وصلتُ أمريكا قادماً من بغداد قبل عشرة أيام لزيارة العائلة، وإجراء بعض الفحوصات الطبية الخاصة. ورغم إني أقيم في أمريكا منذ خمسة عشرعاماً تقريباً. وأسكن في ولاية كاليفورنيا التي يتمنى، بل ويحلم أي مواطن أمريكي أن يعيش فيها، لمناخها الربيعي المدهش صيفَ شتاء، لاسيما مناخ مدينتي الساحرة سان دييغو، التي أعيش فيها منذ أكثر من عشر سنوات. تلك المدينة الأنيقة والرشيقة والفاتنة التي يغسل المحيط الهاديء قدميها كل صباح.. ورغم إني أستيقظ هنا على زقزقة العصافير المدهشة، أو ترانيم الجنون المنفلتة من عبقرية بتهوفن وموزارت، أو بجعات چايكوفسكي، أو أنهض أحياناً لأستجيب لنداءات فيروز وهي تندهني بشجنها قائلة: (سألوني الناس عنك يحبيبي)! أقول، رغم إني أستيقظ في أمريكا على هذا الهمس الخرافي كل صباح، وليس على أصوات (أبو الغاز) و(أبو النفط)، و (أبو العتيگ)، أو على صراخ جارتنا في مدينة الصدر أم ستار التي تتعارك مع كنتها المسكينة كل صباح، فتعزف لها أغنية : قريشٍ بابا .. قريشٍ بابا.. قريشم، فتمزق طبلة الأذن، والخشم، والأعصاب..
ورغم أنك لاترى في أمريكا سيطرات عسكرية، ولا جنود مستهترين، ولا حمايات يطلقون النار في الهواء من أجل فتح الطريق لعمهم الباشا، ولا ترى سيارات شرطة، أو جيش، أو مرور مطلقاً، لكن سيارات البوليس تحضر بعد ثانية واحدة من إرتكابك أي مخالفة مرورية، او جنائية، فتعجب، وتقول : من أين جاءت كل هذه السيارات، وأين كانت مختفية..؟ ورغم أني في أمريكا (ملك) ومدَّلل مثل أي إنسان آخر يعيش في هذا البلد الحر، فتأتيني مثلاً سيارة الأسعاف إن طلبتها بعد أقل من دقيقة على إتصالي بالمستشفى، فتنقلني الى هناك، وتجرى لي الفحوصات اللازمة، والمعالجات المطلوبة، وأجراء العملية - إن تطلب ذلك - حتى لو كلفت مليون دولار دون أن يرغمك أحد على الدفع قبل إجراء الفحص، أو العملية، بل تطالب بها بعد حين، وحسب ظروفك المادية. وقد لاتدفع دولاراً واحداً لوكنت فقيراً مثلي.. ورغم إني أعيش في الجنة الحقيقة، من حيث نظافة البيئة، والشوارع والبيوت والناس، فلانرى في أمريكا ذبابة واحدة. فتصور ان قارة بحجم أمريكا ليس فيها ذبابة واحدة؟!
ورغم إن الشعب الأمريكي- وعكس ما متوقع- شعب مبتسم بشوش، خصوصاً النسوان الأمريكيات اللائي يبتسمن للرايح وللجاي، ورغم إني أسكن في مدينة باسمة وهانئة ومكتنزة بالحياة، حيث لن تجد فيها سوى ثلاثة ألوان، تتمثل بزرقة البحر والسماء، وخضرة الأرض، وزُهرية الورد.. ومع إن الإنسان هنا هو أثمن رأسمال فعلاً وليس قولاً فحسب، وأنه أجمل خلق الله بحق وحقيق بإعتباره قيمة إنسانية وجمالية وإبداعية عليا، وإن الحقوق المدنية والصحية والتقاعدية مضمونة لي في أمريكا، بحيث أستطيع أن أجرجر أكبر صماخ في أمريكا، بما في ذلك الرئيس أوباما الى المحكمة، بمجرد ان أقيم عليه الدعوى .. ورغم أن أمريكا بلا فساد، ولا رشا، ولا صخام ولطام، وتعال باچر، وتعال يوم الأحد.. لأن أكبر معاملة فيها تنجز بالبريد، إذ يأخذ البريد معاملتك من بيتك، ويعيدها لك منجزة وانت في البيت - وكفيلكم العباس أبو فاضل ما أندل، ولا مراجع أي دائرة في أمريكا - أقول رغم كل هذه الإمتيازات، والحريات والحقوق والمباهج والحياة الحلوة في أمريكا، إلاَّ أنك لو سألتني، وقلت لي : أيهما أفضل عندك يافالح : أمريكا أم ( مدينة الصدر ) ..؟
فسأقول حالاً لك ودون تردد:- إن زُفرة (سوگ مريدي) عندي (تسوه) ألف أمريكا.
مقالات اخرى للكاتب