حبكتها ورصانتها وعدد أجزائها و»حريم السلطان» في عدد السبايا والجواري وكذا «سرايا عابدين» في ضخامة الانتاج وتوفّر عناصر الابهار، والأهم، الصراع المستميت على السلطة وسوى ذلك الكثير. قد يسعى منتجو المسلسل بعد أن يحقق نجاحا باهرا كما هو مؤمل، إلى تحويله إلى فيلم عالمي ضخم الانتاج ذي نهاية مفتوحة تتيح للمنتج تصنيع المزيد والمزيد من الأجزاء المتممة وجني المزيد من الأرباح أيضا، إذ كلما وصلت الحبكة الى مرحلة متقدمة في الصراع وظن الجمهور أن النهاية اوشكت، يفاجأ بمزيد من الأحداث أشد عنفا وضراوة وأكثر دموية من سابقاتها. أفلام لا نشاهدها بل نعيشها، تفوقت على أشهر أفلام الرعب العالمية بمراحل، فالغربان السود الذين اجتاحوا أرض السواد في الموصل وما جاورها من قرى مسيحية، زرعوا رعبا في نفوس البشر لم تقوَ (طيور) هتشكوك على الاتيان بنصفه، (درايكولا) نفسه إن بعث الآن من جديد مع نفر من عشيرته في هذه البقعة من العالم، ماكان ليفلح في سفك أنهار الدم التي أجرتها سكاكين قاطعي الرؤوس من داعش وسواها، ولوقف (فرنسيس كوبولا) عاجزا عن إخراج لقطة واحدة كتلك التي تصور الدواعش يلعبون كرة القدم برؤوس بشرية حقيقية جزَّت قبل دقائق عن رقاب أصحابها، أو تنفيذ مشهد قطع رأس الصحفي الامريكي ستيفن سوتلوف وقبله جيمس فولي (رغم الشكوك المحيطة بفلمي نحرهما المصورين على الطريقة الهوليوودية بتقنية فائقة الجودة). بل هل كان (الفك المفترس) ليستحق أن يسمى فيلم رعب وهو المحفوظ في مكتبة الكونغرس الامريكي ضمن الأرشيف الوطني كأثر ثقافي وفني وتأريخي أمام الرعب الذي عاشه الايزيديون في رحلتهم المأساوية من سنجار وما جاورها نحو الحصار في الجبل بعدما استشهد شبابهم وسبيت نساؤهم ومات من مات جوعا وعطشا وحسرة بعدما ألغيت عملية إجلاء من تبقى لقلة العدد؟ فيلم (اللعبة) ربما يكون الاكثر شبها بالواقع، سيما وأنه جاء في أكثر من جزء وكان بطله مرعبا رغم كونه مجرد (لعبة).
مدعو الفقه بالسيناريو المرسوم للمنطقة كثر، يلقون اتهاماتهم ذات اليمين وذات الشمال ونظرية المؤامرة في الغالب لها مكانة خاصة، فيما كثيرون يسألون عن مبررات صمت الكثير من الكتاب وأصحاب الرأي الذين كثيرا ما شغلوا مساحات واسعة سواء في الصحافة الالكترونية ام الورقية بكتاباتهم ومتابعاتهم وتحليلاتهم، وأين هم أولئك الساكتون عن النطق بالحق والمتوارون هنا وهناك، المتغاضون عما جرى ويجري وسيجري؟ لماذا لا يضعون النقاط على الحروف لاسيما في تأشير الخلل الذي أدى الى مآسي شعب العراق وتحديد المسؤولين من أصغرهم الى أكبرهم، لاسيما إن كانوا (الكتاب) خارج البلد آمنين على أرواحهم ورقابهم يدلون بدلائهم دون خوف أو وجل؟ لكن هؤلاء المتسائلين ربما لم يفهموا الأسباب وراء تريث البعض وتفكـّر البعض الآخر، نسوا أن الدروس والعبر المستقاة من الأفلام والمسلسلات كثيرة، وبعضها لا يأخذ موقعه لدى الجماهير عند العرض الأول، ولو أراد متابع أن يتعلم ويستفيد ويتفقه مغزى الأفلام والمسلسلات باختلاف أنواعها وأشكالها ومصادرها وجهات انتاجها، بما فيها تلفزيون الواقع، فعليه أولا أن يتابع السيناريو حتى أخره، إلى الحلقة الأخيرة أو حتى تظهر عبارة «النهايةEND « وبعدها أسماء الكادر العامل من كاتب السيناريو والمخرج والبطل وحتى أصغر عامل، فقبلها لن تكتمل الصورة ولن يكون الحدث مفهوما ولا المغزى واضحا و لا الحبكة مسبوكة كما يجب، متمنين الا يكون الفيلم ليوسف شاهين الذي يكاد يجمع كل من تابع أفلامه أنه دخل صالة العرض وخرج منها دون أن يفقه حرفا من المغزى حتى ولو كرر المشاهدة أكثر من مرة. فمن نطق عن الهوى دون فهم قد يتساوى مع من سكت وهو ينتظر فهم المآلات، «فالساكت عن الحق شيطان أخرس وكذا الناطق بالباطل شيطان ناطق» ولكنه في كلتا الحالتين شيطان.