القضيّةُ التي لا يمكن لأيّ مُنصِفٍ نُكرانُها، أنّ مؤسسات الدّولة العراقيّة، لمْ تكُن بمستوى المرحلة السّياسيّة التي يمرّ بها العراق، بعد سُقوط النظام الشمولي. فلمْ تستطع هذه المؤسسات، تحقيق الحدّ المطلوب من التشريعات أو الخدمات أو القوانين، التي تجعل الفرد والمجتمع يتذوقان طعم التغيير، الذي حصل في البنية السّياسية لمنظومة الحكم في العراق. ومن الانصاف أنْ نقرّ، بأنّ قطاعات كبيرة من الشّعب العراقي، في جنوب ووسط وغرب العراق، قد أصابها الكثير من الحيّف، جرّاء تلكؤ أجهزة الدّولة المختلفة، في حسم الكثير مِن المشاكل، التي ظلّت مركونه أو مؤجلة، بطريقة يغلب عليها حالة اللامبالاة، أو التسويف في التنفيذ، او التأجيل في اتخاذ القرارات الجديّة، وبالنتيجة تضررت مصالح المواطن العراقي.
وظلّت حالة الإحباط تلازم المواطن بصورة مستمرّة، على مدار عقد من الزمن على أقل تقدير. ومثلما ارتَكَبَت مؤسسات الدّولة، الكثير من الأخطاء، ارتَكَبَ المواطن الكثير من الاخطاء أيضاً. بسبب سكوته المستمر واعتماده كلياً، على منهج خاطئ، هو الصبر على المكاره، لعلّ وعيسى أنْ يتغيّر الحال نحو الأحسن. هذا السكوت وعدم المطالبة بالحقوق، أراح كثيراً مسؤولي أجهزة الدّولة المختلفة، الذين تمادوا بشكل كبير، في هدّر حقّ المواطن والتّجاوز عليه.
هذه العلاقة المُشوّشة والمُرتبكة، بيّن مؤسسات دوّلة ديمقراطيّة، وبيّن مواطنيها، الذين ضَمِنت لهم القوانين والتشريعات حقوقهم المشروعه، هيّأت أرضيّة خصبة، نمت عليها مشاريع دول إقليميّة معروفة، تستشعر عدم الارتياح من وجود نظام ديمقراطي في المنطقة. ومن المؤسف أنّ الحكومة العراقيّة والمجلسين التشريعي والقضائي، ظلّت مؤسسات بيروقراطيّة ضمن إطار برجوازي مُترَف، لا تدرك أخطار مرحلتها، ولا تعرف أيضاً كيّفية التّعامل مع هذا الواقع المعقّد.
بالمقابل نجحت دُوَل الإقليم، باختراق أجهزة الدّولة العراقيّة، وفي الكثير من مفاصلها الحيويّة. وعملت بشكل فاعل، في إطالة مدّة تعويق منجزات الدّولة، وحرمان المواطن من أيّة فائدة تذكر، على صعيد متطلّباته الضروريّة والمُلِحّة. وكان الإرهاب الوسيلة الأكثر نجاعة، في تحجيم وإرباك عمل مؤسسات الدّولة. كما أنّ الإرهاب أمّنَ غطاءً جيداً يحتمي تحته، جميع المفسدين وسُرّاق المال العامّ. فنتجت علاقة تعايشيّة جديدة، يؤمّنها الإرهاب للمفسدين والمتلاعبين بمقدرات الشعب، على نسق تبادل المنافع بيّن الطرفين. ولم تستطع مؤسسات الدّولة، من المبادرة لكسر هذه المتلازمة الرتيّبة، عن طريق تقديم منجز ملموس، يحسّ به قطّاع من قطاعات الشّعب، حتى وإنْ كان صغيراً في حجمه على أقلّ تقدير.
هذا الاسفاف في اهتضام حقوق المواطنين، ولّدَ حالة مِن الإحباط الكبير، داخل نفسيّة الفرد العراقي. وهذا الاحباط النفسي، سيّطر بشكل مأساوي على الشّعور الداخلي للفرد والمجتمع، وأخذ يترك عليهما، بصماتٍ واضحة جداً، من حالات الاكتئاب والتذمّر. ومن هنا نلاحظ الحجم الكبير لليأس، الذي أضحى مسيطراً على نفوس الكثير من أبناء المجتمع العراقي. وهذه نتيجة جانبيّة يجب الانتباه إليها، من قبل أهل الحلّ والعقدّ، قبل أنْ تتحوّل إلى مشّكلة اجتماعيّة يصّعب السيّطرة عليها مستقبلاً.
وجاءت عمليّة اعتقال حماية السيّد رافع العيساوي، على خلفيّة قضيّة جنائيّة، لتكون بمثابة فرصة بيَدِ صُنّاع الأزمات، لتفجير حالة الصّراع بيّن المكوّنات السّياسيّة. ومِن ثمّ الانتقال بهذا الصّراع، من صفحته الضبابيّة المخفيّة نوعاً مّا، إلى صفحته العلنيّة المباشرة والتي ستكون، بيّن المكوّنات الرئيسيّة للشّعب العراقي. نعم الصّراع بيّن السّياسيين كان كالنار تحت الرماد، لكن أصبح الآن ناراً تسّتعر، وهي على أتمّ الاستعداد لحرق الأخضر واليابس.
ومرّة أخرى فشلت الأطراف الحاكمة، في استيعاب الأزمة، بالرغم من تدخل بعض الأطراف لاحتوائها، كمبادر السيّد صالح المطلك الذي ذهب بتاريخ 30/12/2012، إلى محافظة الأنبار، للقاء المتظاهرين والتعرف على مطالبهم، بيّد أنّ موكبه تعرّض للاعتداء من قِبَل بعض المتظاهرين، إمعاناً منهم في تأزيم الوضع. إنّ حجم الأزمة المخطط لها، أكبر من جهود السّياسيين وإدراكهم وتصوّراتهم أيضاً. و السيّد المالكي ترك الأمور، تسيّرها أو توجهها خطابات السيّد اسامة النجيفي وأثيل النجيفي، وأحمد العلواني و ياسين مجيد وعباس البياتي وعزة الشابندر وغيرهم. ولم يكنْ السيّد رئيس الحكومة، ذا دور فاعل في توجيه الأزمة نحو الحلّ بسرعة، كما هو مطلوب منه كرجل دوّلة حصيف، يسيّطر على أدوات إدارة الدّولة.
لقد تُر كت جماهير الأنبار والموصل وتكريت وسامراء، لتؤثر عليها إنْ لمْ أقل تقودها، عناصر تريد حرق الشّعب العراقي بنار الحرب الطائفيّة. ومن المؤسف أنّ الشعارات الناريّة، انبرى للمطالبه بها بعض رجال الدّين المتشنّجين، في تلك المناطق. صحيح أنّ الحكومة نبّهت الشّعب، مِن مغبّة اشتعال نار الفتنة الطائفيّة، لكن كان ذلك على مستوى الخطاب الإعلامي فحسب. في حين كانت المرحلة، تحتاج إلى تدخل مباشر، وبشكل سليم وحكيم أيضاً، لحلّ الأزمة.
والمُلفت للنظر أنْ نجحت جهات سياسيّة، من توّظيف مشاعر قسم من الجماهير المحتجّة لصالحها. ففوّض هذا القسم من المتظاهرين أمورهم لتلك الجهات، مما أدى إلى رفع شعارات، تتعارض مع مواد القانون وشرعيّة الدّستور. وتحت تأثير ردّة الفعل المعاكس، احتقنت جماهير الوسط والفرات الأوسط والجنوب، لكنّها حرصت على التأكيد بشكل مركّز، على إخماد فتيل الحرب الطائفيّة البغيضة، التي كادت شرارتها أنْ تُقدَح، لكن الله تعالى وقى الناس شرّها.
ولمْ يبقَ أمام مخططي احراق العراق، سوى اختيار أهداف تكون بمثابة الشرر، الذي يشعل النّار في الهشيم. وحانت ساعة الصفر، لتنفيذ مخطط اشعال الفتنة الطائفيّة. فوقع الاختيار على اغتيال النائب عيفان العيساوي، في يو 15/1/2013، وقبل ذلك بيوم، تعرّض السيّد رافع العيساوي لمحاولة اغتيال، في منطقة أبي غريب. وفي ذات اليوم 14/1/213 اغتيل في الموصل الشيخ محمد طاهر العبد ربه، شيّخ عشيرة الجبور في نينوى.
هذه الأحداث المترابطة فيما بيّنها، تقودُنا بشكّلٍ منطقي، للتفكير جدياً بالنقاط التاليّة:
1. على ضوء المنطق العشائري السّائد، أنّ الشهيد عيفان السعدون، مِن نفس العشيرة التي ينتمي إليها السيّد رافع العيساوي، وهذا الاغتيال سيكون سبباً مباشراً لتأجيج الفتنة الطائفيّة، أو التهيأة لها مستقبلاً.
2. المنطقة الغربيّة مرّت بعمليّة شحن طائفي قويّة، لكنْ تدَخُل أهل الحكمة والعقل الرشيد، من أعيان محافظة الأنبار، وعلى رأسهم الشيّخان الجليلان عبد الملك السعدي والدكتور أحمد الكبيسي، حطما حلقات مخطط الفتنة الغاشمة. فهذه الشخصيّات وشخصيّات تقابلها، في مناطق الوسط والفرات الأوسط والجنوب، تمتلك مفاتيح الحلّ، أكثر من امتلاك السياسيين لهذه المفاتيح.
3. بعدما نَفَضَ أعداء الشّعب العراقي، أيديهم من قَدحِ شرارة الحرّب الطائفيّه، عن طريق شحّن المتظاهرين. أخذت خطط الأعداء تتجه لتنفيّذ عمليات الاغتيال، بالطريقة المعروفة لتنظيم القاعدة، لدفع تداعيات الأمور إلى طريق اللارجعة.
4. في نفس الوقت الذي اغتيل فيه الشهيد عيفان العيساوي، وهو عصر يوم الثلاثاء 15 كانون الثاني2013، حدثت ثلاثة تفجيرات في مدينة الكاظميّة المقدسة. وهذا التزامن الدّقيق في التّوقيت بيّن الحادثين، يعكس الأبعاد العميقة لدوّر المخطط المعدّ سلفاً، لإشعال الحرب الطائفيّة في العراق.
ليكنْ دَمُ الشهيد عيفان العيساوي، و دَمُ الشهيد الشيخ محمد طاهر العبد ربه، غيثاً طيباً وماءً طهوراً، يطفئ إوار الفتنة الطائفية بيّن أبناء الشّعب العراقي، كما كان كذلك، دَمُ الشهيد الشيخ عبد الستار ابوريشه، وغيره مِن شهداء العراق الأبرار. وليصمُد العراقيّون، أمام هذه التحديات التي لا تُريدُ بهم، إلاّ الشّر والدّمار. تغمد الله تعالى كلّ شهداء العراق الأحرار، برحمته الواسعه، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.