السّؤال هو؛ ما الذي يجعل من الانسانِ أَن يستسلمَ اذا أنتهكَ أَحدٌ حُرِّيَّتهُ أَو صادرَ إِرادتهُ وحاولَ أَن يفرضَ عليهِ رأياً أَو أمراً ما لم يعتقد به ِأَو لا يراهُ صواباً؟!.
في حقيقةِ الأَمر، فانَّ هناك الكثير من الأَسباب الماديّة والمعنويّة، وإِنَّ الاسباب المعنويّة أَخطرُ من الأَسباب الماديّة بكثيرٍ، لانَّ السّبب المادّي يُمكن إِزالتهُ في أَغلبِ الأَحيانِ بيُسرٍ وسهولةٍ، أَمّا السّبب المعنوي فمِنَ الصُّعوبةِ بِمكانٍ إِزالتهُ لانّهُ يتراكم بالتّربية السيّئة والتّعليم البائس حتّى يتحوّل الى جزءٍ لا يتجزّء من الشّخصية، وذلكَ أَمرٌ خطيرٌ للغايةِ!.
فمثلاً، من الاسبابِ المعنويّة ثلاثةً يجمعُها أَميرُ المؤمنين (ع) في قولهِ {لاَ يُقِيمُ أَمْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ إلاَّ مَنْ لاَ يُصَانِعُ، وَلاَ يُضَارِعُ، وَلاَ يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ}.
فالأوّل؛ هي المُصانعةِ، وهي المداراةُ في الحقّ، فمَن صفتهُ هذه لا يُمْكِنُ أَن يحمي حريَّتهُ وإِرادتهُ مهما شعرَ بخطرِ الأَمر وعِظَم المُصيبة!.
كيف يحميها اذا كان يُداري مصالحهُ الخاصَّة على حسابِ الحقِّ؟!.
الثّاني؛ هي المُضارعة، وهي المُشابهة، أَي الذي يتشبَّه بالمُبطلين، فهو الآخر لا يُغيّر ولا يُبدّل حتّى اذا تيقَّن بأَنَّ ما يُجبَرُ على الاِيمانِ والاعتقادِ بهِ أَو عملهِ وتنفيذهِ، خطأٌ وغيرُ سليمٍ!.
الثّالث؛ هي إِتّباع المطامع، بمعنى الميل معَها وإِن ضاعَ الحقُّ، وهي الحالة الشّائعة في زمانِنا، فهاهُنا تُسكبُ العَبراتِ كما يقولونَ!.
إِنّ الطّمع هو الذي يخلق ذيولاً للعجولِ السَّمينةِ! وهو الذي يهيِّ الأرضيّةِ الخصْبةِ لمرض عبادة الشّخصيّة!.
وهي الحالة التي شاعت عند كثيرين فابتُلي بهم أَميرُ المؤمنينَ (ع) ومِن بَعْدِهِ ولدَيه السِّبطان الحَسن والحُسين عليهمُ السّلام!.
لقد واجهَ أَميرُ المؤمنين (ع) عددٌ كبيرٌ من الذين استحوذت عليهمُ الأَطماع بكلِّ أَشكالِها، فبينَ طامعٍ ببيتِ المالِ وآخر بالسُّلطة وثالثٍ بالخلافةِ، وهكذا، ولذلك فعندما واجهَ (ع) من خرج عليهِ خاصَّةً أولئك النَّفر الذين بايعوهُ ثم انقلبوا عليهِ، كان على الامام (ع) ان يتعاملَ معهُم بالحُسنى بادئ الأمرِ ما أُوتي الى ذلك سبيلاً، لعدَّة أسباب؛
١/ لانّهم لم يكونوا أُناسٌ عاديّون ليقنع الرّأي العام بقتالِهم بادئ ذي بدء، بل كانوا [صَحابة] تعتقد بهم الأُمّة لدرجةٍ أَنّها كانت تعرف الحقَّ بِهم، وهذا من أَخطر الأشياء، ولذلك سعى الامام (ع) لتغيير طريقة تفكير النّاس أَوَّلاً.
فلقد ذكر البلاذري في أنساب الأشراف (1/318)؛ وحدَّثني الحرمازي عنالعُتبي قالَ؛ قامَ الحارث بن حوط الّليثي إلى عليّ [عليهِ السّلام] فقال له؛ أَترانيأَظنُّ طلحةَ والزُّبَير وعائشة إِجتمعوا على باطلٍ؟! فقال له [أَميرُ المؤمنينَ] علي (ع)؛ {يا حار إنَّك ملبوسٌ عليكَ، إنَّ الحقَّ والباطلَ لا يُعرفان بأَقدار الرِّجال؛إِعرف الحقَّ تعرف أَهلهُ، وآعرف الباطل تعرِف مَن أَتاهُ}.
ولشدّ ما ذكرَ كم انَّهُ يُداريهِم فيصفُ (ع) ذَلِكَ بقولهِ {كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ، وَالثِّيَابُ الْمتَدَاعِيَةُ! كُلَّما حِيصَتْ مِنْ جَانِب تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ}.
٢/ كونهُ (ع) ملتزمٌ بالمنهجِ القرآني الرّسالي الذي يرفض توظيف التّضليل والخداع لفرضِ أَمرٍ أَو رأيٍ ما على النّاس، ولذلك كان الامام (ع) واضحاً معهم، كما يَقُولُ يصفُ ذلك {وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخزُونَ رَأْيِي} على العكسِ من خصومهِ كما وصفَ (ع) طاغية الشّام مُعاويةَ مثلاً بقولهِ؛ {أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}.
٣/ لقد وصلَ الطَّمعُ ببعضِ (الصّحابة) أَنّهم كانوا يُساومون حتّى على البيعة والتي هي إِمّا ان تكون شرعيّة فتكون واجبة أَو غير شرعيّة فتكونَ حرامٌ فما هُوَ موقع المُساومة والابتزاز فيها؟!.
يقول (ع) في كلامٍ لهُ في ذكْرِ عمرو بن العاصّ {أَمَا واللهِ إِنِّي لَـيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْموْتِ، وَإِنَّهُ لَْيمَنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الاْخِرَةِ، إِنَّهُ لَمْ يُبَايعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ لَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً، وَيَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً}.
الشَّيءُ الخطير الآخر الذي يرتكبهُ النّاس هو عندما ينتقدون الباطل من دونِ أَن يبحثوا عن الحقِّ، والغريبُ في حالتهِم أَنّهم عندما يعرفونَ الحق يُبطلونهُ ويخذلونهُ أَكثر ممّا يُبطِلون ويخذلونَ الباطل وهم يعرفونهُ حقّ المعرفة، ولذلك فقد كانت مهمَّة أَميرُ المؤمنين (ع) عسيرةٌ جداً مع هذا النّوع من النّاس، وما أكثرهُم!.
يَقُولُ عليه السّلام يصفُ هذا النّموذج {لاَ تَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ، وَلاَ تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبطَالِكُمُ الْحَقَّ!}.
للأسف الشّديد فانَّ واقعنا يزدحمُ بهذهِ النّماذج من النّاس، فعلى الرَّغم من أَنّهم يعرفون جيداً انَّ [عِجلاً سميناً] واحداً على الأقلّ يجب ان يقفَ خلفَ القُضبان ليواجهَ القضاء جرّاء ما ارتكبَ من فسادٍ وفشلٍ! وعلى الرّّغمِ من أَنّهم يتحدَّثون في مجالسهِم الخاصّة عن ذلك فيُشيرونَ مثلاً الى حجمِ الفساد الذي ارتكبهُ هو وزمرتهُ وحاشيتهُ! على الرَّغم من كلِّ ذلك، الّا أَنّهم يرفضونَ الحديث علناً وكشفِ الملفّات التي تُدينهُ والسَّببُ هو لحمايةِ مصالحهِم الخاصَّة!.
والغريبُ في أَمرهِم هو أَنّهم يتهجَّمون على من يعقد العزم لفضحِ هذا [العجلُ السَّمين] أَو ذاك [العجلُ الحنيذ]! فلا هم يفضحونهُم ولا يقبلونَ أَن يفضحهُم أَحدٌ! تخيَّل! على الرّغم من معرفتهِم بالحقائقِ والأسرارِ كاملةً! لأَنّهم يعتقدونَ انَّ سقوط [العجلِ] رُبما يؤدّي الى سقوطِ مصالحهِم كَذَلِكَ! فافضلُ لهُم السُّكوت عن الفسادِ والفشلِ ليسكُت الآخرونَ عن مصالحهِم! وهذا ما يُسمّونهُ اليوم بتصفيرِ المسؤوليّة! فلا أَحدَ يتحمّل مسؤوليّةً إِزاءَ أَيِّ شَيْءٍ، الفساد والارهاب والفشل!.
أَمّا أَميرُ المؤمنين (ع) فلا معنى عندهُ لِهذهِ الفلسفة البائِسة، ولا مكانَ عندهُ لمفهوم [تصفير المسؤوليّة من خلالِ تصفيرِ الأزماتِ] فالحقُّ العام تحديداً لا يسقُط بالتَّقادُم! ولذلك قالَ في أَوّلِ خطابٍ لهُ بعد تسنُّمهِ السّلطة من كلامٍ لهُ (ع) فيما ردّهُ على المسلمين من قطائعِ عُثمان يُطمئنُ فِيهِ أهل الحقِّ العام ويهدِّد ويتوعَّد الرُّؤوس الكبيرة من الفاسدينَ واللّصوص والفاشلين ليضربَهم بيدٍ من حديدٍ {وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاِْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ; فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!}.
مقالات اخرى للكاتب