لو كان الإمام الحسين (ع) غير متيقن من صحة صدور الرسائل التي أرسلها إليه أهل الكوفة ، لما أرسل أخاه وأبن عمه الإمام مسلم بن عقيل (ع) إليهم .
ولو كان الإمام الحسين (ع) غير واثق من صحة صدور الرسالة التي وصلت إليه من الإمام مسلم بن عقيل (ع) ، لما جاء بعياله وأطفاله معه إلى الكوفة .
ولو كان الإمام الحسين (ع) جاء لكي يعلن انتحاره على أرض كربلاء ، لما أجازت له السماء أن يكون سبباً لذلك ، أو ما ذنب عياله بنتائج وويلات هذا الإختيار.
ولو كان الإمام الحسين (ع) طالباً للحكم ، لطلبه على مكة أو المدينة أو اليمن .
ولو كان الإمام الحسين (ع) هارباً .. خائفاً من بطش يزيد بن معاوية ، لسكت.
ولو كان الإمام الحسين (ع) متردداً ، لرجع من منتصف الطريق ، عندما أخبروه بمصرع مسلم بن عقيل ، وقلوب أهل العراق معه وسيوفهم عليه .
والحالة هذه ؛ فقد وصلت رسائل الكوفيين الداعية لقدومه (عليه السلام) :
((أما بعد .. فالحمد لله الذي قصم ظهر عدوك الجبار العنيد ـ يعني يزيد ـ الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزها واغتصبها وتآمر عليها بغير رضىً منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود.
انه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعه ولا نخرج معه إلى عيد ولو بلغنا انك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته)).
(( أما بعد .. فحي هلا ؛ فإنَّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم غيرك فالعجل ثم العجل والسلام ))
(( أما بعد .. فقد اخضرت الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام فأقدم على جند لك مجندة والسلام))
(( إنا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة فأقدم علينا فنحن في مائة ألف سيف فقد فشا فينا الجور وعمل فينا بغير كتاب الله وسنة نبيه ونرجو أن يجمعنا الله بك على الحق وينفي عنا بك الظلم فأنت أحق بهذا الأمر من يزيد وأبيه الذي غصب الأمّة وشرب الخمور ولعب بالقرود والطنابير وتلاعب بالدين)).
الذي رد عليهم بواسطة سفيره الإمام مسلم بن عقيل(ع) :
(( من الحسين بن علي إلى من بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته في الكوفة سلام عليكم أما بعد:
فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبتكم بقدومي عليكم وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ليعلم لي كنه أمركم ويكتب إلي بما يتبين له من اجتماعكم فإنْ كان أمركم على ما أتتني رسلكم أسرعت بالقدوم إليكم والسلام )).
ردَّ الإمام الحسين (ع) على والي المدينة عندما عرِض عليه مبايعة يزيد ، قالاً :
((أيها الأمير! إنّا أهل بيت النبوة...ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن للفسق، ومثلي لا يبايع مثله)) ـ بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج44 ص325
((ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله)) ـ تاريخ الطبري ج4 ص304
((وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه، فإنّ السنّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت)) ـ تاريخ الطبري ج4 ص266
((ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، والى الباطل لا يُتناهى عنه)) ـ مثير الأحزان لابن نما الحلي ص31
((وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي)) ـ بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج44 ص330
خطاب الحسين (ع) أمام أول كتيبة للجيش الأموي بكربلاء ...
((أيها الناس! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلا لحرام الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنة رسوله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله))
وبعد استشهاده(ع) ...
فقد وقفت زينب (عليها السلام) في أهل الكوفة حين احتشدوا يحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسبايا، ويبكون ندماً على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّ (صلى الله عليه وآله) فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا فقالت :
أما بعد :
يا أهل الكوفة أتبكون ؟ فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرّنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون، أي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها فلن ترحضوها بغسل أبداً، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة، ومعدن الرسالة ومدار حجّتكم، ومنار محجّتكم، وهو سيد شباب أهل الجنّة؟.
ثم خطبت أم كلثوم بنت علي عليهما السلام في ذلك اليوم من وراء كلتها، رافعة صوتها بالبكاء، فقالت : ))يا أهل الكوفة، سوءاً لكم، مالكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وانتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نساءه ونكبتموه؟! فتباً لكم وسحقاً. ويلكم، أتدرون أي دواه دهتكم؟ وأي وزر على ظهوركم حملتم؟ وأي دماء سفكتموها؟ وأي كريمة اهتضمتموها ؟ وأي صبية سلبتموها؟ وأي أموال نهبتموها؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى الله عليه وآله، ونزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إن حزب الله هم الغالبون وحزب الشيطان هم الخاسرون((.
وتكلم عليّ بن الحسين (عليهما السلام) فقال :
((أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله، أنا ابن من قتل صبراً وكفى بذلك فخراً. أيها الناس، ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟! فتباً لما قدمتم لأنفسكم وسوءاً لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي )) .
فارتفعت أصوات الناس من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون .. فقال: ((رحم الله امرئً قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فان لنا في رسول الله أسوة حسنة)).
أيها الناس! ناشدتكم الله، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتباً لكم لما قدمتم لأنفسكم وسوءة لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمّتي . ــ حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) : 3 / 341 ـ مثير الأحزان
من هنا ؛ يتضح لنا بأنَّ على من يدرس قضية عاشوراء الحسين(ع) ، أن يقف عند تداعيات جوهرية لا يمكن الحيود عنها ، أو الحيلولة دونها ، ومن أبرزها ؛ أن الإمام الحسين(ع) مسؤولٌ مسؤولية شرعية عن استمرار حياته ، فهو الامتداد الرسالي بعد جده وأبيه وأخيه الإمام الحسن(ع)، فالإمامة أصل من أصول الدين ،حسب الرؤية الشرعية العقائدية لمذهب آل البيت عليهم السلام ، وعندما تكون أصلاً ـ لا فرعاً ـ فهي مسؤولية عقائدية بأمر الله تعالى ونبيه الكريم (ص) ، فكيف يقدر إمامٌ كالحسين(ع) أن يفرّط بأصل من أصول دينه ، وهو الذي ما فرّط بفروعه في أعصب الظروف ، عندما أدّى صلاة الظهر في وطيس الحرب واعتراكها على رمضاء كربلاء .
وعندما يكون الإمام الحسين (ع) مسؤول مسؤولية ربانية عن حياته أمام الأمّة ، فهو مسؤول مسؤولية عقائدية عن صيانتها ، لأنها ـ أي حياته ـ تعني ؛ وجود حياة قائدة للأمّة ، وأنَّ موته (ع) يعني انطفاء هذه الحياة عن الأمّة ، وأنَّ الأمّة الإسلامية لا تسير سيرة ربانية قويمة دون وجود قائد رباني يقودها ، ويعدّل المنحرف في مسيرتها، وإلا لما أطال الله عمر نبيه نوح(ع) ، ولما أحيى العزير(ع) بعد موته ، ولما خلق نبيه عيسى(ع) من شبه العدم، ولما جعل النار برداً وسلاماً على نبيه إبراهيم (ع) ، ولما أمدَّ عمر الإمام محمد المهدي بن الحسن العسكري(ع) ثاني عشر أئمة أهل البيت (ع).
من هنا أيضاً ؛ يتأكد بأنَّ الإمام الحسين(ع) لم يأتِ إلى الكوفة كي ينتحر، ولم يأتِ إلى الكوفة طالباً الحكم ، ولم يأتِ إلى الكوفة هارباً من بطش يزيد، ولم يأتِ إلى الكوفة دون تكليف رباني فوضّه الله به على أرض كربلاء .
القراءة الجديدة التي يجب أن نتأكدها ؛ إنَّ الإمام الحسين (ع) وجد في الكوفة أنصاراً لإقامة دولة العدل الإلهي ، فجمع أصحابه وعياله وإخوانه معه ، وسار بهم جميعاً من المدينة المنورة إلى الكوفة، لأنه على يقين بأنَّ الواجب الشرعي يحتم عليه الاستجابة إلى حضور الناصر وقيام الحجّة ، وهما أمران جعلا أباه علياً (ع) يستجيب إلى مبايعة الأمّة بهما، فكانت خلافته عليه السلام .
إنَّ الجذور التربوية لدى أهل الكوفة التي بذرها علي(ع) على تراب العراق وأديم الكوفة .. عاصمة الخلافة الإسلامية ، تؤهل الإمام الحسين (ع) أن يطمئن إن لم يستيقن بصحة صدور رسائل أهل العراق من الكوفيين.
لو كان الهدف الحسيني ؛ هو إعلان الثورة على يزيد حسب ، لأنه انحرف عن الإسلام الصحيح .. وإنه خليفة لا يستحق أن يخلف رسول الله (ص) لثار عليه الإمام الحسين(ع) من أي بقعة على أرض الأمّة الإسلامية ، والمأساة التي ينوي عليها الأمويين بحق الطالبيين ، هي حتماً ذات المأساة .. سوف يقتل يزيدُ الحسينَ .. سوف يمنع عنه وعن عياله الماء .. سوف يحرق خيامه .. سوف يسبي عياله .. سوف يقتل أصحابه الذين هم معه دائماً ، وفي أي مكان وزمان ، سوف يُذبح عبد الله الرضيع(ع) ، سوف يُسار بالسبايا من منطقة الثورة .. سواء كانت كربلاء أو اليمن أو المدينة أو مكة نحو شام يزيد .
التداعي الموضوعي لنهضة الإمام الحسين (ع)، إنه يجب أن يرفض الإمام الحسين (ع) نظرية الحكومة الأموية .. يجب أن يعلن للأمّة والعالم ، أنَّ يزيد كافر فاجر ، وهو لن يبايعه .. يثور عليه وعلى حكمه .. يحاربه حتى وإن كلّف ذلك حياته ، لكن ؛ الذي يجب أن نقف عليه ؛ إنَّ الإمام الحسين (ع) لم يكن مفرّطاً بعياله وأطفاله في ثورته على يزيد ، عندما اصطحبهم معه من المدينة المنورة إلى الكوفة ، بل ؛ إنهم جاءوا معه، لأنهم جميعاً يأملون إقامة دولة الحكم الإلهي في العراق ، كما أقامها أبوهم علي(ع) عليها من قبل ، وهو أمر ليس ببعيد . ولو كان أهل اليمن قد دعوه ، ولم يدعه أهل العراق ، لأعلن ثورته ونهضته هناك ، ولأصطحبهم معه أيضاً ، ولكانت حضرموتُ كربلاء .
الإمام الحسين (ع) إنسان مَرّة ، وإمام مَرّة .. الإمام الحسين(ع) شخصية عقائدية رسالية مبدئية .. تتحسس ما يتحسسه الثوّار .. يتألم كما يتألم الأباة ، إلا أنه لا يطمح كما يطمح البشر العاديون ، إنه يطمح بطموح الله ، ويهدف إلى ما يهدف الله ، ويريد ما يريد الله.
الإمام الحسين إنسان معصوم ، وهذا لا يعني أننا لا نستطيع أن ننجز ما أنجزه الحسين (ع) ، حتى جده رسول الله (ص) إنسان ..( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق..) ـ الفرقان ـ7..( وما أرسلنا من قبلك من المرسلين ، إلا إنهم لـَيأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ..)ـ الفرقان ـ 20
لقد جعل الله الرسل والأنبياء والأوصياء من البشر ولم يجعلهم من الملائكة ، كي يكونوا أسوة لبني البشر ، كي تكون حجة على البشر ، بأنَّ هؤلاء بشر عصموا أنفسهم عن الخطأ فعصمهم الله عن الخطيئة .
علينا إذن ؛ أن لا نغالي في قضية الإمام الحسين(ع) .. علينا أن نوضّح للعالم بأنَّ الإمام الحسين(ع) عبد من عباد الله .. وليٌّ من أولياء الله .. وصيٌّ من أوصياء رسول الله (ص)، تعلم فن المبارزة بالسيف ، وتعلم مهارة ركوب الخيل ، وتعلم العقيدة من مناهلها الزاكية .. أبيه وأمِّه وجده رسول الله (ص) حتى صار بطلاً إسلامياً وثائراً رسالياً ، ورمزاً إنسانياً ، واجه الباطل ودحض نظريته الضالة في الحكم الظالم ، ودعا الأمّة المسلمة إلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، إنَّ الباطل كان زهوقا.
لنتعلم من نهضة الإمام الحسين(ع)..من ثورة الإمام الحسين(ع)كيف نكون مظلومين فننتصر. ولنعتبر من نهضة الإمام الحسين(ع) إننا يجب أنْ لا نكون سبباً غير موضوعي،وغير مقتدرين على طرح شعارات النهضة والثورة،مالم نكن ناصرين لها حقاً!
عليه ؛ يجب علينا ـ من اليوم ـ لو أعلنا نصرتنا لظهور الإمام المهدي (ع) أنْ لا نعلنها ، مالم نكن بمستوى النصرة الحقيقية الظافرة ، وإلا سوف لن ينتصر المهدي المنتظرُ بنا ، وإن كان منصوراً ومؤيداً بالله تعالى حتماً وقدراً ربّانياً في يوم الفرج الموعود .