الابتعاد بالدين عن المسارات الطبيعية للحياة وفصله عنها يجعل منه غرضاً تابعاً لكل من يريد القضاء على أمر التشريع الإلهي، وهذا ما حدث بالفعل في نهاية العصور الوسطى حتى ظل أصحاب الشرائع في جانب مخالف لأولئك الذين أطلقوا على أنفسهم مسمى الأحرار في الأرض، وبهذا أصبحا الطرفان مثاراً للسخرية بسبب عدم قدرتهما على فهم القانون المتخذ سلفاً دون النظر إلى ما يستجد من مصالحهما، وذلك لأن أتباع تلك الديانة التي انفصلت عن واقعها لا يمكنهم الركون إلى التعاليم الإلهية، وإنما صار لديهم مساراً آخر نتيجة اتخاذهم للمواقف الخاطئة دون تأمل أو إحكام، ومما يؤسف له نرى أن بعض الناس في وقتنا الحاضر يريدون استنساخ تلك الحالة وتطبيقها على أتباع القرآن الكريم، وهذا من الجهل الذي لا يمكن أن نعثر له على مثيل، بتعبير آخر يريد هؤلاء فصل الدين عن الحياة بكل مستجداتها ومظاهرها دون أن يعلم أولئك الناس أن الدين هو المقوّم المباشر للحياة بجميع تفرعاتها، أمّا ما حدث لأصحاب الشرائع الأخرى فذلك نتيجة اهمالهم وابتعادهم سلفاً عن دين الله تعالى إضافة إلى تحريف ما في كتبهم والمجيء بدين آخر نسب ظلماً وعدواناً إلى شرع الله وما هو منه.
من هنا يتضح أن عملية فصل هذا الدين عن الحياة وجعله مسألة شخصية بين الإنسان وخالقه، ما هي إلا فرية لا يمكن الوقوف على تفاصيلها إلا بمعالجة العقول المنادية إلى الأخذ بها، لأن الدين هو الحياة والحياة هي الدين، أمّا إذا أردنا اتخاذ منحى آخر فمن الطبيعي أن يصبح قانون الأرض هو السائد، وبالتالي لا يحق لنا إيقاف النتائج المترتبة على هذا الأمر والمتمثلة بالجريمة والفساد والفقر وهلم جراً، وبهذا تصبح الحياة أقرب إلى الجحيم الذي لا يطاق، ومن هنا نجد أن الأركان التي يقوم عليها الدين ما هي إلا مقدمات لنتائج تفوق الشكليات التي نشاهدها بقياسات تتعدى الضعف، ولكن هذا المعنى لا يمكن أن يظهر إلا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقد بيّن الله تعالى هذا الأمر بقوله: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) الحجر 75. فالصلاة على سبيل المثال أو التقرب إلى الله تعالى بالطاعات الأخرى لا يمكن تحليلها فلسفياً إلا إذا رددنا نسبة ذلك التحليل إلى الغاية الأسمى التي تترتب عليها مقدمات الصور العبادية، ولهذا نلاحظ أن شرع الله تعالى قد بني على هذا النهج. فإن قيل: ما هي النتائج السلبية التي تظهر جرّاء ارتباط الإنسان بخالقه على القياسات التي ينادي بها أولئك الناس الذين أشرت إليهم؟ أقول: لا يمكن الركون إلى الفائدة التي ترجى من الصلاة أو الصيام إذا كان أمرهما بين الإنسان وخالقه، وذلك لأن التأثير المباشر للعبادات لا يمكن أن يسلك الاتجاه المعاكس للروابط والمعاملات بين الناس.
وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن انتشار الربا والعقود الباطلة الأخرى إضافة إلى استشراء الرذيلة والانحلال وما إلى ذلك، كل هذا وأكثر تكون نتائجه آيلة إلى الهاوية والزوال بسبب ابتعاد الناس عن فهم العقيدة على الطريقة التي أرادها الحق سبحانه فضلاً عن تطبيقها بالطرق الوسطى أو المثالية، ولهذا نرى أن الله تعالى قد جعل أسباب الدين تسير جنباً إلى جنب مع المترابطات التي يكون مقتضى نتائجها آخذاً بيد الإنسان إلى بر الأمان في الحياة الدنيا دون ابتعاده عن القيم المنزلة من السماء، وذلك لأجل الحفاظ على القانون الذي يربط السماء بالأرض، ولهذا جعل الحق سبحانه مقومات الدين الشكلية لا تختلف كثيراً عن المبادئ التي تنتهي إلى مرحلة أعمق من المراحل المشاهدة لتلك المقومات، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سؤاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير) الأعراف 26. وكذا قوله: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) البقرة 177. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد) المائدة 1. وما هذه الآيات إلا نبذة مختصرة عن المعنى الكلي الذي بينا بعضاَ من مقاصده، وهناك آيات أخرى وأدلة كثيرة تجعل الدين هو الحاكم المباشر في هذه الأرض أمّا ما نشاهده من التطبيقات الأرضية التي لا تعتمد قوانينها على شرع الله تعالى، فهذه سوف تزول بزوال المؤثر المؤقت الذي اعتمدت عليه.
من هنا يظهر أن الخطاب الموجه لبني إسرائيل من أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويركعوا مع الراكعين لا يُراد منه إلا دخولهم في الدين الجديد الذي شُرّع لهم، ونبذ القوانين الأرضية التي سطّرتها أقلامهم في كتبهم المحرفة التي أسبغوا عليها هالة من التقديس، ولهذا قال تعالى موجهاً الكلام إليهم: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) البقرة 43. وفي السياق ما يثبت قاعدة التخلية قبل التحلية. فإن قيل: ما المقصود من هذه القاعدة؟ أقول: المقصود من هذه القاعدة هو التخلي عن الموبقات والآثام وكل ما أمر الشارع بتحريمه، ثم بعد ذلك يتوجه الإنسان إلى الله تعالى بنفس ظاهر فيها التحلي بالصفات الحميدة التي ارتضاها الحق سبحانه، وهذا من الأمثلة الشرعية للقاعدة، أمّا خارج حدود الشرع فلها موارد أخرى، ولذلك فإن القرآن الكريم قد أشار في كثير من مواضعه إلى هذه القاعدة، كما في قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا... قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً) الكهف 1- 2. والقاعدة تبيّن نفي العوج عن الكتاب ثم إثبات القيمومة له، وكذا في تقديم الإنذار على البشرى فتأمل. ومنها قوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) البقرة 256. وبناءً على هذه القاعدة نعلم أن الله تعالى قد أمر اليهود بالتخلي عن أن يكونوا أول كافر به أي بالقرآن الكريم، وأن لا يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وكذا لا يلبسوا الحق بالباطل ويكتموا الحق... فهذه الأوامر والنواهي جميعها فيها إشارة إلى التخلية، ثم بعد ذلك جاء دور التحلية، ولهذا أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين.
فإن قيل: لمَ خاطب الله تعالى اليهود بأن يركعوا مع الراكعين وهل كانت هذه التفاصيل المتعارف عليها في صلاتنا هي نفسها في صلاتهم؟ أقول: اعتمدت الدعوة الموجهة إليهم على هذه التفاصيل نظراً إلى أمرهم بالدخول في الدين الجديد، أما الركوع على حقيقته فقد اختفى أثره من حياتهم، وإن كان داخلاً ضمن التشريعات التي جاء بها الأنبياء، بدليل قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا) مريم 58. وأكثر بياناً من ذلك قوله تعالى خطاباً لمريم: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) آل عمران 43. فإن قيل: يظهر من الآية أن الأمر الموجه لمريم يتضمن دخولها في جمع المصلين، فهل هذا يعني أن المرأة يحق لها أن تصلي مع الجماعة؟ أقول: لا يحق للمرأة أن تصلي مع الجماعة عند كثير من الفرق الإسلامية ما عدى الإمامية، كما يجوز لها عندهم أن تأتم بالمرأة، أمّا إذا أمّت النساء فلا يحق لها التقدم عليهن وإنما يجب عليها الوقوف معهن في نفس المستوى... هذا ما يستفاد من الفقه الإمامي على اختلاف بين الفقهاء، وهناك تفاصيل أكثر محلها الفقه وليس التفسير لذا أعرضنا عنها. فإن قيل: يظهر من الآية الموجهة لمريم تقديم السجود على الركوع وهذا خلاف الأصل؟ أقول: الواو لا يقتضي الترتيب.
قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) البقرة 44. فيه دليل على أن اليهود كانوا يأمرون الناس قبل مجيء الإسلام باتباع النبي (ص) والإشارة بالناس إلى المشركين على سبيل التعريض، وعند ظهور الدين الإسلامي اختلف الأمر عليهم، ولهذا كان توبيخهم من هذا الباب لأنهم كانوا بمنزلة القادة إلى الخير من خلال توجيه الناس الذين لا يحملون القيم الإيمانية، والجملة حالية أي والحال أنكم تتلون الكتاب وسبب التشديد يرجع إلى ما صدر من أفعالهم. فإن قيل: إذا كان الأمر الموجه لليهود بهذا المعنى أي إن الإنسان لا يمكن أن يأمر بالبر إذا كان لا يلتزم بالدين، فهل يمكن أن تجري هذه الآية في جميع الناس؟ أقول: الآية فيها أمر إرشادي إلى توافق حالات الدعاة بين الالتزام في دينهم وبين أمر الناس بالبر، أما إذا فقد الإنسان عنصر الالتزام فلا يحق له أن يتوقف عن دعوة الناس إلى البر، لأن الجهة منفكة... فالأمر في الآية لا يتعدى إلى أكثر من التوبيخ الذي لا يترتب عليه أثر الابتعاد عن النصح والإرشاد... فتأمل.
مقالات اخرى للكاتب