سنن الله تعالى في خلقه، سنن ثابتة لا تتبدل، أفرزت عناصر ومعادلات ومباني محسوسة، هي التي يعبر عنها «بالتفسير الإسلامي للتاريخ». وهذا التفسير له تجسيدات ومصاديق في تاريخ الإسلام وواقعه. ويقف التفسير العاشورائي للتاريخ في مقدمة هذه التجسيدات، إذ بقيت معادلاته تحكم مساحات كبيرة من الواقع الإسلامي، منذ ثورة الإمام الحسين(ع) وحتى الآن.
نهضة الحسين : إنسانية عالمية
بين عاشوراء 61هـ اليوم الذي شهد الفصل الأكثر دموية ومأساوية في نهضة الإمام الحسين. وعاشوراء اليوم الذي نعيشه. ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن من الزمن. استمرت نهضة الحسين بجميع عناصرها ومعادلاتها وأهدافها. على الرغم من تغير الأشخاص واختلاف المشاهد. وكأن ذلك الزمن الطويل يشكل يوماً واحداً. فنهضة الإمام الحسين(ع). على وفق التفسير العاشورائي للتاريخ. لا تخضع لظروف الزمان والمكان. أي أنها عالمية على المستوى الجغرافي، وممتدة على المستوى التاريخي.
لقد تشربت نهضة الحسين فكر التوحيد. وجعلت من كربلاء مركزاً يحمي التوحيد الخالص. ومركزاً للتضحية من أجله. فعلى مر القرون ظلت كربلاء تضحي. لتزداد مكة شموخاً.
النهضة الحسينية لم تأت بشرعة جديدة أو سنة مبتدعة. وإنما بلورت مفاهيم الصراع التاريخي بين الحق والباطل. هذه الثنائية الممتدة منذ عصر آدم(ع)، بين هابيل وقابيل، بين نوح وقومه، إبراهيم ونمرود، الأنبياء وبني إسرائيل، موسى وفرعون، رسول الله وقريش، علي ومعاوية، وحتى الحسين ويزيد: أنها ـ في حقيقة الأمر ـ سنة الله في خلقه.. (سنّة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً).
ثوابت كربلائية
تمثل كربلاء البعد المكاني في نهضة الحسين. فهي الأرض التي نقف عليها. ويمثل عاشوراء البعد الزماني، فهو الزمن الذي نعيشه. إن كربلاء هي كل أرض المسلمين على امتداد ثلاث قارات، وكل أرض يوجد فيها المسلمون، إذ لا زالت هذه الأرض تنزف، كل جزء منها ينزف، تنزف دماً ودمعاً ومداراً، دون أن تجف دماؤها أو يجف دمعها ومدادها، منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن؛ لأن الدماء والدموع والمداد هي إرث المسلمين من عاشوراء وكربلاء، وهو إرث المقاومة الأقوى والأكثر تأثيراً في واقع الحياة، حتى يرث المستضعفون الأرض وما عليها.
ولكي تكون أكثر اقتراباً من الواقع، نشير إلى بعض الثوابت الأساسية في المعادلة العاشورائية، لتبرز المصاديق من خلال ذلك بسهولة:
1 ـ في كل زمان ومكان، هناك من يمثل الرمز والمشهد في النهضة الحسينية، أي كلا طرفي المعادلة، سواء تمثل الرمز في شخص أو جماعة أو سلطة، وسواء كان المشهد في بعضه أمتار من الأرض ـ زنزانة مثلاً ـ أو في دولة بأكملها.
2 ـ إن طرفي المعادلة العاشورائية يمثل أحدهما الحق والشرعية، والآخر الباطل واللاشرعية، وحولهما يلتف الأتباع والأنصار وبينهما يقف المتفرجون والمحايدون ـ سلباً ـ والمستفيدون.
3 ـ تقف كربلاء دائماً خارج أطر اللعبة الدولية، فلا تصلها ـ على سبيل المثال ـ شرعة حقوق الإنسان، ولا كل القوانين التي يتشدق بها بنو البشر أي أنها تعيش المظلومية والمقاومة الاستشهادية بكل أبعادها.
فبقاء كربلاء ـ أرض المسلمين ـ نازفة. هو إنجاز توارثية الأنظمة الطاغوتية، المحلية منها والعلنية، فالاستكبار العالمي، ومعه عملاؤه وامتداداته المحلية، يمثلان أحد طرفي المعادلة العاشورائية، أما الطرف الآخر، فهم أتباع محمد(ص)... من موريتانيا إلى أندونيسيا، ومن البوسنة وحتى موزمبيق، وإذا أردنا أن نعيش قضايانا في هذه المرحلة، ونحللها في ضوء عاشوراء، فسنرى أن الثوابت ـ التي ذكرناها ـ حاضرة في تلك القضايا بكل وضوح.
إن الشعارات أو التهم التي يرددها المستكبرون وعملاؤهم في هذه المرحلة هي إنتاج متكرر، أفرزته العقلية الاستكبارية الغربية منذ قرون بعيدة، وبلورته المنظمات الاستشراقية في صيغ معروفة، وأبرزها: أن المسلمين إرهابيون، متوحشون، متمردون، لا عقلانيون، متخلفون، شهوانيون، يسعون للحصول على أسلحة الدمار الشامل، ويطمحون لبناء قوة عالمية مستقلة، ومن هنا فلا بدّ من محاضرتهم سياسياً واقتصادياً، وإعاقة مشاريعهم التنموية، واستلابهم عقائدياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وتجويعهم وإذلالهم وإركاعهم، وبث الفرقة والشقاق والنفاق بينهم، وضربهم بقوة، وأعمال السيف فيهم (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّونكم عن دينكم ان استطاعوا).
بين الثقافتين اليزيدية والحسينية
أفرزت ثورة الحسين(ع) ثقافة ومدرسة متكاملة في معالمها ورموزها وعناصرها وأساليبها وأهدافها. وهي ثقافة إسلامية أصيلة، تشكل القاعدة التي يقف عليها التفسير العاشورائي للتاريخ.
«إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحط الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم. ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله».
بهذا الحزم العقائدي، رد الإمام الحسين(ع) على الوليد بن عقبة، والي يزيد على مكة، حين طلب منه مبايعة يزيد بن معاوية على الخلافة، فقد أوضح من خلال كلمته أنه ويزيد مدرستان وثقافتان متضادتان، لا يمكن أن تلتقيا، كما بين المعالم الرئيسية لكلتا المدرستين.
فالمدرسة أو الثقافة الحسينية ـ كما ورد في كلمة الإمام الحسين ـ تتميز بأنها ثقافة:
1 ـ أهل بيت النبوة. 2 ـ معدن الرسالة. 3 ـ مختلف الملائكة. 4 ـ بها فتح الله وبها ختم.
وأما معالم المدرسة اليزيدية:
1 ـ الفسق وإعلان الفسق. 2 ـ شرب الخمر. 3 ـ قتل النفس المحترمة.
فهما ـ إذن ـ تياران حضاريان مختلفان ومتضادان، الأول ولد في رحم الرسالة، ترعرع في أحضان النبوة. ثم تجسدت فيه مدرسة الإسلام الأصيل، إذ أفرزت المدرسة الحسينية ثقافة عاشوراء التي هي خلاصة لثقافة الإسلام. أما التيار الثاني، فقد انبثق من بين ركام الكفر والجاهلية، وترعرع في أحضان الانحراف. وتبلور في أبناء الطلقاء ومن أباح الرسول(ص) دماءهم، ويمثل الاتجاه الأكثر عداءً للإسلام، والأكثر شراسة ضد رموزه، قبل وفاة الرسول(ص) وبعده.
ثم أعطى الإمام الحسين(ع) بقوله: «ومثلي لا يبايع مثله». قاعدة عقائدية وفقهية ثابتة، وهي أن المدرسة الأولى (الحسينية) لا يمكن أن تبايع المدرسة الثانية (اليزيدية) أو تقدم لها فروض الطاعة أو تنصاع لأوامرها، بل تعمل وفق ما تمليه عليها الشريعة الإلهية.
بيد أن المفارقة الكبرى تكمن في أن المدرسة اليزيدية استولت على السلطة باسم الإسلام، وعزلت المدرسة الحسينية عن موقعها الشرعي، وصورتها بأنها خارجة على الخلافة؛ ولا تزال كثير من العقول تفكر بهذه الطريقة المعكوسة؛ الأمر الذي تعده حقا لها في ضرب وقتل وانتهاك حرمات من يعتقدون إن الحسين هو تجسيد الإسلام وإن يزيد هو نموذج الكفر بالإسلام !!
مقالات اخرى للكاتب