في ستينات القرن الماضي كان معلمونا في درس الجغرافية يروون لنا بنوع من الفخر أن عدد سكان أرض السواد (التابعة للعراق حاليا) في عهد هارون الرشيد كان يقارب 30 مليون نسمة. حينها لم يكن أحد يتوقع بأن هذا "الحلم" سيتحول خلال عقود قليلة إلى كابوس. فسكان العراق بحسب تقديرات الجهاز المركزي للاحصاء يقارب حاليا 40 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يصل في عام 2040 إلى قرابة 70 مليونا. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى معدل النمو السريع والذي يعتبر من بين الاعلى في العالم. ومع ذلك بقيت "القنبلة" الديموغرافية دون اهتمام يذكر رغم أن تبعاتها واضحة للعيان.
كل عام مليون جديد
خلال الأربعين عاما الماضية تضاعف عدد سكان العراق أكثر من 3 مرات. وبحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء يزداد سكان العراق في السنوات الأخيرة بنسبة تقارب 2,6 % سنويا. وللمقارنة فقط فإن هذه المؤشر يزيد بأكثر من الضعف مقارنة بإيران وتركيا وتونس وفقا لتقرير سكان العالم 2015 الصادر عن الأمم المتحدة. وتؤكد بيانات هذا التقرير أيضا أنه حتى مصر والسعودية والجزائر والمغرب حققت نجاحات نسبية في احتواء نمو السكان، ولا تبدو الصورة أكثر قتامة إلا في البلدان الافريقية جنوب الصحراء. صحيح أن معدل النمو في العراق بدأ يميل إلى الانحفاض مقارنة بالعقود الماضية عندما كان يزيد عن 3% ، إلا أن وتيرة التباطو ضعيفة للغاية حتى بالمقارنة مع سكان العالم الذي انخفض معدل نموه من 2% في عام 1960 إلى 1,2% عام 2015. وهكذا تبقى ظاهرة تضخم السكان تخيم على بلاد الرافدين في المستقبل ايضا. فكل عام يزداد عدد العراقيين (أي الفارق بين الولادات والوفيات) بنحو مليون نسمة. وهو رقم كبير بكل المقاييس، ويُرجح أن يصبح أكبر إذا لم يطرأ تغير هام على الخصائص الديمغرافية للمجتمع. ومن الواضح أنه يمثل تحديا كبيرا للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، إذ يجب على المجتمع أن يوفر سنويا لمليون إنسان إضافي مستلزمات الحياة من غذاء وسكن ومدارس ورعاية صحية وفرص عمل وغيرها . وهي مهمة جسيمة، إن لم تكن مستحيلة حتى بافتراض وجود حكومة رشيدة. ربما يرد البعض أن بلدا أصغر مساحة مثل ألمانيا يعيش فيه ضعف عدد سكان العراق. غير أن هؤلاء ينسون أن ألمانيا احتاجت قبل الحرب العالمية الثانية إلى أكثر من 70 عاما لمضاعفة عدد سكانها ، ما يعني أن المجتمع كان لديه الوقت الكافي لاستيعاب الأجيال الجديدة بعكس العراق حيث تقدم هذه الزيادة المنفتلة وقودا إضافيا للصراعات على الموارد والتي تشكل بدورها الأرضية لكل الصراعات السياسية والطائفية والمناطقية. المشكلة إذن ليست في عدد السكان المطلق ونموه وإنما في سرعة هذا النمو وعدم انخفاضه خلال فترة زمنية معقولة إلى المعدل الطبيعي اللازم للحفاظ على ديناميكية المجتمع. ومع أن المسؤولين في وزارة التخطيط يعرفون هذه الحقيقة جيدا، إلا أن لا أحد يتجرأ على دق ناقوس الخطر والتحذير بكلمات صريحة من القنبلة السكانية. ويبدو أن هذا التردد يعود أيضا إلى العقلية السائدة لدى بعض قوى الاسلام السياسي المتنفذة التي تراهن لأسباب عقائدية أو ربما لحسابات سياسية وطائفية على استمرار نمو السكان دون ضوابط. وهذا ما يُذكر بدعوة صدام حسين أبان الحرب العراقية-اليرانية "للماجدة العراقية" بأن تلد 5 أطفال على الأقل. وفي ظل هذه العقلية لا يستبعد أن يُتهم كل من يدعو إلى تنظيم الأسرة بالكفر والمشاركة في مؤامرة تستهدف "الأمة الاسلامية".
"المال والبنون زينة الحياة الدنيا"
توحي الآية 46 من سورة الكهف، والتي يتكرر معناها في سور أخرى من القرآن، بوجود علاقة بين الثروة والجاه من جهة وبين كثرة الإنجاب وخاصة الذكور من جهة أخرى. ربما يصح ذلك في المجتمع البدوي حيث تستفحل قيم العصبية والغزو والنهب والإتاوة كما يذكر بحق أبو علم الاجتماع العراقي علي الوردي. وبالتالي فإن العوائل الغنية بالأطفال الذكور تملك في البداوة فرصة أفضل في انتزاع مزايا اقتصادية واجتماعية. أما في عصرنا الحاضر فإن الدراسات والتجارب العملية تثبت وجود علاقة شبه طردية بين الفقر وكثرة الانجاب. صحيح أن أسباب الفقر والبطالة كثيرة ومتنوعة، ولكن الأسر الغنية بالأطفال تجد عادة صعوبة في توفير التربية والتعليم والتأهيل الضروري للترقي اقتصاديا واجتماعيا. وفي المقابل يجبر الفقر المرأة على لعب الدور التقليدي المتمثل في إنجاب الأطفال. وهكذا يدخل الفقر وكثرة الانجاب في دوامة يصعب الفكاك منها.
وما ينطبق عادة على الأسر يسري كذلك على المجتمعات والدول. فمن الملاحظ أن جميع الدول التي ينمو سكانها بنسبة تزيد عن 3% تعاني من فقر مدقع كما هو الحال في بعض الدول الاسلامية والدول الافريقية جنوب الصحراء (باستثناء دول النفط الريعية والدول المستقبلة للاجئين مثل لبنان والاردن), من جهة أخرى ترافق النجاح الاقتصادي للدول الناشئة وفي مقدمتها الصين والهند والبرازيل وكذلك تركيا وإيران مع تراجع واضح في معدل نمو السكان. ويجب القول هنا مرة أخرى بإن العلاقة بين نمو السكان والتنمية هي ليست معادلة رياضية مستقيمة نظرا لأن نجاح عملية التنمية المستدامة يتوقف على عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية متنوعة، ولكن من الواضح أن النمو السكاني المعتدل يشكل أرضية لاغني لكي تؤتي هذه العوامل أُكلها. ويبدو أن الصين أدركت ذلك. فبعد عقود من التطبيق الصارم لسياسة الطفل الواحد، بدأت بكين اعتبارا من مطلع العام الحالي بسياسة الطفلين. وأحد أهدافها بالتأكيد هو ضخ "دماء جديدة" للتسريع بعملية التنمية بعد أن بدأت تعاني من تباطؤ واضح.
وإلى جانب الأبعاد الاقتصادية لنمو السكان يحذر الكثير من خبراء علم الديموغرافية من التبعات السياسية والاجتماعية للانفجار السكاني.
البعد الديمغرافي للدولة الفاشلة
يحتل العراق المرتبة الـ12 في قائمة الدول الفاشلة أو الدول الهشة لعام 2015 والتي يصدرها معهد صندوق السلام(The Fund for Pease) سنويا. ويعتمد المعهد في تصنيفه على أكثر من 100 مؤشر، من بينها بعض المؤشرات الديموغرافية كنمو السكان ونسبة الشباب والهجرة وغيرها. ولكن من الملفت للنظر أن جميع الدول التي تتربع على هذه القائمة تعاني من نمو مفرط في السكان والذي يزيد في الأغلب عن 3%. والنتيجة هي احتدام الصراع على الموارد المحدودة والذي يتخذ أشكالا سياسية وإثنية ودينية وطائفية وغيرها. ونتيجة للترابط الواضح بين الفقر وكثرة الانجاب يتركز التضخم السكاني بالدرجة الأولى في الفئات المعدمة والمهمشة والتي لا تملك نصيبا كافيا من التعليم وتعاني من تدني فرص التمتع بثمار التنمية وتشعر في الوقت نفسه بالغبن والتمييز. ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة في العراق ايضا والتي يترتب عليها تغيرات عميقة في التركيبة الاجتماعية للبلد. ولعل من أهم هذه التغيرات هو تراجع النسبة العددية للطبقة الوسطى الأمر الذي ينعكس أيضا في اضمحلال دورها على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في المقابل توفر الفئات المهمشة والغاضبة أرضية خصبة للتطرف والراديكالية بكل أشكالها ولتبني أفكار تعتبر العنف وسيلة للحصول على ما تعتبره هذه الفئات "حقوقا مشروعة". وكل ذلك يصب في نهاية المطاف في زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي للمجتمع والتي يمكن أن تتفاقم إلى صراعات مفتوحة وحروب أهلية. ومن الغريب أن يتم في كثير من الحيان تجاهل العامل الديموغرافي في تفسير الوضع الاستثنائي الذي يمر به العراق منذ عقود. فمهما قيل عن أسباب الاحتقان السياسي والطائفي والإثني في العراق والهزات والزلازل التي مر بها فإن الصورة تبقى غير متكاملة بدون ذكر الخلفية الديموغرافية لهذه الصراعات. في الجانب الآخر تتجسد العلاقة المتبادلة بين الانفجار السكاني والصراعات في التسريع بعمليات ديموغرافية يغلب عليها الطابع القسري، مثل الهجرة الداخلية والخارجية وموجات النزوح والتهجير والتطهير الإثني والديني ، وكلها كوارث حقيقية ابتلى بها العراق في السنوات الأخيرة.
وبطبيعة الحال فإن هذه التغيرات تلقي بظلال الشك على تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء حول عدد السكان ومعدلات نموهم وتوزيعهم على المحافظات وغيرها. وتفرض عليه الشروع في إنجاز مشروع التعداد السكاني الذي تم تأجيله عدة مرات. والأهم من ذلك هو تبني الحكومة وبدعم من البرلمان والقوى المتنفذة بشكل واضح وصريح لسياسة تنظيم الاسرة كوسيلة لأحتواء "القنبلة السكانية" التي تهدد بتفجير كل شيء. ويتطلب ذلك أولا البدء بحملة وطنية للتوعية بمزايا تحديد النسل. ولكن مفتاح الحل يكمن في النهاية في المستوى التعليمي للمرأة وانخراطها في سوق العمل والنظرة الاجتماعية لها. فطالما ينظر جزء كبير من المجتمع وبل حتى من الطبقة السياسية إلى المرأة على أنها "ماكنة" للتفريخ، تبقى فرص العراق في الحد من الانفجار السكاني متواضعة. صحيح أن هناك ضغوطا اقتصادية تدفع لتقليل الانجاب، ولكن لا يمكن الركون اليها ، طالما أن التحول إلى نمط سكاني جديد يعتمد النمو المعتدل يستغرق في هذه الحالة فترة طويلة جدا.
هناك تاريخ طويل للجدل حول العلاقة بين التحول الديموغرافي من جهة وبين التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من جهة أخرى. ولم يكن النزاع الفكري حول التوقعات المتشائمة للاقتصادي الانجليزي توماس مالتوس (ت 1834) ورد كارل ماركس (ت 1883) عليها الفصل الأول في هذا السجال. ويُنتظر استمرار هذا الجدل مستقبلا في العراق أيضا. ولكن من الثابت أن العراق يعيش نموا سكانيا مرتفعا يقارب 3% منذ الحرب العالمية الثانية ولا يوجد حاليا أي مؤشر يرجح بدء تحول ديمغرافي يقوم على أساس ترشيد نمو السكان بما يتناسب مع احتياجات عملية التنمية ويُقلل من الضغوط السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكل ذلك يؤكد فشل السياسات السكانية في البلاد وعجز الطبقة السياسية عن إدراك تحديات الانفجار السكاني.
مقالات اخرى للكاتب