Editor in Chief: Ismael  Alwaely

Editorial secretary: Samer  Al-Saedi

Journalist: Makram   Salih

Journalist: Saif  Alwaely

Journalist: Ibnyan   Azeezalqassab

Editor: Aboalhassan   Alwaely

Reporter: Abdulhameed   Alismaeel

مقالات وأبحاث
الاثنين, أيار 1, 2023
الثلاثاء, نيسان 25, 2023
الأربعاء, نيسان 19, 2023
السبت, نيسان 15, 2023
الجمعة, نيسان 1, 2022
الأحد, آذار 13, 2022
الأربعاء, شباط 16, 2022
الثلاثاء, شباط 15, 2022
السبت, حزيران 3, 2017
السبت, أيار 20, 2017
السبت, أيار 13, 2017
الجمعة, أيار 12, 2017
الاثنين, أيار 1, 2017
1
2
3
4
5
6
   
أفكار مسروقة (الجزء الثالث)
الأربعاء, شباط 18, 2015
ابراهيم الوراق

فالدواعش قد قاموا بالإصلاح المطلوب في أذهانهم التي تتحكم فيها عقلية فقهية أنتجتها ظروف سياسية معينة، لإنهم يعتقدون بأننا مفسدون في نظام الكون القائم على أسس عقدية محددة، لكن من أي جانب قادوا هذا الإصلاح الذي يزعمونه.؟ هم قالوا بأن الإنسان قد انحرف عن الديانة، وحاد عن الجادة، فيجب إعادته بالقوة إلى الطريق المستقيم. هم ليسوا نبلاء كما كان أولئك الذين نظروا إلى بشرية الإنسان، فقعدوا له قواعد تعيد إليه عقله الواعي والمدرك للحقائق على ما هي عليها ماهية، لا ظلا، وخيالا، بل هؤلاء الدواعش، قد أنبتتهم الأماكن المهجورة العقل سواء في الغرب، أو في الشرق، ومهما تحررت نظرتهم من ثقافة الاستبداد، فإنها لن تكون سديدة، وقويمة. لأنهم أحسوا في لحظة من الزمن المنصرم بين الألم الخبيث، بأن الإنسان هو الذي كان سببا فيما وصلوا إليه من أوضاع فاسدة، وأحوال غامضة. فالمتبرجة قد أساءت إليهم حين تاهوا في مفاتنها بين ركعاتهم الخاشعة. وذلك الذي حلق لحيته الكثة، ولبس بزته الأنيقة، هو الذي أساء إليهم بصورته الفاتنة، لأنهم مردان ينقضون نقاء الوضوء بخيالاتهم الماجنة، ويسيئون إلى قيمتة الرجولة الخشنة، فذقونهم الحليقة، تذكرهم بالأنوثة الناعمة. فهؤلاء مفسدون، يفسدون العقول، والقلوب. فيجب إزالتهم من الوجود، حتى لا تحصل منهم الفتنة في الدين، والدنيا. أجل، هكذا يفكر الداعشي، وهو يتألم لما يراه من تغير في واقعه، وتبدل في أحواله. بل أحس بضياعه بين مادية الحضارة، وفراغه بين إفرازات المعرفة، والثقافة. فلم لا ينتقم لذاته بما يبديه من لطف الدين، وقساوة الطبع الخشن المنبت، والنشأة.؟ كل ذلك موجود في قاع فكره، ولو لبس جبة المعتدل الحنون. وأتذكر أننا حين كنا صغارا، وولجنا دير الحركة الإسلامية، أو ما اصطلح عليه بعد بالإسلام السياسي، أو ما اصطلح عليه في زمننا بالفوبيا الإسلامية، لم يكن همنا إلا أن نحارب غرائزنا، وشهواتنا، وما أصعبها من لحظة، وما أتعبها من فكرة. أجل، لم نشعر بأننا وجدنا في مجتمع يتحرك بسرعة إلى الأمام، ولم ندرك أننا خلقنا للحياة التي نحيى تناقضاتها، وارتباكاتها، بل كان همنا أن نتخلص من كل ما يعيق سيرنا نحو المثل التي حبرت في أذهاننا بلا قواعد منطقية. وقد ألزمنا ذلك كثيرا من الانفعالات المختلة المقادير، والأوزان. فأحيانا نعتب على نفوسنا، وأحيانا نلوم مجتمعنا. فلو أدركنا أن الإنسان اجتماعي بطبيعته، وأننا لن نعيش خارج سياق الحياة التي فرضت علينا حقيقة، لكنا أقرب إلى فهم ذواتنا، ودرك ما فيها من نوازع الشر، والخير، لكن حلمنا كان هدما، ونسفا. فهل سنزيل وسائل النقل العمومي، لكيلا نختلط بالفتن التي تحرق أفئدتنا.؟ أم سنهدم الأسواق، حتى لا يمتزج الشيطان والملائكة في عقولنا.؟ أشياء كثيرة تغتص في قبوها هزات أفكارنا، ونحن نأمل أن يرجع التاريخ إلى الوراء، لكي نعايش صفاء أخلاق جداتنا، وعماتنا. شيء ثقيل وموجع لنا، ونحن لا نملك سوى هذه النظرة السوداوية إلى ذواتنا، وإلى مجتمعنا. فلو بقينا سجناء لهذه النظرية، فإننا سنفقد الذات، والمجتمع. وذلك ما حدث لكثير من المتلزمين برقية الحركات الدينية. فإما نفور من قفصها إلى تيه سحيق، وإما عذاب يسوس الإنسان إلى الغلو، والتطرف. فلم لا ننبش في تاريخنا، لعلنا ندرك كثيرا من الأسباب التي جعلتنا حيارى في عالم هادئ، ولطيف.؟ تلك الثقافة التي تجرعناها في غفله منا، لم تكن قادرة على صنع القرار الإيجابي في ذواتنا، فلم نعتب على المجتمع، وهو إفراز حقيقي لكل ما كمن في عمق الإنسان من ارتباك، وتناقض.؟ المجتمع، هو الصورة الكبيرة للإنسان. هذه عقيدتي. فلو ملكنا إنسانا حقيقيا، لكان المجتمع سليما، وقويما. لكننا ملكنا إنسانا أبدعته تربة نشأت بين المتناقضات، فلا عيب فيه إذا لم يكن مؤهلا لقيادة ذاته، فضلا عن أن يقود العالم بثقافته. فأي قرار هذا الذي سيملكه من تفسد عليه جارية رآها في الشارع العمومي مناجاة صلاته.؟ وأي إنسان هذا الذي أتعبه غض النظر، فانهار سطح فؤاده، ثم لجأ إلى عالم الأحلام، يستلهم منه صورة تلك الغيداء التي فتن بها على الشاطئ.؟ وأي إنسان هذا الذي يضاجع الصور، وهو يتلذذ باستمنائه، وإذا ما أراح ذاته من عبء الصبوة، انتشى، وفرح.؟ غريب أننا تربينا بثقافة لا تجد نورها إلا في الظلام، ولا تحس بوجودها إلا بين أقباء الألم، والحزن، والعتاب. أجل، لقد كان كتاب الروض العطر، ورجوع الشيخ إلى صباه، ونزهة الألباب إلى ما لا يوجد في كتاب، جزءا لا يتجزأ من ثقافة الشعوب العربية، والإسلامية، فلا غرابة إذا كانت الأنثى نارا تحرق الدين، والعقل، والقرار. تلك عاهتنا، وآفتنا، ولو ابتغينا الحقيقة من غيرها، فإننا نرجف، ونجدف، ونكذب. بل لا غرابة إذ عدد الداعشي الزوجات بمقتضى الشرع، وهو يستبطن بين سديم نظر عمقه رغبة جامحة في المتعة، واللذة. ولا عليه إذا غادر فراش زوجته التي ترك مصيرها لله، لكي يتمتع بملك اليمين في غور الصحراء. أي إنسان مسؤول هذا الذي ترك أسرته لرحمة القساة من الذئاب القرمة إلى اللحم البشري، ثم استقبل بوجه نيرانا تحرق الأخضر، واليابس، وهو لا يدري تحت أي راية يقاتل، أو يجاهد.؟ وأي كرامة لهذه المرأة التي رضيت أن تفارق زوجها بسيل مدرار من الدموع، وهي تقول: أرجعك الله إلينا سالما، وغانما.؟ هل أرسلته ليتعلم حقيقة العلم، والمعرفة.؟ أم أرسلته ليحارب قيم تخلفه، وفقره.؟ لقد أرسلته إلى مكان منظور لأعين العالم، بل هو مركز نظر النار سماء، وأرضا. أجل، لقد أرسلته إلى محرقته، لكي يحارب حضارت كل الأمم، والأقوام. وثَمَّ سيظفر بدولة دينية، أو بقنبلة تفجر جسده بين الرمال الغادرة. أي غباء هذا الذي نال عقل الإنسان العربي.؟ فالإصلاح الذي تبناه الدواعش في مسير تاريخ أمتنا العربية، والإسلامية، يجعل علماء الدين على عتبة مسؤولية ضخمة. أجل، هي مسؤولية جسيمة، وعظيمة، وإن لم يسع علماءنا إلى إزاحة هذا الغول الفكري والثقافي عن عقول الأمة، وخلدوا إلى الأرض، ورضوا بحطام الدنيا، فإنهم سيضيعون مستقبل هذا الإنسان المنكود المغلوب على أمره. كلا، تلك مسؤوليتنا، وتلك هي الأمانة التي نتبجح بالوفاء لها. لو وفينا بحق الضمير، والدين، والخلق، لما كانت رغبتنا في المناصب، والمراكز، ولما تهارشنا عليها، ولما تقاتلنا من أجلها. بل الأغرب أن ننافس الأغنياء على موائد عهرهم، وخداعهم، ونظن حظوتنا عندهم هي المثال الأكمل في تبليغ رسالتنا، وترسيخ قيمنا. مهمة العلماء، هي إطفاء الحريق الذي يحرق فلذات أكبادنا، ويهدم حضارتنا، ويشل حياتنا. لكنني وبصدق أقول: إننا نحتاج إلى نوع معين من العلماء. نحتاج إلى عالم تنبع من أعماقه حقيقة الإنسان، وتتفجر من صوته أصوات المنكوبين، والمحرومين، والمفقودين. إذن نحتاج إلى إنسان نوعي، يمتلك حسا وذوقا جميلا، وعلما بانيا، ورافعا، ولا هم له سوى أن ينكر ذاته من أجل غيره. وما لم نمتلك علماء من هذا النوع المفعم بالخصوصية الإنسانية، فإننا نصب النفط على النار، ونضيف أمدا بعيدا للبعد المادي في الإنسان المحترق تحت ظلال راية الإله المجسم في العقول الخامدة بصورة عاشق الدماء البريئة. وما أشدها من فتنة إذا اشتعلت، وما أحقرها من نية إذا فسدت. تلك هي مهمة العالم، لا ما يزفر به اللص من وعد، ووعيد، وإذا ما أتعب العقول بهرائه، وسفاسفه، نام على فراش الخداع، وفروة الدهاء، وإذا ما تهلل الصبح بين عينيه الغائرتين ببؤس المطالع، عاد إلى الصراخ، والبكاء، وآب إلى حمش ما في جراب الأغنياء من متعة، وصبوة، وغلمة. فالعلم يا أصدقائي، ليس حكاية تحكى في الساحات العمومية للتهريج، والإثارة، والإغراء. العلم، هو رسالة للإنسان الحقيقي، ومن غيره، لن يكون لنا أمل في دور عبادتنا، ولا في مراكز وعظنا، ولا في مجاثم إرشادنا. العلم الحقيقي هو الذي يتبنى قيم الإصلاح المستوحية لحقيقة الإنسان ومكوناته، وعواطفه، ومشاعره، وإحساسه، وذلك مما لا يقوم به متصلف، ولا متزلف، ولا مدع، ولا متطاول، ولا ممتلئ الذات بغرور الأنانية، بل يقوم به النبلاء الذين باعوا ذواتهم لحماية ذات الإنسان، واسترخصوا المتع لحماية المجتمعات من نيران الكراهية، والضغينة. أمر محتوم على العلماء، والمفكرين، والمثقفين، أن يعترفوا يقينا بأنهم بدون ذوات بشرية أمام ذات الإنسان البشرية. ومن ثم، فإننا لو جعلنا الإصلاح بأيدي الأنانيين، والمرضى نفسيا، واجتماعيا، فإن طريق الإصلاح ستكون مأتما مغبونا، لا فرحا بذلك اليوم الذي نشعر فيه بنعومة الحياة، ولدونة الوجود، ورطوبة الكون. فكيف يمكن لي أن أصدق إنسانا يزعم المشي على طريق الإصلاح، وقد عرفناه قبل أيام فقيرا، ثم استحال غنيا.؟ هؤلاء، هم الذين يزعمون أنهم يمتعون الإنسان بما يسبلونه من رغفان يابسة على الفقراء بدعوى الأعمال الخيرية، وهم في الحقيقة لصوص. فهؤلاء يستجدون الجيوب بما يزعمون كذبا بأنه خدمة الإنسان. فخدمة الإنسان لا تكون للاسترضاء، ولا للاستقواء، ولا للاستجداء. لو استجدينا مدح المحتاجين بخدماتنا الاجتماعية، لكنا أنانيين، وعاجزين، ومنكوبين. فماذا يطيق هؤلاء الذين لا يتجاوزون قفص ذواتهم العليلة أن يريحوا به الإنسان المعذب الجناب، والجناح.؟ لا أرى هؤلاء إلا محتاجين احتياجا أشد إيلاما من احتياج هذا الفقير إلى كسرة خبز يحارب بها جوعه، ومسغبته.! خدمة الإنسان، لا يطيقها إلا النبلاء، والظرفاء، والنجباء، والأذكياء. فأنتم ترون معي أناسا تمرون عليهم في الطرقات، يرفعون لافتات عريضة الكلمات، ويغرسون على الرصيف علامات. وحين تقرأ ذلك المكتوب بخطوط جميلة، فإنك تجده طلبا لمساعدة بناء بيت للعبادة. أستغرب هذا الفعل، ولا أظن غيري سيتغرب ذلك. وله حق في أن يرى ما أرى، أو أن يرفض، وذلك حق طبعي في الحرية. وأقول: لو بنينا دور عبادتنا بهذه الطريقة، فأي جمال فيها.؟ فالبناء، لا محالة سيكون محلا للعبادة. ولكنه لم يكتسب في عمقي ذلك البعد الروحي المتفاعل مع جمالية الطلب، والوسيلة، والهدف. قد يكون ذلك مستساغا لغيري، ولكنني أرى أن كثيرا من هؤلاء لهم أماكن جميلة للعبادة، لا أدخلها إلا وأحسست فيها بنسمة التاريخ، ونفحة تلك الأرواح الطاهرة التي قضت على حصيرها ردحا من الزمن، تقودها روحانية بسيطة، ونعومة تجذب الإنسان إلى اللطف، واليسر، والأريحية. هذه الأشياء العتيقة توحي إلي بقيمة جمال التدين الناعم الفكر، والحدث. وما أحوجنا إليها. فتأملوا معي حين تلجون ضريحا من الأضرحة. ألا تستوحون منه روح الإنسان.؟ نحن لا نقدس الضريح، ونوقن بأن الموتى لا ينفعون، ولا يضرون، ونجزم بأن فقدان الحياة نهاية لكسب الإنسان، وسعيه. تلك عقيدتنا، وعقيدة آبائنا، وأجدادنا، ولا أخال أحدا يقول بأن ما وراء القبة هو الإله الحقيقي. بل لا أحتاج إلى كتب تهدى ولا تباع، لكي أتعلم منها نظامي العقدي، والفكري. فأنا وغيري، نؤمن بالحقيقة، ولكننا حين نلج هذه الأضرحة، نحس بجمالية المكان، نحس بالإنسان المختلف الحقائق، نحس بالتاريخ الصاعد بين جوانحنا، نحس بتلك الأرواح التي زخرفت القبة، ونقشت الضريح. أشياء جميلة نحس بها هنا، وبين طياتها عمق ثقافة الإنسان، وتاريخه، وحضارته، وطرق تشكل بنيته النفسية، والعقلية، والاجتماعية. وهنا يدرك عالم الاجتماع كيف تكون الثقافة إنسانا، وكيف يصير الإنسان ثقافة. فأي شرك في هذا، حتى نهدم الأضرحة، ونقتل الزوار.؟ في هذه الأضرحة، بل في كل دور العبادة يحملنا عشق الروح إلى مدارات ندرك فيها عبق التاريخ، وعمق الإنسان، وشجو الحضارة. فلم صارت عقولنا تكره القديم في دور عبادتنا، لكي تتحول إلى أكوام مبتورة التاريخ ما بين الطين، والإسمنت.؟ شيء تافه ما أقوله، لكنني أحس بهذا في عمقي، وأنا أشعر بهوان ذاتي في هذه الزخارف التي لا تنتسب إلى تاريخي، وحضارتي. فلو بنينا دور العبادة للاحتياج، وحافظنا على رسومها التاريخية، والحضارية، فإننا نصل بين الأمدين، أمد كان ناعم الدين، وأمد بدا غريبا في عقل المتدين، وهو حائر، لا يدري إلى أين متجهه.؟ فلنحافظ له على خصوصيته، لعله إذا وجد ذاته بين مخاض الآراء، سيعثر على رابط يربطه بتاريخه، وحضارته. تلك أمنيتي الحقيقية، وأنا أمتعض من هذه اللافتات التي توحي في ظاهرها بشيء، وهي تستبطن التنافس بين المداشر، فهؤلاء هدموا القديم، وبنوا الجديد، وهؤلاء حذوا حذوهم، حتى لا تنفلت فرصة الجديد من عقول أتعبها الصراع بين ما هو أصيل فيها، وحديث معها. وهنا تضيع الكليات، والقواعد. فيصير المطلق لعبة في أيدي العامة. فيا أصدقائي، إن وضع مصير تاريخنا وحضارتنا بين أيدي الرعاع، والسفلة، والدهماء، سيفقدها خصوصيتها الروحية، والأدبية، وسيجعلها رغبة نفسية مرتبطة بفئة حبيسة النظرة، والفكرة. وهذا مؤلم لنا، لأن دور عبادتنا، إن لم تنتج غضارة الذوق، ورهافة الحس، ستنتج الاختلال في التوازن الروحي والمادي في أمتنا العربية، والإسلامية. فتأملوا معي داعشيا سيفجر جسده العفن بأفكار منتنة في المسجد الأموي، لا لشيء إلا لأنه يجسد قيمة تاريخية، وحضارية، فكيف سيكون مصير أبنائنا الذين ضاع من حاضرهم ما يربطهم بتاريخهم التليد، والعريق.؟ لا محالة، نحن مضطرون إلى أن نعيش هوس الحضارة الغازية، وإذا فقدنا كل خصوصياتنا الروحية، والمادية، فإننا لن نجد بين أعيننا إلا يبس الإسمنت، وسواد الإسفلت. شيء محير لعقلي، وأنا أرى ما يربطنا بقيمنا الذاتية يهدم، وينسف. فلم لا ننتفض على هؤلاء الذين أرادوا قتلنا ببطء، لكي نعود إلى الوراء بمئات السنين.؟ فإلى أي اتجاه تسير هذه الأمة، وهي تهدم كونية وعالمية هذا التاريخ، وهذه الحضارة.؟ فيا أصدقائي، إن ما نشمه من رائحة تلك العاهرة، ما هو إلا دعارة معنوية، قد انطلت خدعتها علينا، وظننا أننا قد سلبنا بشيء له حقيقة. لا، لا حقيقة له. فالحضارة الغربية تنتحر، وانتحارها ليس بأيدي الدواعش من بني جلدتنا، بل بأيدي دواعشهم الذين فقدوا الإنسانية، وصنعوا الخراب، والدمار. ولكن متى، وكيف.؟ ذلك ما لا أطيق التكهن به، ولا تخرصه، ولكنني موقن بالحتمية التاريخية، وجازم بأن سنن التغيير قائمة، بل جازم بأن القوانين الإنسانية والكونية التي تقوم عليها الحضارات قد انتهى وهجها في حضارة الغرب، ولم يبق منها منها إلا الحديد، والنار، وصارت أقرب إلى الفناء من البقاء. فالحضارة التي تحمل عوامل زوالها، لا بد أن تزول، لأن الحضارة ملك للإنسان، وإذا بنت الحضارة الأرض، ولم تبن الإنسان، فإنها قد خذلت دور الإنسان، وأثبتت دور الآلة. ولا آلة بدون عقل الإنسان. فالآلة لا عقل لها، وإذا خربنا عقل الإنسان، صارت الآلة بلا عقل، وإذا صارت بلا عقل، أفسدت، وحطمت، وهشمت، وهدمت. وهذا ما آل إليه عمل عقل الفلاسفة الذين بنوا حضارة الغرب. ففلسفة الأنوار التي قامت عليها، قد تنكر لها الخلف، وأحدثوا بدعة صراع الحضارات، ومن بعدها نفث الشيطان فيهم همزاته، ونفخاته، فقالوا بموت الحضارة، وبقاء حضارة ذات قطب واحد، هي الإمبريالية، وأنموذجها الحضارة الغربية، ثم غزوا العالم لكي معبوده إلها واحدا، هو الإنسان الغربي الفاقد لخصوصيته الإنسانية. فماذا تنتظرون من غول استوحشته القلوب والعقول الهادئة.؟ فالعالم اليوم لا يمنحنا هباته، وعطاياه، بل يسبل علينا رداء الوحشة، والغربة. ويجعلنا نفكر في الخلاص، والفداء. وذلك أمل كل المعذبين بالحروب، والغارات. بل أمل حتى أولئك النبلاء من الساسة، وهم قد وجدوا مصالح الشعوب بين أيدي حفنة من البشر، تمتلك النار، والحديد. ولا تمتلك المشاعر، ولا العواطف. بل لا أخال إنسانا يتمتع بالهواء الرطيب، ويعشق زقزقة الطيور، وحفيف الأشجار، وخرير الغدران، وشعاع الشمس على مسام البحر عند الغروب، وبزوغ الفجر الصادح بالنغم الرخيم على قنن الجبال، لا يعشق الحياة اللطيفة على هذا الكوكب البديع. 
في بعض نوبات الوجع، تقودني رحلة الفكر إلى بعض الثانويات العمومية، لكي أشارك في ندوة، أو أن ألقي محاضرة، فأجدني أمام طلاب تختلف طرق نظراتهم، ونوعية إصغائهم، فأمر بعيني على وجوههم، لأقرأ ما عليها من ملامح غامضة. شيء يجثم على عقول هؤلاء الشباب، قد يراه غيري في طريقة تربية شعرهم، وقد يراه غيري في نوع لباسهم، وقد يراه غيري في كيفية استماعهم. وأحيانا يكون إلى جنبي أناس قضوا عمرا طويلا في التربية، والتعليم، وأحيانا يكون إلى جنبي شبح ذاتي، فأتساءل، بم تشعر يا أيها الغريب.؟ أجل، أنا غريب، لأنني لا أمتلك شواهد جامعية، بل لا أمتلك إلا صفة عالم، أو صفة رجل دين. شيء متعب أن تكون رجل دين، وقد فرض عليك أن تعيش حياتك برتابة، بل بطريقة فيها كثير من الملائكية. فالملائكية تفقدنا صفاتنا البشرية، وأحيانا تدفعنا إلى لبس الأقنعة، وأحيانا إلى النفاق، والخداع. شيء يحس به رجل الدين، وهو يرتبط بسياق لا يختار فيه ذاته، بل ليس مخيرا بأن يكون هو ذاته. وهنا نفقد الحرية. ولا أبداع بدون حرية. فماذا سيقوله رجل الدين لطلاب، أو لتلاميذ، لم يعش ما يعيشونه، ولم يخض غمار ما يخوضنه.؟ هنا أحس بالفصل الذي حدث بين تاريخنا. لكنني أحاول أن أستعيض عن احتياجي إلى ما يعيشونه بما أعرفه من ابني، وابتني، وهما يخبان بين دروب الحياة بما يصرخ به هذا التلميذ، أو بما تسخر به تلك التلميذة. فأرى تلك البراءة على وجوههم، فيزول ألمي، ووجعي، ثم أتيه في تفسير ما يكمن في بواطنهم من زلل، وخلل، فأحيانا يكون مزاجي قاسيا، وكثيرا من الأحايين، لا أجد في لغتي تلك الحدة، والشدة، فأرى فلذات أكبادنا كيف وضعت على محك خطير. أجل، قد وضعت على محك خطير، لأنني أشعر بأمرين اثنين: 
الأمر الأول الفراغ العلمي، وهو العار الذي لحق مناهجنا التعليمية، وهي نتشئ أجيالا مبتورة الصلة بعقولهم، وقلوبهم، وهذا ما يدفع بها إلى التيه، والضياع، والفراغ. وليتي بهؤلاء الذين يغارون على أبنائنا أن ينظروا إلى هذا المثلب المعيب، والمشين، فيحدثوا في مناهج تعليم أبنائنا فن تربية الذوق، والجمال، والحب، والخير. شيء فقده أبناءنا في فصلهم الدراسي، وفي طبقات المجتمع، وفي واسائل التوجيه، ولذا تاهوا في عشق المحال. أجل في الإنسان عشق مكنون، ومكتوم، وحين تضيع معالم تحديده، نخاله فيما نتصوره خيرا، ونفعا. فلم نعتب على أبنائنا فقدانهم لأهلية التمييز، وهم لا يستوعبون تفاصيل العالم الذين يعيشون فيه.؟ لا يؤلمني أن تنتشر الأفكار الهدامة بين شبابنا، لكن ما يؤلمني، هو أننا لم نستطع أن نخلق في وعيهم جهازا للمراقبة. لو ملك أبناءنا هذه المصفاة، لكانت عقولهم رقيبة عليهم أكثر من رقابتنا التي تكتفي بالزعيق، والعويل. لكن حشاشة قلوبنا قد ضاعت، وضاع معها هذا الشاب بين دروب التيه. فلم العتاب، وقد قصر دورنا عن الوفاء بمسؤوليتنا.؟ تلك تربيتنا لأبنائنا، ونحن نربي الدهاء، ولا نربي الذكاء. لو ربينا الذكاء في أوذواق حياتهم، لما تألمنا لمبشر يبشرهم بالخلاص، وهو يقول لهم: تحرروا، تغنموا. شيء مؤلم أن يعيش أبناءنا بين ذئاب البشر، وهم قادرون على أن يمنحوهم ما فقدوه منا. ونحن حين انتباتنا مشاعر الضياع، ونظرنا إلى ضياع الأبناء، بدأنا نسب، ونشتم، ونلعن، ونقول: إن الغزو الفكري، والإعلامي، والثقافي، هو السبب في معضلة فقدان الأبناء. لا، لو كنا نتعامل بعقل الأب الرحيم، لكانت عاطفتنا حماية، ووقاية. لكننا أسرفنا في ضخ سمومنا بين عمق أبنائنا، فاجتالتهم شياطين الإنس، وأوردوهم موارد الهلاك. قد يفهم مستمع أنني أزوال هنا مهنة الوعظ الخطابي، لا، إنني أتألم، وشعوري بما حدث، لم يجعلني ألوم أبناءنا، ولا أولئك الذين أشبعوا فراغهم بالعواطف الجانحة، والجامحة، بل ألوم أولئك البكائين، وهم يسيرون في ركب التوابين، ويقولون لنا: إن مشكلة أبناءنا، أننا أتخمناهم بالعلوم البحثية، وأفرغناهم من التربية الدينية. أجل، قد يكون هذا سببا، ولكنه بسيط في تقديري، لأن المعلومات الدينية، إن لم تهذب مما علق بها من أمراض النفس، والعقل، والقلب، لن تكون إلا ضياعا بين جؤجؤ الصحراء. فتأملوا معي ابنتي تسألني في هذه الأيام عن الفرق بين الشيعة، والسنة، وتلح علي بأن أصحح لها حكم أستاذتها على الشيعة بأنهم كفار. أي فكر سوي ستبنى عليه ملامح عقل ابنتي، ونحن لا نعيش صراعا طائفيا في وطني.؟ فيا ابنتي أنا لا أريد منك أحكاما، بل أريد منك أن تتعلمي كيف تتقنين فن البحث عن الحقيقة. فأنا أبوك، ومن الوفاء لضميري أن لا أشبع نهمتك بما وصلت إليه من حقائق. فابحثي عن ذاتك بين الذوات، فإن رأيت زللا قومت اعوجاجك، وإن رأيتك تخبين نحو بركة الحقيقة، فإنني لن أكون رقيبا مقلقا، بل متابعا رحيما. فمشكلتنا ليست فيما يجابهنا به بعض الشباب، وهم يقولون: لم حصص التربية الإسلامية ضئيلة أمام حصص المواد العلمية، والرياضية. لا، ليست المشكلة هنا، فالتربية الدينية يمكن لك أن تتعلمها من عقلانية دور العبادة، وأن تتعلمها من ثقافة أبويك، وأن تتعلمها من أخلاق مجتمعك. لأن الدين يا ابنتي، ما هو إلا نظرية الجمال في الإنسان، والوجود، والكون، والحياة، والطبيعة. فلم نتألم لهزالة الحصص الدينية، ونحن نمتلك وسائل تؤدي وظيفتها إذا كانت جهوزيتها كاملة.؟ بل أي فائدة في معلومات مبتورة الصلة عن الإنسان، والتاريخ، والحضارة، ومجتمعنا أناني، وجشع، وشرس.؟ فالدين ليس معلومات مجردة نلقنها جيلنا الصاعد. وليس وعظا مأساويا يثير البكاء والحزن، وليس كلاما جريئا يفسد الذوق والحاسة العامة. وليس تهريجا يفضي إلى السخرية، والاستهزاء، وليس جنون عظمة نتضخم بطهارته على المفقودين بين خراب القيم، والأخلاق. الدين رسالة، هو قول، ومنطق، وموقف. وإذا ما حولنا إلى معلومات مجردة عن سياق الكليات الناظمة لكل منظوم في الوجود، فإنه يحدث الفراغ، والضياع، ويصرف جهدنا عن بناء الإنسان، والتاريخ، والحضارة. وهنا نسهم بسهم في نشأة الدواعش. ومن هنا، فإن محاربة الدواعش، تأتي بمحاربة كل فكر، أو تربية، أو تعليم، لا يقوم بوظيفته الحقيقية، وإنما يسطح العقول، ويبلبل الأفكار، ويزلزل المفاهيم.! فلا غرابة إذا تركنا حبل شابنا على غارب المجهول، في أن يفقدوا المعلوم، لكي يكونوا ضحايا للذئب، والثعلب، والسبع. فالعالم، ليس بهذه الصورة من السواد القاتم، لكننا لا ننكر بأن فيه وحوشا آدمية، تستطيع أن تضحي بالمال من أجل إغراق أبناءنا في معرة الأمراض القبيحة التي تنتشر في الإنسان المشلول في الغرب، وهو لا يملك حقلا يجرب فيه علله إلا أبناء الفقراء في العالم المتخلف. 
الأمر الثاني: اكتشفت من التلاميذ رغبة في استكناه المجهول. وهذه الرغبة ليست مؤلمة لي، لأنها تعبير عن البراءة. وكل إنسان يحمل هذه البراءة. وقد نعبر عنها بذلك الطفل الصغير القابع في أعماقنا. أحيانا يضحك، وأحيانا يبكي، وأحيانا يصرخ، وأحيانا يركد. ذلك هو الإنسان، ولا يمكن لنا أن نعتبر الإنسان سويا، ما لم تمتزج فيه هذه التناقضات. فلم نتألم إذا ضج هذا الشاب بالصراخ.؟ لا محالة سيصرخ، وإن لم يصرخ، فإنه يحفر لتلك الصرخة في عمقه غورا. وإذا ما عن له أن يصرخ، فإنها ستكون صراخا، وانتقاما. وفي حدود تقديري، إنني أفضل أن يصرخ الشباب ببراءة من أن يصرخوا في جوقة الانتقام. شيء مؤسف، أن نرى تربيتنا، وتعليمنا، لا يطيقان أن يكتشفا البراءة في أبنائنا، بل لا يطيقان أن يتعاملا مع الصراخ البريء، بل يفضلان كتمان ذلك على الظهور. فدعوا الصراخ أن ينتشر، وإلا، فإننا سنسمع صراخا لئيما في زمن قادم. كلا، بل الأفضل لنا أن يكون صراخ أبنائنا في لباسهم، وشعرهم، ومشيهم، وعشقهم، عوضا عن أن تصرخ جنادب الصحراء في عقولهم، ثم يتحولون إلى براكين تتفجر بالحقد، والكره. كلا، بل عقل بريء من أفكار الهدم للتاريخ، والحضارة، أعمق في التحرر من عقل نتن بأوضار التاريخ، والحضارة. قد تقول لي: قد نقضت ميثاقك، وقلت بشيء غير مقبول فيك. لا، يمكن لي أن أشرح الأمر في جانبين: الأول: إن البحث عن المجهول الذي يكتنف عقول أبنائنا، سيوصلهم إلى المعلوم. فهم الآن يستهلكون حضارة الغرب، ولن تكون خطا للرجعة في مستقبل عودتهم. الثاني: أن عقولهم انتفش فيها مرض الحضارة التي غزتنا ببريقها الخادع، وهم يتجاوزنها بقوة، وإذا ما نضجت فكرة الذات، وامتلأت بالذوق الرفيع، فإنها ستعود إلى تاريخها، وحضارتها. فأنا لست رجلا درس المستقبليات، ولكنني آمنت بلغة الأدب، وبها أقول: إن الشيء الجميل لا يولد إلا بعسر، فعلينا إرضاعه، وإذا فطم، فإنه سينضج عوده، وسيقوى فرعه، ولن يكون لنا عليه خوف. فلنزل الخوف من أبنائنا، لكي تكون تربيتنا أملا، وفرحا، ونشوة. ولنعلم أن كل شيء تجاوزه الإنسان، فإنه لن يعود إليه، بل فرحنا أنهم يحرقون حضارة الغرب في عقولهم، وإذا ما عادوا، فليجدونا محتفظين على تراثنا، وتاريخنا، وحضارتنا. وإذ ذاك سيكونون وصلا، لا فصلا، ووجودا، لا عدما.

فلذا، نرى بعض المظاهر تنتشر في مجتمعاتنا العربية، هي في غلافها الخارجي خادعة، ولكنها تستبطن كثيرا من الأمراض الهادمة، ولا أدل على ذلك من أمرين اثنين: في الزمن الماضي، كان رمضان برائحة اجتماعية سلسة، وهينة. فهو شهر رغم مرارة صيامه في أيام القيظ الموجع للبطون الجائعة، إلا أنه يجسد القيم المشتركة للمجتمعات المتدينة، وغير المتدينة. لاسيما وأن للناس عادات فيه، وعبادات، وصدقات، ومبرات. ومزاولتها لتلك العادات المرتبطة بهذا الشهر، كان له موقع في الرغبة النفسية، والاجتماعية، قبل أن يكون سوقا للتجارة، والوساخة. فيكفي رمضان جمالا، أنه يشعر الإنسان بالمطلق في الذات، ويشبعه بقيم المجتمع. لكن تلك العادات الممزوجة بتعبد خاص، وخفيف، وبسلوكيات يومية، وعفوية، قد غابت عن المجتمع الإسلامي في زمننا الحاضر، لكي يستقوى فيه هاجس الأثرة، والجشع. وهنا لم نخرج برمضاننا عن قفص الأنانية، بل تنافس الناس في اختيار الأصوات الرخيمة، وتسابقوا إلى موائد الوعظ المترع بالهبات المجانية، وتفاخروا بما يحشدونه من أطايب اللذائذ على خوان المتعة الفاضحة. وهذه سبة داعرة غيبنا بها حس المجتمع الإنساني، وأقصينا معها كثيرا من القواسم التي تجعلنا نشترك فرحتنا مع غيرنا من أهل الديانات الأخرى. كلا، فالمجتمع بدون عادات تعبر عن تاريخه، وحضارته، لا يمكن له أن يستقيم في نهج شريعته، ولا في سبيل تدينه. فلو احتفظنا على عاداتنا، وأعرافنا، وأضفنا إليها شيئا من جمالية التعبد، وروحانية الذكر، واستحضرنا العمق الإنساني في الوعظ، والإرشاد، وأترعنا العقول بالقيم الكبرى للدين، والعقيدة، وأشبعنا نهم المتدين بنظريات متجانسة المبادئ، والمواقف، لكنا قد أدركنا حقيقة وجودنا في عالم سريع، ومتصارع. لكننا نميل كثيرا إلى ما نرتاح إليه، فملنا إلى المساجد المزخرفة، والمزركشة، واستمتعنا بالأصوات الناغمة، والنازفة، وحلمنا بتلك المواضيع التي تثري في عمقنا عقدة الإحساس بالذنب، والاستعطاف بالبكاء. أجل، إنها رقية نشعر بمفعولها في لحظة من اللحظات الباغتة. لكن هل إبداعنا لهذه الطفرة، قد هيأنا له المكان الآمن في عقولنا، حتى نجعله سببا لقفزة حقيقية نحو احترام حق الإنسان وغايته في الوجود، لا علة مدمرة لنا فيما تضفيه على حياتنا من سواد رغبة مكبوتة في دواخلنا المنكودة.؟ ذلك الإحساس بالخوف، والعتاب، والألم، هو الشيء الذي نستسيغ حكايته، وروايته، وهو الشيء الذي يجلب لنا لذة ممتعة، وفي نفس الوقت، يحقق لمن جسد دور تمثيله لذة هاربة. فلذة الشهرة عميق أثرها، ولذة نيل الحظوة كبير فعلها، ولذة كسب المال عظيم وقعها. أجل، هناك لذة تتحقق لدى المتحدث، ولذة تتحقق لدى المستمع. لكن أين حقيقة الإنسان بين اللذتين.؟ فالأول لم يعتبر الآخر إلا آلة صادحة، يهب لحنها طعامه، وماله، والآخر، وجد نفسه رغبة للآخر، فصاغ نفسه مجسدا لكمال الدور المنوط به، حتى تكون صورته حقيقة في رغبة الآخر. فأين الصدق مع الذات فيما نعول به من طهرانية باسمة الاتجاه، والمنحى.؟ فهؤلاء الذين يبحثون عن تلك اللذة الكامنة في أعماقهم المستعرة بعشق الذات الحزينة، لا يبرحون دائرة من يجيد التحدث عن أفراحهم، وأحزانهم، وإذا ما صار خطاب الحداة مملا في الإصغاء، انحازوا إلى رغبتهم الكامنة في صوت آخر، تتجدد به نغمة الحزن، والبكاء. فلا غرابة إذا وجدنا أصواتا تتململ هنا، وهناك، وتتنافس هنا، وهناك. وهي ثرة الينبوع، تغري، وتثري، وتبدع، وتنتج، ولا نهاية لها إلا يوم آخر تموت فيه الخرافة والأسطورة بين العقول الخامدة. فهل واقعنا لا يجيد إلا صنع الأصوات الزاعقة بالنحيب، والغريب.؟ أجل، تتنافس الأصوات في ميدان الإطراء، والإغراء، ولا هم لها إلا أن تحدث في العواطف السجينة تلك اللحظة الأليمة. تلك اللحظة التي يشعر فيها المذنب بأنه قد خفف عن همه، وغمه، وكمده، بل تلك اللحظة التي يحس فيها الظالم لنفسه بأنه قد نال صك الغفران من فم الراهب العطوف، الحنون. لذات تتحقق، وهي مريحة للصراع الداخلي، والباطني، لكن سرعان ما يبرز قرن صوت جديد، فينحاز إليه حماة ذواتهم بآمال التباكي على حائط الزمن الماضي المترع بالطهارة، والرزانة. ثم يترك ذلك الصوت القديم، لكي يصدأ عرجون حلقه بآلام الموائد الفقيرة، وتخلق في طريقه الإشاعات المرجفة، والمغرضة. وهكذا يكون مطرب الأمس مغمورا، ومنكورا، لكي تتحول الأعين إلى طروب يبقر في العواطف أخدود الأمل الباكي، والحاني. فلا غرابة في ذلك، فاللذات تختلف باختلاف الدافع إليها، وما قامت به أمس البارحة، قد لا تقوم به اليوم في سوق التجارة بالعواطف المغمومة، لأنها غير مستقرة، وهي مرتبطة بالنفس، وتتأثر بكل الموجهات لها بين الحقائق المختلفة. ولذا، فإن ما نحدثه بعدم صدقنا في التوجيه من فراغ بين جمال العقول، لن نطيق إشباعه فيما سيأتي من عمق المأساة، بل سيكون مظنة لأفكار تزحف في الفضاء، والسماء، وتتسلل من النوافذ، والأبواب، وتختفي بين رماد الذوات المعذبة، والمتألمة. وإذا ما نهض المارد وسط هذا الخراب الموحش، فلن يكون طفلا وديعا في علاقته بالآباء، والأجداد. لا، سينتشر الرعب، والهلع، والخوف. وحينئذ، ستكون هذه الوجوه المجدورة هي المحددة لنظام الدين، والدنيا، والآخرة. فيا للحسرة، وكأني بهذه الوجوه المخيفة، لا تريد في عنف نظراتها إلا أن تنقض على المجتمع، لكي تعلمه كيف يتعبد بشعر لحيته، وكيف يتدين بجلد العصاة، وشنق الفساق. أمر خطير إذا حدث، ونزل، وهو الألم عينه، ونفسه. وإذا ساد سواده البلاد، والعباد، فلا أمل للمذنبين في حياة مليئة بمنغصات الشهوة، والنزوة. بل سينتهي زمن الحرية، فلا نكاد نسمع إلا صوتا واحدا. وهناك ستجف أنهار دموع التوبة، وتتعطل صفات المغفرة. فأي بله هذا، ونحن ندمر جوهر الإنسان، لكي يتأسس على أنقاضه ذلك الشخص الذي لا يؤمن بالحوار، ولا يقبل بالرأي الآخر. أمر خطير كما قلت، لأننا سنبني مجتمع الشباب من الملائكة، وهو محال ومتعذر بالقوة، والفعل. بل سينشأ مجتمع شائخ يلبس الأقنعة، ويضمر حقد النظام السائد، ويخفي هناته عن الرقيب، وإن كان يؤمن بها في جلوة خلوته. بل سيبدد كل البنى الدينية، والفكرية، والثقافية، لكي يتخلص من هذا الجاثوم المتعلق بعنقه، وكتفه. فأي استقرار في المجتمع إذا لم يدرك المصلحون ما فيه من أمراض تضعفه عن المسير.؟ سيكون مؤلما لنا ما نحس به إذا نظرنا إلى المجتمعات المنغلقة كيف تحس بالاختناق، بل كيف تحس بألم الخوف، وهي تترنح في عمقها بما تبديه من أمراض في سرها. ومن هنا، فإن التربية على هواجس الخوف، هو المرض العضال في المجتمعات العربية، والإسلامية. لأن الخوف لا ينهي جموح الغرائز، ولا جنوح الأخلاق، ولا يخفف من عبء النفس، والأنا، والضمير، بل ينعكس ذلك على الباطن، فيزلزله، ويضعضعه، ولا يكاد يفارقه إلا إذا هدمه، ودمره. فلم يخاف المتدينون مما يعتري حياتهم من حوب، وذنب.؟ لا أخال إنسانا يوقن بكمال إدراكه لقيم دينه سيتأثر بما يعترض حياته من هنات القصور في التطبيق. ذلك جهد الإنسان، ووكده، وهنا تتجسد الإرادة الحقيقية في اختيار الإنسان. بل، أن نمر بين الدروب الممتلئة بالفجور، ولم تغرنا مظاهر الانحراف عن الطهور، ثم تجاوزنا إلى نقطة النهاية في العبور، لأعظم عندي من متدين يحكي عن ورعه، وخشيته، وهو لا يفقه عقيدة معاشرة الآخرين، ولا يتقن فريضة المرور على المعاصي من غير أن يتأثر بهوسها، وهوجها. فأيهما أعظم في عين الدين.؟ هل ذلك الذي كان له حظ من الحياة، ولكنه لم تملكه، بل ملكها، فعاش في ظلالها بنقاء الصدر، والضمير.؟ أم ذاك الإنسان القابع في كهف، وهو يولول بالتكفير، والتحريم، ويقيم محاكم العدالة بين ضباب الخيال السارح بين السراب.؟ أجل، ذلك الإنسان القادر على ضبط نفسه بين النفوس المتهاوية بين أوراق الخريف، هو الإنسان الذي يريده الدين، وبه ينتشر، وبه يحيى. وأما ذلك الإنسان المهين العزيمة، وهو يتأثر لأتفه أسباب الإغراء، ويتألم لأبسط المعادلات المربكة لعقله في الإنهاء، فهو الإنسان الذي تنتشر فيه مرض الخوف المضني، ثم تستحكم على قلبه فتفقده الأمل، فلا يرى إلا نهاية الكون خلاصا له. وهنا نشأت بذرة الدواعش، وهي فارغة من المحتوى الحقيقي للدين القوي العزائم. وحين خالطت المجتمع، ولم تستطع صبرا على ما دهمها من لذات، ومغريات، لم تر نفسها إلا محاطة بأسيجة الذنب، والخطيئة، فالتأم لديها الخوف، والأمل، ولم تطق المزج بينهما في مركب واحد، فكان منها أن طالبت بنهاية الإنسان العاصي، لعلها تجد تلك الفكرة المفقودة في عقلها. فلا عجب إذا قلت: إن الفراغ معضلة الإنسان. الفراغ لا يعلمنا الأمل، بل يربي فينا عقدة الموت. وتلك هي أمراض شبابنا، وأدواء شيبنا. فتأملوا معي لو ساعدنا شبابنا بعواطفنا الجميلة، فكيف لا تستقيم عاطفتهم البريئة.؟ نحن نعيش فراغا في العواطف النبيلة، فكيف لنا أن نعلمها لجيل الغد.؟ الفراغ العاطفي، هو سبب للفراغ الروحي، لأن القلب إذا قسا نظره إلى الأشياء الحية الجميلة، كان مدعاة لخلل وظيفة الذات. وما الذات إلا جسم للروح. فلو اعتمدت سياستنا التدبيرية على فن تربية العواطف الجميلة، سواء بالفن، أو الرسم، أو الموسيقى، أو المسرح، أو بسائر الفنون الجميلة، فإننا سنخلق مناخا معتدلا للتربية السوية. لكننا حين نغرس في ذوق الإنسان كره الجمال في الإنسان، والطبيعة، والكون، والوجود، فكأننا نغتصب عذرية براءته، بل تلك هي الخيانة العظمى التي أبتلي بها من رأى ذاته فوق الذوات، وأحس بأنانيته أمام عقل المجتمع، وقلبه، وروحه. أجل، نبض القلوب لا مجال لتوقفه، وإلا فقدنا علاقتنا العاطفية بأبنائنا، بل بمجتمعنا، وإذ ذاك، لن يملأ ذلك الفراغ كل ما نبنيه، ولو كانت نيتنا صدقا، وكان قولنا حقا، وفعلنا جميلا. وذلك ما حدث في مجتمعاتنا العربية، والإسلامية. فالدواعش لم يأتونا من كوكب آخر، بل هم تناج تعليمنا، وتربيتنا، بل هم نتاج فقدانهم للثقة في مناهج تدبيرنا للمسؤولية، والالتزام بقضايا الدين، والدنيا. فلم نعتب على الدواعش ما وصلوا إليه من نتائج، ولا نعتب على أولئك المفسدين الذين خانوا ضمير الإنسان، ونشروا سموما فتكت بالعقل، والقلب.؟ فالدواعش، لم يحاربوا تلك البنى التي قام عليها المجتمع إلا حين أحسوا بالفراغ، فلم يجدوا سبيلا لإشباعه إلا في الهروب والنفور من الإنسان. وكأني بكثير منهم يقول: نحن لم نطق أن نشبع شهواتنا بحرية القانون، فها نحن نشبعها بأماني الدين. فهؤلاء ضحايا المعبد، وضحايا المجتمع، وضحايا الثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية، والإسلامية. فماذا تنتظرون من عهد يبحث فيه الإنسان العربي عن كتب الطبخ، والأغذية المسببة للأناقة، وكتب تفسير الأحلام، وتأويل الأبراج، وكتب الثقافة الجنسية، وتقوية الجماع.؟ هل ستنتج هذه المجتمعات الأمية إنسانا سويا، وهي تزداد تخلفا في ميادين العلم، وتضخما في المعلومات الدينية المنكوشة، وعزوفا عن القراءة الممتعة، والتتبع لمجريات الثقافة، والمعرفة، والفلسفة، والحكمة.؟ شيء مؤلم أحس به الإنسان العربي، وهو الفراغ العلمي، والمعرفي، بل شعر بذاته الهزيلة، والرديئة، فلم يبحث لها عن مسببات النهوض نحو الأمر الكامل البناء، والتأسيس، بل بحث عن إرادته الهشة بين كتب التنمية الذاتية، وبرمجة اللغة العصبية، فتاه بين ذلك بلا عودة إلى ما فيه قوام ذاته. أجل، من الغباء أننا نبحث عن الخلاص من خارج الذات. فما الفرق بين كتب التنمية الذاتية وكتب القصص، والوعظ.؟ لا أرى فرقا في ذلك، لأنها أفكار مجردة، لا تنبني على قاعدة فلسفية، ولا دعامة علمية، ولا نظرية معرفية. فقصارى الجهد أنها ثقافة تتخم العقل بآمال خابية، ولكنها غير قاردة على صنع القرار المفضي إلى الحرية الحقيقية. القرار لا يصنع من الخارج، ثم نبتلعه مع الهواء العليل، والمطر البليل. بل القرار هو قرار الباطن. وإذا صفا الباطن في مورده، كان الظاهر مرآة حقيقية له في مصدره. فلم لا نطرح السؤال على هؤلاء الذين اغتنوا بطباعة الكتب المؤثرة في العواطف الحزينة. ونقول لهم: لم قدمتم تاريخ اغتنائكم على تاريخ هذه الأمة المحتاجة إلى من يفضلها على ذاته.؟ شيء رديء يطبع، وهو الذي يردده الوعاظ بجميع أنواع دسمهم المنزوع الطبيعة. فلم لا أطرح هذا السؤال، واعتبره حقيقيا في عقل إنسان رضي بوضعه ضمن تشكيلة رجال الدين. ثم أقول: ماذا تحقق لنا في خطابنا الوعظي.؟ سنوات، ونحن نزعق هنا، ونشطح هناك، ونجود بالصفات المادحة، والألقاب الذامة. هل استطعنا أن ننفذ به إلى أرض العقول، والقلوب.؟ كلام كثير نحكيه، وكلام كثير يسمع. فهل استطعنا أن نحجم به من ظواهر الانحراف في المجتمع الإنساني.؟ قد نسب الآخر، ونحن نرسخ بلغة الكراهية لنظرية المؤامرة. ولكن هل حصنا مجتمعاتنا حتى لا تأتيها رياح الغير من نوافذ التربية، والتعليم.؟ تحدثنا عن الإنسان، وعن استواء خلقته، وقلنا بأن الشيطان يأتينا، فيجتالنا عن مواقعنا، لكي يوقعنا بين حفر العصيان. لكن هل استطعنا أن نعيد الإنسان إلى فطرته السوية، ونقتل تلك الأرضة التي تأكل كتاب الكون في الذوات المعذبة.؟ لقد قلنا بأن تغيير خلق الله، هو تغيير لنظام الكون. لكن هل استطعنا أن نؤسس لفكر يهدم اغترارنا بما يميله علينا شبح الخوف من الغالب، الأقوى.؟ في كل يوم نزفر بأننا يجمعنا مصير مشترك، وهو محاربة كل ما يعادي خصوصيتنا الإنسانية. لكن هل استطعنا أن نخلق جو الإخاء، والمحبة، والخير فيما بيننا.؟ كثيرا ما نردد شتاتنا، وندعي أننا تفرقنا طرائق قددا، ونزعم أن جمع المفترقين في النار إلا الطائفة الناجية، المنصورة. لكن هل استطعنا أن نوحد الإنسان على مبدأ معين، يتحقق به جماله، وكماله.؟ قد نرى خروجنا عن نهج البياض ولوغا في السواد، وأننا لن نحصن أنفسنا من العناء، والشقاء، إلا إذا اعتدلت نظرتنا إلى الحياة، والكون، والوجود. لكن هل استطعنا أن ندمر قلاع التطرف، والغلو، والتشدد.؟ كم من وعظ نبين به سمو ما نحن فيه، بل نقول بخيرتنا، ونهاية الأديان بديننا. لكن هل حررنا إنسان اليوم، وأنجزنا وعدنا في تهيئة إنسان الغد بما تقتضيه نظرتنا الإنسانية، والكونية.؟ قد أسرفنا في اتهام غيرنا، وتبرئة أنفسنا، وخلنا أننا نغتال الأفكار السودواية في عقل الإنسان. لكن هل استطعنا أن نخلق فيه عنصر الأمن، والاستقرار، والطمأنينة، والسعادة.؟ جميل أن يكون وعظنا سببا في تحقيق الحياة الهادئة، والناعمة. لكن هل استطعنا أن نمنح الإنسان صك الهدوء في ذاته، وفي عقله، وفي قلبه.؟ أشياء تنهمر سيولها في قاع عقلي، ولا أدري هل ستتحقق بما نقوم به من وعظ، وخطاب.؟ غريب يا أصدقائي أن يخرج من جبتنا من يرفض كل البنى التي قام عليها المجتمع، لأنه فقد دورها، ووظيفتها، بل غريب أن يخرج من قاعات دور العبادة ذلك الطفل المغتصب العقل، والقلب، لا رحمة تغري فيه، ولا شفقة ترجى منه، يحرق الإنسان، ويهدم الأرض. ثم يقول لنا: أغلقوا معابدكم، وأوقفوا كل أنظمتكم، فإنها لا تجسد حس الأمة، ولا نبض الحياة، ولا قيمة الإنسان. غريب أن يحدث هذا بين صبوة زمن تتداعى فيه الأمم إلى البناء، بل إلى مواصلة سير الأقدمين، لكي يكون للمتأخرين أمل في التنمية، والتحديث، والتطوير.
الأمر الثاني: إذا رأيت هذه الصحوة في ظاهرها، فإنها تبشر بعودة إلى أفياء الدين. وذلك ما تركزه المواعظ الخطابية. لكن أين حقيقة ذلك.؟ لا أراني إلا مقتنعا بأن ما كثر اللغط حوله، لا تكون جدواه قائمة في كل مراحل سيره. وهذا ما يحدث، فالوعظ يلفظ ما كمن فيه، وقد أغرق المجتمعات الإسلامية بأسئلة كثيرة. فالوعظ حين كان خِطة نبيلة، لم يكن بهذه الميوعة، بل كان نبلاء الوعاظ يسهمون بسهم في بناء الإنسان. ولذا بخلوا عليه بالنقاشات الكلامية، والخلافات العقدية. وليست هذه دغمائية، أو باطنية، بل أدركوا إن وعي الإنسان، ولو ارتقى إلى تحصيل نهايات هذه النقاشات، والخلافات، فإنه لن يفصل فيها برأي محدد. ولهذا اكتفوا بما يهيئ المناخ لخدمة الإنسان، وخدمة الأرض بالفلاحة، أو الزراعة، أو المغارسة، أو التجارة، أو الكسب. هذه خدمة نبيلة ادخرها القدر للإنسان، لأنها لا تفصل فيه بين مادته، وروحه. ولذا، كان الوعاظ لسان التوجيه، ولسان الإحساس بنبض المجتمع، وكان وعظهم تذكيرا بقيم العقل، ولو خاضوا في أمر العذاب، وشدته، لأنهم كانوا يزرعون فسيلة العمل في زناد الأقوياء، لا شرارة الغضب في مسام الأشقياء. إذ لا نجاة في الآخرة إلا بالعمل الصالح. والناس كل الناس تعمل، وتكد، وتسعى، ولكنها تحتاج إلى صدق، والصدق علامة على الإخلاص، والإخلاص أمارة على القبول. لكن وعظ اليوم غدا صيدا ثمينا. فالناس تصطاد اللحظة الهاربة، والوعاظ يصطادون مال الجيوب الكاشحة. وإن تعجب فجعب أمر هؤلاء الذين إذا جلسوا على دسم الأغنياء، يسبلون إزار الرحمة، وهو إزار لنبل الرحماء، لا لشجع الأغنياء، وهم يعلمون يقينا أن تلك الأموال المكتنزة، ما هي إلا عرق الأغبياء، ودماء الفقراء. لكن عظم نيل الحظوة عند هؤلاء الذين لم ينزلوا عن قدسية المال المبرق بين عيني اللص الحقير، هو الذي جعل الواعظ نزل عن قيمة علمه، لكي يشعر بقيمة مال الغني. وهنا تحول الوعظ إلى مكيدة يدبرها عقل الشيطان ليصد بها عن الحقيقة، ويشل بها قدم الإنسان عن جدد الطبيعة. فالأغنياء، ما زالوا يحسون بعزة اكتناز المال، والوعاظ شاردون بين مرق المآدب. ينتظرون من الجود أن يمنحهم عين الرضى، والأمل. فهل الإصلاح للعقول، والقلوب، إذا اعتمد على هذه الدسيعة المكروهة، سيكون إصلاحا نظيفا للأمراض الجلية، والخفية.؟ ذلك ما حدث، فالعلماء كان كلامهم موجها، ومسؤولا، والوعاظ والقصاص يتخمون العقول بالآراء، والأقوال، فتركبت في المجتمعات عقليات فقهية. ولا أقول الفقه بمعناه الإصطلاحي، بل الفقه بمعنى "الحكم". ولذا صارت العقول تتقن فن الحكم، ولا تجيد ربطه بالمقدمات، ولا بالنهايات. وتلك آفة خطيرة في تحرير الأحكام النازلة على جوهر الحقائق. فالإنسان الغربي مولع بعبادة الوقت إلى حد التأليه، ولذا صدق بسرعة البرق ما قيل له عن شراسة الإرهابين، وغدرهم، وخيانتهم، فتشاءم منهم، ومن عقيدتهم، ودينهم. وذلك ما حدث في كثير من الاستفزازات التي تأتينا من هنا، أو من هناك. فلا غرابة، قد نصنع الإرهاب بأيدينا، وقد يصنعه غيرنا، بل هو شبكة عالمية تجد وتجتهد في تدبير المؤامرات القذرة، سواء استفاد منها أولئك الذين يوجهونه، ولا يتأذون به، أو استفاد منه بعض الرموز التي تصدر الفتوى على الهواء، لكي يتلقفها من رباه العنف في أسرته، وفي مجتمعه، وفي علاقاته بالأشياء في حياته، ثم يعري صدره، ويقف أمام النار، وهو يكبر، ويقول: موعدنا الجنة. لو كانت الآخرة تنال فقط بإراقة الدماء بدون سبب يؤهلنا إلى التضحية، لقتل كل البائسين أنفسهم، رغبة في راحة الجنة، وهوربا من سعير الحياة المفعمة بالهموم، والغموم. لكن الجنة لها سبب عظيم، وهو أن تعيشها في الدنيا، وتكون هنا إنسانيا خلقه الله في أحسن تقويم، وإذ ذاك سيكتب سعيك في مرآة الآخرة. لكن أن تكون نارا تحرق البلاد، والعباد، وأنت تريد أن تكون جنتك بالانتقام، والاصطلام، فهنا مكمن الغلط في التفكير، والتقدير. أجل، فالإنسان البائس، إذا التوت عليه دروب الحياة المتنافرة، وفقد حظه من الدنيا الفانية، فليرحل منها وحده، وليترك الدنيا لمن أراد تعميرها، وتسخيرها. لكن أن يتحول البائس إلى غصة أثيمة في ذوق المجتمع، يحرق، وينسف. فأي سبب أقامه لنيل الجنة.؟ فالغربي حين صدق أسباب قيام محاربة الإرهاب، لم يكن عقله ناضحا بالفضائح، بل كان عقله نظيفا، لا يعبأ بما يفقده بهجة حياته، ونهمة عقله. ولذا زرعت فيه بذرة الإحساس المشترك بضرورة حماية الدائرة من العدو المتربص الدوائر بحضارته. وها هم قد وقفوا إلى جانب من يحارب الإرهاب، لأنهم يحمون أنفسهم من الغير القاتل بوحشية ظالمة. وسواء في ذلك، أولئك الحذاق من الساسة، أو تلك الشعوب التي سمعت عن الغول البشع، فخافت من غائلته، ثم دفعت الحراس إلى الثغور خارج بلدنها، لكي تحمي البيضة، وتشرف القضية. كلا، لن تطوي صفحة الإرهاب بما ندينه به من كلام غليظ. لكننا لو استطعنا أن نخلق عقلا رياضيا داخل النظم الدينية، والاجتماعية، والثقافية، فإننا لن نفقد الإحساس، والمشاعر، والعواطف. وتلك مهمة الإنسان النبيل، وهو مكلف بإرادته، واختياره. وإذا ما أقفلنا باب إدراكه، وأرغمناه على قبول طريقنا في تحرير ذاته، فإننا نعطل عقله. وإذا ما عطلنا عقله، فهو غير مهيأ للتكليف الإلهي، والبشري. لأن التكليف مهمة للعقلاء. وحين نجرد الإنسان من وعيه، فإننا لا نصيره إلا وحشا، نربطه حيث شئنا، وإذا ما أردنا أن نطغى به، فإننا تجبر بإخافته لغيرنا. فلذا، فإن عقلية الأحكام المجردة من المنطق، ومن الذوق، لا تتماشى إلا مع مجتمع الفضائح. وهنا يجب أن يعمل كل العلماء والحكماء والنبلاء في كل طبقة على انتشال تلك الفسيلة المسمومة بين حديقة عقل الإنسان. لأن تحرير عقله، لا يعني أن نجعله مقلدا، بل أن نجعله مريدا، يختار، ويرفض. وإذا ما أولجناه عوالم الوعظ المشتت لمنظومة القيم، فإننا سنتخمه بأحكام مبعثرة، لا نظام لها في السياق الكلي الجامع لحياة الإنسان على هذا الكوكب الوديع، والفسيح. لأن خيط نظام الأفكار، هو ذلك التدبير الذي نوجه به عامل التربية في ذهن الإنسان. فالتربية على الأفكار، هو نظامها الأساس. والأفكار موجودة في قاعنا، ولكن، لن تكون لها قيمة، ما لم نترب عليها تربية مدنية، لا تربية قائمة على العنف، والشدة، والغلظة. وهنا يمكن لمن يتحدث عن المبادئ الدينية أن يكون هادما لها، ولو لم يشعر بذلك. لأن حماية الثغور من غصب الأعداء، تحتاج إلى قوة الرجال، لا إلى شدة الخوف المبثوث بين النصال. أجل، نحتاج إلى قوة الرجل الجندي، وأنا أقول العسكري في مقابل المدني. فالعسكري يتعلم بصدق كيف يكون فداء لوطنه، ولمجتمعه، وهذا يقتضي منه أن يشرب خمرة نكران الذات. فهو الإنسان الحقيقي، لأنه مهيأ في كل لحظة لأن يضع أصبعه على الزناد، ثم يقتل العدو المتربص بقضيته الكبرى: وهي أن يعيش المجتمع آمنا، وهادئا. لو تربى الجبان على هذه المبادئ التي تربى عليها العسكري، لما استطاع أن يحمي نفسه، فضلا عن أن يحمي غيره. ومن هنا يكون العسكري مثالا أسمى للمنكر لذاته. وتلك خاصية قد نجدها في الداعشي، ففيه عنف، ووجع، وألم، لكنه لم يخلق عسكريا، بل خلق مدنيا، وكان من مقدوره أن يبحث عن جسده بين الوافرين، وعن ظله بين الهادئين، لأنه لا يمتلك تربية العسكري المضحي بروحه فداء للعناوين الكبرى في الوطن. وحين استعصى عليه المرام، تحول إلى مدني متوحش بين زلل المقام. أجل، هو مدني، ولكنه متوحش، لأنه تعلم فنون القتال لحماية الأفكار، لا لحماية الأوطان. بل يهدم مرفوع بناء الأكوان، لكي تكون الأفكار سائدة بين الأعيان. فلا بد أن ننظر بعين فاحصة إلى حقيقة نظامنا الوعظي، والتربوي، والتعليمي، والثقافي، فنجعل قيمة الإنسان المدني أعلى ما نرغب فيه من جهد، وكد. لأنه إن لم يكن الإنسان عندنا غاية، فإنه لن يثمر أي بذل إلا ثمارا مرة. فلو غرست مناهجنا بصفاء نفوسِ نبلاءَ يصنعون تاريخ الإنسان السوي، لكان لأمتنا العربية بين الأمم والقيم مكانة عظيمة. أجل، فأنت ترى معي كيف تنتشر الإشاعة في مجتمع أدعياء الطهارة، وكيف يحكمون بالتكفير على الإنسان لزلاته، وهناته، ولو لم تحاكمه الشريعة، ولا القانون. إذن هناك في مكوناتنا وبنياتنا عقليات فارغة، لا لغة البناء، وإنما تتقن حبك دسائس الأحكام، ونسج حبال مؤامرة الإعدام. كلا، فالأحكام حين تكون فصلا في القضايا، تكون أملا في صيرورة الإنسان. هذا الإنسان، لم توجد في فضاء خال من العيوب، بل وجد ليقاوم الظلم، والفساد، والطغيان. فتأملوا معي إذا سادتنا ثقافة الحقوق المدنية. فالمظلوم لا محالة سيشعر بأن حقه لن يضيع، والمتقاضيان سيشعران بقيمة الحق، والواجب. وذلك ما يبحث عنه كل من يريد قيامة العدالة الاجتماعية في الحياة الدنيا، قبل أن تنصب الموازين العادلة في الآخرة. لكن إذا فقدنا كرسي الحقيقة، ومازجنا بين الحقائق بلا تحديد، فلم نتعرف على حدود الأشياء، فإننا سنفقد الأمان في الذات، وإذ ذاك لن يكون للأحكام أي دور في حياة الإنسان. وهب أننا فقدنا خصوصيتنا الإنسانية، فماذا سيقع.؟ سنبحث عن وأد كل قائم من النظم المرتبة للحياة، وإذا تعذر علينا بلوغ ذلك بواسطة ما يحكم نسيجنا الاجتماعي من أعراف، وأديان، ولم نطق أن نجري على الإنسان حكمنا بالقتل المفضي إلى زوال حقيقته المكروهة في أذواقنا السمجة، فإننا سنهرع تلقائيا إلى منظومة الفقه المصوغ بخلفيات صالحة لزمن التقعيد، والتأسيس، لكي نحكم عليه بالكفر الخارج عن الملة، والأمة، ثم بعد نعلق المخالف في أبشع صورة على مشنقة اغتيال الحرية. بل عادة ما يكون حكمنا الشخصي تابعا لهوانا، ومزاجنا، وانفعالنا، وهو مخالف لروح الشرائع، وفلسفة القوانين، ثم نعادي القانون بدعوى أنه بشري، ونستل من الشريعة سيفا ننتقم به لذواتنا المريضة. فالدواعش، لو لم تكن عقليتهم من هذا النوع الرافض للأنظمة المدنية العامة، لما رفضوا النظام القائم على قيم المواطنة، والرقابة، والحكامة، والشراكة. بل لا نجافي الحقيقة إذا قلنا: إن من مسلمات المنطق السليم، أن كل ما يؤدي إلى صلابة قوة النظام العام، شرط لازب ولازم في إقامة حركة الحقوق، والواجبات. ومن هنا، يكون القانون شرطا في تحقيق النظام المؤسس للحياة الكريمة. فنحن جميعا، العقلاء، والجهلاء، نريد نظاما يسوسنا، لا فوضى تعمنا. فسواء أقامه متدين، أو أقامه لائكي. النتيجة التي نبحث عنها قد تحققت في إقامة نسق الحياة على مبدأ احترام الآخر، وهي هدف للإنسان المسؤول عن قوله، وفعله، وهدف للأديان التي أتت لترتيب الوجود الإنساني بما فيه نفعه العاجل، أو الآجل. فما الفرق بين الحقيقتين إذا كنا نستوعب تفاصيل الحدود، والرسوم.؟ فذا قد أقام النظام، وهو معتقد بعقائد دينية، لها تأثير في سلوكه، وذاك آمن بأفكار، ثم جسدها في واقعه. لكن أن نقتل حرية الإنسان في الاختيار، من أجل أن نصنع الإنسان بلا تدبير، فتلك مغامرة خطرة، وقذرة، لأن عاشق بركان الدم الحلال، لا يفرق بين العالم، والجاهل، ولا بين الفعل العمد، والخطأ. بل لا يفرق بين الأفعال، والنيات، والمقاصد. وإذا ما قتلنا كل المنحرفين عقديا، وقطعنا يد كل لص، ورجمنا كل زان محصن، وأعدمنا كل مرتد، فإننا سنتحول إلى مجتمع بدائي، تقودنا فيه نعرات الفتن، والطائفية. بل سيشل ذلك تلك الموارد البشرية الغنية بطاقتها الإبداعية. وحينئذ سنحقق أملنا في احتياج عشرة من النسوة إلى رجل واحد. تلك رغبة جنسية مستبطنة في الفكر الذكوري، وهي قائمة، وإن لم تظهر بداية، فغايتها هي النهاية المأساوية المحتمة. فالأحكام تنزل على الناس بمقدار ما يحدثون من فجور، لكي تتحقق الحقوق الخاصة، والعامة. وتلك أهداف ومقاصد للدين، وللقانون، وللفلسفة، وللحكمة، وبدونها لا يمكن تحديد البدايات، ولا الغايات، بل ستكون أقدامنا على عتبة البداية أبد الآبدين، ودهر الداهرين، ولن نبرحها، وإن فجرنا الحضارة، وقتلنا الإنسان بين أجمة التاريخ. وهنا لا بد أن نتجه في عملية الإصلاح إلى استكناه المقاصد، لكي نقرأها بتدبر، ثم نبتدع فيها مقاصد أخرى، ثم نقارن ونقابل بين ما بين وصل إليه العقل البشري من علوم، وما بقي عندنا من علوم. وبعدها نعمل العقل الاجتهادي من أجل تأسيس واقع قابل للحركة، والاستمرار. وهنا، يمكن للواعظ أن يكون نبيلا في رؤيته، وهو يستحضر العمق الإنسان في الدين، وعمق الدين في الإنسان. لكن إذا كانت الغاية هي إفراز الأحكام بلا سياق، ولو لم تكن أرضها صالحة للغرس، والإنبات، فإننا لن نتقدم بخطوات إلى الأمام. نحن في فضاء هذا الكون، لسنا موجودين للعراك في ملعب رياضي. هذا الكون فيه حرية، وفيه رحمة، وفيه إنسانية. نحن لسنا في مصارعة حتى يكون ذا هو الفائز، وذاك هو المنهزم. نحن وجدنا مع أناسي، وأسمى ما يريده الإنسان، هو أن يكون حرا، كريما. وأتذكر هنا حورا جرى بيني وبين متنورة من مصر، سألتها عن مدينتها القاهرة، فقالت: هي جميلة، ولكنها مليئة بالأزبال، والأوساخ. فقلت لها لا وجود للطهارة إلا في محل النجاسة. فلم تفهم كلامي، فشرحت لها نظرية فلسفية وفيزيائية في الفراغ، والامتلاء، وحاولت أن تكون لغتي قديمة المبنى، ولو كان فيها ما يغني من معنى. لم تفهم كلامي، وسرعان ما انتفضت، وانتفخت، فحكمت علي بالغباء، والجهل، والتخلف. وأنا أعرف أن وجود الشيء لا يقتضي عدم وجود غيره. وأن الشيء قد يكون هو وغيره في آن واحد. ولكن صمتت، وهي ترسل رسل سبابها، وشتمها، حاولت أن لا أصافح وفد رسلها الحاملين لرسائل غير واعية. كلامها رسل من عقلها، ومن قلبها، لكن رسلها لا إدراك لهم بما حملوا من أحكام، بل حتى الذين يرسلون مثل هؤلاء الرسل الشامتين، والغامزين، ليسوا إلا ضحايا لتربية تعتمد على صياغة الأحكام بلا أناة الضمير، لا على صناعة الإنسان بتؤدة الرضي بالحوار. أحيانا يسألني أحدهم عن فتوى بسيطة. فماذا ينتظر مني.؟ أن أجيز له، أو أن لا أجيز له، وأحيانا لا أجيز ما أضمر وجوده في لاوعيه، وإن ابتغى الحكم مني، فيتململ، ويقول قد سمعت من فلان وعلان جواز ذلك. فأقول له: وماذا تطلب مني.؟ فأنت قد ركبت حكما في ذاتك، ولكن الذي حشى به عقلك، لم يستطع أن يركب منطقه في وعائك. وهذا الحكم فيه راحتك، ومتعتك، ولذتك، ولكنك غير راض عنه في ضميرك الأخلاقي، فعشت حائرا، وتائها. وحين استعصى عليك الالئتام بين الذات، والحكم النازل عليها صفة، جئتني تريد مني حكما موافقا لهواك. غريب أن يرتبك الإنسان في توجهاته، فنفسه تقول له شيئا، وعقله يقول له شيئا، وقلبه يقول له شيئا، وهو لا يطيق المزج، ولا الفصل بينها، فيحتار، ويتألم، وإذا ما أسكت صوت العقل، والقلب، وأتبع نفسه هواها، وأغرق ذاته في بحر لذتها، جاءته هواجس التأنيب بالندم، والألم، ثم يعود إلى ذلك المخزون في عقله، وقلبه، فيرتاح لوجوده لحظة، ثم تهجم عليه شهواته، وغرائزه، فينقاذ مرة أخرى للغة النفس، ثم يستمر على ذلك زمنا، وبعده يعود إلى الألم، وفي صراعه بين موجهات ذاته، لا يجد راحة، ولا أريحية، ثم ينزاح في نهاية صراعه الذاتي إلى التسويغ، والتأويل، وهنا، يحتاج إلى معضد يؤازره على اختياره، فلا يراه إلا في لي عنق نصوص الدين. وإذا لم يطق ذلك بقدرته، بحث عن تاجر يتاجر بشرف الفتوى، وإذا ما صادفه، أغذق عليه متعته، لكي يسوغ له فعل نفسه الحرون بجموحه. فيا للحسرة، كم تحولت الفتيا إلى علاج لمثل هذه الأمراض النفسية المعدية. كلا، هي جرعة مسمومة، تفتر معها الذات، وتخدر بها العقول، والقلوب. لكن عمق الإشكال عندي، ليس في التسويغ المجافي للحقيقة، بل في خيانة المفتي لضميره، فسوغ شيئا يراه غير مقبول في أحكامه. فلم لا يفتي المفتي بما فيه صلاح أود النفوس. فيقول: إن ذلك الصراع بين موجهات الذات، هو ميدان الحركة، والاستمرار. بل يقول: إن الإنسان كائن متحرك، وهو غير جامد، وصراع الباطن، هو الحركة الإرادية التي تتميز بها النفوس الضعيفة عن النفوس العظيمة. أجل، هو صراع قائم، لكننا إذا بحثنا في مكونات ذاتنا عن فك عقدته، سيكون عملا إيجابيا يوصلنا إلى الحقيقة، لكن إذا بحثنا عن مسوغ بين الرخص، فإننا نقتل فضيلة التدافع بين عاملي الخير والشر في الذات البشرية. فالخطأ وارد على الذات، وكذلك الصواب، وليس العيب في أن نخطئ، بل العيب في أن نصر على الخطأ، ثم نلبسه جبة المطلق، فندافع عن الباطل بلسان الحق. ولذا، لا بد من إدراك حقيقي للدين، فنجعل باب التوبة هو الأقرب، بل هو الأنسب لحماية الإنسان، والكون، والوجود، والطبيعة، والحياة. ونفتح أمام الإنسان آفاق الكون، والطبيعة، والوجود. لكن ما يؤلمني هو هذا السؤال: لم نحول نص الدين إلى أداة للتخويف، والترهيب، لا سببا للترغيب في حيازة الأمل، والأمان.؟





مقالات اخرى للكاتب

 
أضف تعليق
نطلب من زوارنا اظهار الاحترام, والتقيد بالأدب العام والحس السليم في كتابة التعليقات, بعيداً عن التشدد والطائفية, علماً ان تعليقات الزوار ستخضع للتدقيق قبل نشرها, كما نحيطكم علماً بأننا نمتلك كامل الصلاحية لحذف اي تعليق غير لائق.
الاسم :

عنوان التعليق :

البريد الالكتروني :

نص التعليق :

1500 حرف المتبقية
أدخل الرقم من الصورة . اذا لم تستطع القراءة , تستطيع أن تحدث الصورة.
Page Generation: 0.46589
Total : 101