الآيات الكونية المشاهدة وإن اختلفت درجاتها في التأثير المباشر على الإدراكات الحسية إلا أن لها تشعبات تتحكم فيها الصور الناتجة عن العملية الخيالية التي يكون مردها إما إلى تلك الإدراكات وإما إلى الاتجاه العرضي الذي ينسب إلى المدارك العقلية التي تساعد في كشف الحقائق الخارجية باعتبار أن تكرار المعالم الظاهرة واختلافها من جهة التنزيل يترتب عليه الكثير من البراهين التي تدخل ضمن الأدلة العقلية التي يتبين على ضوئها من أن لجميع المخلوقات أصل ثابت في خزائن الله تعالى وهذه الخزائن لا يعتريها الفناء من جهة، كما في قوله تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل 96. ومن جهة أخرى تتنزل الأشياء منها حسب القدر المعلوم، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر 21. وقد يستطرد هذا الإنزال في جميع المتفرقات، كما في قوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) الزمر 6. والتبعيض ظاهر في قوله: (من الأنعام) وكذا قوله: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فاسكناه في الأرض) المؤمنون 18. وقوله: (بقدر) يبين ما ذهبنا إليه، وقوله: (وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً) النبأ 14. وكذلك قوله: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) البقرة 159.
فإن قيل: جميع ما ذكرته صحيح إلا أن قوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) يس 36. وكذا قوله: (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة) البقرة 164. يدل على أن جميع ما خلق قد أنزل دون تبعيض؟ أقول: الكلية هنا لا تحمل على إطلاقها إذا ما استثنينا الأصل الذي ورد في آية سورة الحجر آنفة الذكر، ويدل على ذلك قوله تعالى: (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) النمل 23. وأنت خبير من أنها لم تؤت عرش سليمان، وأكثر من هذا بياناً تجده في قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم... تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) الأحقاف 24- 25. فالسياق بيّن أن الدمار لحق بكل شيء ثم أظهر أن مساكنهم لم تدمر. ومنه قوله تعالى: (كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) القمر 42. وبطبيعة الحال هم لم يشاهدوا جميع الآيات ولكن تكذيب بعضها يدل على تكذيبها جميعاً.
من هنا نعلم أن الآيات الظاهرة ما هي إلا أمثلة لها أصل ثابت في خزائن الله تعالى ولا يحيط بذلك الأصل إلا هو جل شانه ولأجل التقريب فالأمر لا يتعدى إلى أكثر من نسبة المصداق إلى المفهوم وإن شئت فقل لا يتعدى إلى أكثر من نسبة الجزء إلى الكل وإن كان في المثال قياس مع الفارق فتأمل. فإن قيل: ما فائدة الجزء المقدر النازل من الأصل الثابت؟ أقول: القدر المعلوم الذي أشار إليه سبحانه يبين مدى السعة الموجبة التي لا تتخلف عن المادة واستعدادها المتمثل في قبول ذلك الجزء دون الأصالة اللازمة لكلياتها التي يمكن أن يتدرج بعضها في النزول تبعاً لتغير الاستعداد، أما ما يخالف ذلك فيمكن أن يدخر للإنسان ويمنح إليه نتيجة للاستحقاق الفعلي الذي حصل عليه، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (أولئك هم الوارثون... الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) المؤمنون 10- 11. وفي الآية دليل على أن الذين ورثوا الفردوس قد حصلوا على هذا الاستحقاق بعد أن خرج عن أيدي غيرهم وذلك بسبب أعمالهم التي لا ترقى للاحتفاظ بالإرث المشار إليه. وقد بين سبحانه هذه المنزلة بقوله: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً) مريم 63. ثم عرّف لهم الجنة بقوله: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) الزخرف
72. وهذا أحد أجزاء الميراث المشار إليه بقوله: (ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير) آل عمران 180. وقريب منه الحديد 10. ومن هنا بين تعالى حمدهم بقوله: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبؤأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) الزمر 74.
وبناءً على ما تقدم يظهر أن مجموع الأشياء المشاهدة التي يحيط بها الإنسان في هذه النشأة هي التي تتسبب في إيصاله إلى كشف بعض الحجب، أما الصنف الآخر الذي لا يتحقق لديه الوصول إلى مرحلة الكشف فهو بلا شك يعيش ويأكل كما تعيش الأنعام وتأكل دون أن يفرق بين الأشياء أو ينسبها إلى عللها، ومن هنا فقد ألزم الله تعالى المشركين بما هو مشاهد ومألوف لديهم وهو الموت الذي لا يرتاب في تصديقه جميع الناس سواء منهم المؤمن أو الكافر عاطفاً عليه الحياة الحاضرة وما يتبع ذلك من تكرار العملية التي تشهد على المراحل اللاحقة، فقال جل شأنه: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) البقرة 28. وفي الآية ما يدل على التعجيب من الحالة التي هم عليها دون استعلامهم، لأن الخطاب أنزل منزلة الإنكار والتوبيخ. والكفر: يعني الستر والتغطية كما في أصل الوضع، واستعير شرعاً لكفر النعمة، ثم استعمل في كل ما من شانه الجحود، وفي مفهوم الآية دليل على أن كفرهم ناتج عن عدم معرفتهم للآيات الكونية الظاهرة والأدلة والبراهين التي يشاهدونها في كل وقت دون أن تفارق أعينهم وأفكارهم، وأهم تلك البراهين يتجسد في الموت والحياة، أي: كيف تكفرون بالله وقد كنتم في عداد الموتى باعتبار أن الموت يطلق على من لا حياة فيه وإن لم يتصف بها بعد، كما يطلق على الجماد الذي ليس من شانه الحياة، كما في قوله تعالى: (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) النحل 21. وقد يطلق الموت على الأحياء أنفسهم عند فقدهم للعلم والإيمان، كما في قوله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) الأنعام 122. وأكثر بياناً تجده في قوله: (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) النمل 80.
وبناءً على هذا التقسيم تكون الموتة الأولى هي الموتة التي تسبق الحياة ثم تأتي مرحلة الحياة الطبيعية وبعد ذلك يأتي الموت الثاني، ثم الحياة الثانية المتمثلة بالبعث، فالآية نظير قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) غافر 11. والتعجيب الوارد في موضوع البحث فيه حث على تدبر الحياة وتأملها وكيف كانت مسبوقة بالموت، وهذه الصورة وإن كانت غائبة عن أذهان كثير من الناس إلا أن الموت الحقيقي لا يجعل للتأمل مناص فهو أمام الأعين في كل وقت وفيه من العبر والتذكر ما لا يخفى على ذي عقل. ومن أهم العبر الظاهرة أمام الأعين تلك التي يشعر بها المرء عند مروره بإحدى المقابر دون أن يعزب عن ذهنه من أن كل واحد من هؤلاء الأموات كانت له أعمال معينة اراد التوجه إليها ولكن الجامع الوحيد الذي جمع أولئك الناس دون أن يصلوا إلى أعمالهم هو الموت الذي جمع أجسادهم في هذا المكان علماً أن الموت الأول جمع الأجزاء المتفرقة للجسد ما أدى إلى دخوله في عالم الأحياء، أما الموت الثاني فقد يقاس على نسبة الموت الأول من حيث تفرق الأجزاء التي سبق لها أن اجتمعت في تكوين الإنسان المادي، ثم عادت إلى التفريق مرة أخرى قبيل المرحلة الثانية من الحياة التي يرجع الإنسان بعدها إلى الله تعالى.
وبناءً على هذا الترتيب ترى أن الناس الذين ابتعدوا عن منهج الله تعالى في الآخرة لا يريدون أن يتذكروا الأهداف أو الأعمال التي توجهوا إليها قبل الموت وإن كانت لا تغيب عنهم، وكذا الحال في كل ما تركوه من مال أو جاه أو ولد، كما بين تعالى ذلك بقوله: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) الأنعام 94. وبعد ان صعب عليهم التناوش من مكان بعيد لم تكن دعواهم، إلا كما قال تعالى: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) غافر 11. وعند
اليأس من هذا المطلب تراهم يتوجهون إلى خازن النار، كما نقل تعالى ذلك عنهم بقوله: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) الزخرف 77. ثم بعد ذلك لم يتبق لهم إلا السؤال عن تخفيف العذاب ولو كان لمدة يوم واحد، كما في قوله تعالى: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب) غافر 49. وأخيراً بين الله تعالى مصيرهم الذي لا ينفك عنهم بقوله: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور) فاطر 36. ثم اشار إلى خلودهم في النار وذلك في قوله: (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) آل عمران 88.
قوله تعالى: (ثم إليه ترجعون) البقرة 28. أي: ترجعون إليه ليقضي فيكم حكمه وذلك في يوم القيامة، كما في قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الجاثية 26. قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم) البقرة 29. في الاية دليل على أن الله تعالى قد خلق الأرض وما فيها دون مكوناتها التي تدخل ضمن الدحية، ثم بعد ذلك استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، أما دحية الأرض فقد أشار إليها تعالى بعد خلق السماوات، كما في قوله: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها... رفع سمكها فسواها... وأغطش ليلها وأخرج ضحاها... والأرض بعد ذلك دحاها) النازعات 27- 30. ومعنى الاستواء لا يخلو عن المجاز المتضمن للقصد والفعل المتعلق بالخلق والإيجاد.
مقالات اخرى للكاتب