تكاثر الصراخ من اطراف لم تفهم من مقال جواد بولس الا جانبه الضيق غير الجوهري. او فهمت وتريده ان يصمت.
في الحوار ( او الضجة اللاحوارية بمعظمها) حاول البعض ان يكسب مكانة لا تعكس حقيقة افكاره ونتائج افعاله، فجاء ردهم اشبه بهجمة سرفانتس البطولية على طواحين الهواء. كتبت موضحا في مقالي ( رد على الرد الذي اثاره مقال جواد بولس) اعماق المحنة للمسيحيين العرب في الشرق. لم يكن هدفي البكاء أو التباكي على الماضي ولم يكتب جواد بولس مقاله بهدف مماثل. انما من منطلق ايجاد حوار عقلاني يتناول الواقع البائس والرهيب الذي وقع ضد من بقي من مسيحيي الشرق في اوطانهم. لعلنا نعمق الوعي العام وننمي ما يوحد بيننا على حساب ما يفرق بيننا.
المشكلة في الزملاء الذين اغضبتهم مقالة جواد بولس بظن انها دعوة طائفية، او أغضبهم ردي لأنهم يريدون حصر الحوار حول مسالة ضيقة من موضوع وطني ملح. الموضوع ليس رئيس بلدية اطلاقا، جواد نجح في مقاله بلفت الانتباه ( الأصح بتفجير الدمامل)، لكن بعضهم ذهب الى استنتاجات ضيقة ومحدودة. الناصرة ليست هي المعيار للواقع المسيحي، هي نتاج لواقع أكبر من الناصرة، واقع يمتد على مساحة العالم العربي كله. حاولت بمقالي ان اعمق وضوحها. ان اوضح حقائق المحنة، لمن لا يتابع ما ينشر، فواجهت ردودا متسرعة من البعض فيها غضب واضح، كأن طرح الواقع المسيحي في الشرق ، ومحنتهم الرهيبة، يعتبر تعديا طائفيا. برز ذلك في ردود الأوساط المنتسبة لأجسام دينية سياسية.. وظهر في رد قُوى سياسية تسرعت في الرد باعتبار الموضوع جاء في وقت حملة انتخابات السلطات المحلية ، وجواد محسوب على قوى معينة، لذا سارعت تلك القوى في التنصل غير المبرر فكريا ولا سياسيا من مقال جواد، كأن جواد ينطق باسمها، وهو لا ينتمي اصلا لأي تيار سياسي، كونه يرى بتيار ما أفضلية عن التيارات الأخرى هذا لا يجعله عضوا في ذلك التيار ومنظرا له او خاضعا لرقابته؟!
جواد بولس هو انسان مستقل وهو سيد نفسه، ولا يُلزمْ بما يكتبه أي تنظيم سياسي او طائفة دينية او صحيفة حزبية ولا يملك اي طرف ان يفرض عليه رقابة فكرية او سياسية ، لم نعد في القرون الوسطى لنسوق جواد الى محكمة تفتيش وندينه كما ادين كوبرنيكيس الذي صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها فأعدمه الفاتيكان باعتبار اكتشافه زندقة!!
الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (القرن ال 17) قال: " لا اوافق على رأيك، لكني مستعد للقتال من اجل ان تقول رايك بحرية"، الا تشعرون معي ان ديكارت كان أكثر فهما وتحررا من اصحاب الردود على النقاش الذي اشعله جواد بولس قبل اسبوعين؟
ان من سارعوا بالتنصل والادانة وهم لا يملكون حق التنصل والادانة، تورطوا بموقف لم يطلبه احد منهم، هذا هو مرض الطفولة اليسارية بأقوى صوره. واضح ان الهدف اظهار عدم طائفيتهم، اذا كان الجمهور حسب ظنهم ينتظر ردهم على جواد ليثبتوا عدم طائفيتهم ، فنحن في حالة أكثر سوداء مما كنت اتوقع. كان عليهم ان يقولوا ان اراء جواد لا تمثلنا ، لسنا مسؤولين عما يطرح من اراء وكل كلمة اضافية تعتبر دفاعا يزيد الشكوك بانه تملص كاذب من جهتهم.
طبعا الأصح ان يقولوا كلمة حق قبل فوات الأوان!!
في هذا الخصوص فشل الجميع!!
لم يكن جواد بولس هو اول من اثار هذا الموضوع في الفضاء العربي. ان انكار محنة المسيحيين في الشرق هي جريمة بحق المسيحيين وبحق المجتمعات العربية. لا يمكن تجاهل تراث العنف والكراهية ونهج تاريخي تمحور في خط مقيت من الصراع ، التهميش، حرق المنازل ،الكنائس والمحلات، القتل والدموية. للأسف مجتمعنا لم يظل نظيفا من هذه الآفة!!
بالطبع لا اتهم المسلمين ، انما اتهم ذوي التفكير الأصولي الذي شوه الدين!!
مثلا في لبنان، تراجعت نسبة المسيحيين من 60% تقريبا قبل عام 1975 الى ما دون ال 25 % اليوم. الأهم ان نفوذهم السياسي تراجع، كيف تقلص عددهم؟ وزارة المغتربين اللبنانيين تقول ان عدد المهاجرين اللبنانيين من لبنان هو أكثر من 5 ملايين مواطن ، بينهم 3.5 مليون مسيحي.
لبنان كانت ملاذا في الشرق الأوسط للهاربين من القمع السياسي والفكري والثقافي والديني في دول الجوار.
ما هو حال لبنان اليوم؟ هل عاد لبنان كما كان ملجأ للهاربين من الاستبداد ام اصبح هو نفسه فوضى طائفية وتسيب طائفي مسلح لا يمكن ضبطه ولا تأمين سلامة الدولة اللبنانية والمواطنين اللبنانيين من الاستبداد الطائفي والسياسي المسلح؟ لذلك يهجر اللبنانيون وطنهم!!
في العراق انتشرت خفافيش الطائفيين بعد الاحتلال الأمريكي تحرق وتدمر محلات بيع الخمور التي يملكها المسيحيين ، دمر ما يزيد عن 200 محل وسقط قتلى، لا اعرف عدد القتلى من اصحاب هذه المحلات، ثم امتدت الاعتداءات على المسيحيات بحجة انهن غير محجبات، لا اكشف سرا بان كنائسهم حرقت وقتل المئات واضطر عشرات الألاف الى الهجرة عن وطنهم. هل اسمعونا الغاضبين من جواد أصواتهم؟!
في فلسطين كان عدد المسيحيين 17%من تعداد السكان، اليوم لا يتجاوز تعدادهم 1.5%. احياء كاملة افرغت من سكانها المسيحيين، في مدن عرفت بانها مسيحية مثل بيت جالا، بيت لحم وبيت ساحور، في القدس تراجع عدد السكان المسيحيين من 50% عام 1920 الى أقل من 5% اليوم. في غزة تسير المسيحيات محجبات خوفا من الاعتداء عليهن من المتطرفين. عائلات مسيحية كاملة هاجرت من غزة حتى في فترة الرئيس المرحوم ياسر عرفات بسبب ما تعرضوا له هم ومحلاتهم من اعتداءات وحرق ودفع الخاوة لرجالات من التنظيمات الدينية. لا اتحدث عن معلومات صحفية، اتحدث عن اقارب تربطني بهم علاقات نسب.
كشف الاعلام المصري بجرأة يشكر عليها وضع الأقباط بعد الاطاحة بالرئيس مرسي، هل الثورة التصحيحية كانت قبطية ام ثورة كل الشعب المصري ضد حرف الثورة عن اهدافها الوطنية؟
المعارضون لاسقاط مرسي وجهوا حرابهم وحقدهم ضد الأقباط وكنائسهم. هل الحديث عن مشكلتهم في مصر يعتبر طائفية؟ قرارات وزير الدفاع السيسي بترميم ما حرق وهدم من كنائس، تشير الى تحول هام نرجو ان يتطور، ربما السيسي ايضا طائفي مثل جواد بولس.. لكنه ليس قبطيا. ما العمل ؟! هل نتهمه بالردة؟
اوضاع المسيحيين المتردية في الشرق لفتت انتباه شخصيات عربية كثيرة لمحنتهم، المفكر والكاتب المصري فرج فودة دفع حياته ثمنا لدفاعه عن المسيحيين.
الأمير طلال بن عبد العزيز نشر مقالا في النهار اللبنانية عن "بقاء المسيحيين العرب" جاء فيه: " ان ما يحدث للمسيحيين العرب نتاج بيئة تفترش التعصب والتطرف وبالتالي العنف المؤدي الى كوارث تاريخية والأهم من ذلك كله على فكرة الغاء ألآخر ، ان بقاؤهم ( يعني المسيحيين ) ترسيخ للدولة العصرية والتنوع الثقافي والتعددية وللديموقراطية ولمنع استنزاف الطاقات العلمية والفكرية والثقافية من منطقتنا ، وهجرتهم ضربة عميقة توجه الى صميم مستقبلنا."
الصحفي المصري المعروف محمد حسنين هيكل كتب عن نفس الموضوع :" أشعرـ ولا بد ان غيري يشعرون، أن المشهد العربي كله سوف يختلف حضاريا وانسانيا وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقرا وأقل ثراء، لو ان ما يجري الآن من هجرة مسيحيي المشرق ترك أمره للتجاهل او التغافل أو للمخاوف . أي خسارة لو أحس مسيحيو المشرق انه لا مستقبل لهم ولأولادهم فيه. ثم بقي الإسلام وحيدا في المشرق لا يؤنس وحدته غير وجود اليهودية – بالتحديد أمامه اسرائيل."
يكتب جلال أمين وهو عالم اقتصاد وأكاديمي وكاتب مصري وهو ابن الكاتب المصري أحمد أمين:" اصبح واضحا كالشمس ان قضية المسلمين والأقباط ليست قضية دينية، انما هي قضية تثير كل قضايانا في نفس الوقت، التعليم ، الحرية، العقلانية، العدالة، الأخلاق، التنمية والتبعية. اذا كان هذا صحيحا ، فانه يصبح أيضا واضحا كالشمس ، ان تحرير الأقباط هو شط ضروري لتحرير المسلمين."
كتب طارق حجي وهو كاتب ومفكر ليبرالي من مصر :" الأقليات في الشرق الأوسط هي الموصل لعدوى التقدم والتحديث والسير مستقبلا."
في اقوال تلك الشخصيات نشهد طرحا عقلانيا، لا ينحو نحو اتهامات طائفية لمجرد صرخة متألم ، او مجموعات تبكي واقعها وهي تواجه التدمير المخطط. لم يُتهم الأمير طلال بالطائفية او بالردة الدينية لأنه حذر من خطر هجرتهم على المجتمعات العربية، ومحمد حسنين ايضا لم يتهم بانه عميل للأقباط ، وطارق حجي لم يقل جملته لأنه ينوي تغيير دينه.. اما جواد بولس فعليه الصمت لأنه يتكلم باسم الضحية.
ما امسك به الجميع من مقال جواد " الناصرة اخت لبيت لحم". انحصر بانتخاب رئيس مسيحي للناصرة او غيرها كان هذا سيحل مشكلة ما يواجهه المسيحيون العرب . هذا يذكرني بما قاله كاهن كاثوليكي من "الكنيسة الصامتة" في بولونيا عندما سؤل بعد انهيار النظام الاشتراكي، هل ما زالت الكنيسة الصامتة قائمة؟ اجاب الكاهن بغضب:" ليست هناك كنيسة صامتة، لكن انتم في الغرب الصامتين عما كنا نواجهه!!"
لماذا يجب ان يصمت جواد بولس؟!
مقالات اخرى للكاتب