قبل بضعة أيام، ذهبت إلى الصالة الثالثة لمطار هيثرو اللندني للسفر إلى العاصمة الأوغندية كمبالا عبر القاهرة، واضطررت للانتظار في مطار القاهرة الدولي لمدة ساعتين حتى يأتي موعد الرحلة ثم أتجه إلى عنتيبي. وفي مطار القاهرة، ابتسم أحد المصريين العاملين في شركة «مصر للطيران»، وهو رجل مستطيل الوجه يشبه إلى حد كبير الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، وقال لي إنني قد جئت قبل الرحلة بيوم، وإن الطائرة ستقلع في اليوم التالي.
وتذكرت حينئذ أن الفيلسوف والمفكر الإسلامي العظيم إقبال لاهوري كان دائما ما يذهب إلى المدرسة متأخرا عندما كان صغيرا، وعندما سأله مدرسه عن السبب وراء هذا التأخير، رد قائلا لأن «إقبال» دائما ما يأتي متأخرا، في إشارة إلى معنى الاسم نفسه!
وسألت الموظف عما إذا كان بإمكانه تغيير تذكرتي وإيجاد مكان لي في رحلة اليوم وأنني أود البقاء في القاهرة لتلك الليلة، ثم أذهب في اليوم التالي إلى ميدان التحرير، وبالفعل قام الموظف بتغيير تذكرتي، وفي تمام الساعة الحادية عشرة مساء ذهبت إلى خان الخليلي، أمام مسجد الحسين. وكان المكان مزدحما ومملوءا بالأضواء وأصوات الموسيقى ورائحة البخور، كما كان يمكن سماع الناس وهم يشدون بالقصائد.
وفي بداية رحلتي من مطار القاهرة، سألني سائق التاكسي، وهو رجل ملتح تبدو آثار الصلاة على وجهه، هل أنت عراقي؟ ورددت عليه قائلا، لا بل أنا إيراني؟ ثم سألني بلهجة حادة: سني أم شيعي؟ وقلت له أنا مسلم! ولكنه رد قائلا: ولكن الشيعة ليسوا بمسلمين! وقلت له أنا مسلم أؤمن بالنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، ولكنه رد قائلا: لا، لقد كان نبينا سنيا!
وكانت هذه بداية الحوار الساخن والحاد بيننا. لقد كان شابا مليئا بالطاقة والحيوية ويحرك يديه كثيرا ويحاول استخدام جسده لتدعيم وجهة نظره. ولذا بدأت أشعر بالخوف وأفكر في كيفية قيادته للسيارة في ظل الاختناق المروري بالقاهرة وهو في تلك الحالة. واستمرت المناقشة خلال الرحلة من المطار حتى خان الخليلي، وكانت مهمتي الصعبة تكمن في كيفية إقناعه بأن الشيعة مسلمون وبأنني مسلم أيضا! وقلت له إن الله يقول في كتابه الكريم في الآية رقم 14 من سورة الحجرات: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ». وقلت له إنه قد يعتقد وفقا لوجهة نظره أن الشيعة ليسوا مسلمين، ولكنهم في حقيقة الأمر مسلمون، مثلهم في ذلك مثل الأعراب كما ذكر الله تعالي في تلك الآية.
واستمرت المناقشة بيننا وأصبحت أشعر بأن سائق التاكسي، الذي يدعى أنور، بات صديقا لي، وقال لي إنه يحب الإمام الحسين. ولم أجد أي غرفة شاغرة في أي من الفنادق الموجودة في منطقة خان الخليلي، وبدأت أشعر بأن إيجاد غرفة قد بات شيئا يتطلب مشقة كبيرة، وكنت أرى تجمعات في كل مكان وأشخاصا يشدون بالأغاني الصوفية. وأدركت حينئذ أنني كنت محظوظا للغاية عندما أخطأت موعد الرحلة وأنني أعيش الآن في حلم جميل.
واستقللت سيارة أجرة أخرى لكي أبحث عن فندق، واقترح سائق التاكسي أن أبحث في شارع فؤاد الأول، وفي النهاية وجدت حجرة في فندق «ويندسور»، وهو مبنى قديم الطراز ذو ردهة مظلمة للغاية! وكانت الأماكن المخصصة لتناول الشاي أمام الفندق تكتظ بالناس، وانضممت إليهم لكي أحتسي كوبا من الشاي بالنعناع، وكان يقف بجواري شاب في منتصف العمر، وبدأت أتحدث معه، وقلت له: السلام عليكم، أنا إيراني، أنا سعيد للغاية بمقابلتك هذا الصباح! وكانت ملامحه قاسية وبدأت أشعر بأنه يفكر في شيء ما، وعلى الفور سألني: هل أنت سني أم شيعي؟ وقلت له: أنا مسلم! فرد قائلا: هل هذه هي تحيتكم، ولكن الشيعة ليسوا مسلمين. واستمرت هذه المناقشة مع هذا الشاب الذي يدعى أبو بكر حتى الساعة الحادية والنصف صباحا، وفي النهاية قبلني وقال لي: إن شاء الله تكون سنيا في القريب العاجل لأنك على علم بالقرآن، ولكن الشيعة لا يؤمنون بالقرآن ولا بالنبي، علاوة على أنهم يسبون الصحابة والسيدة عائشة. ولكني رددت عليه قائلا إن الشيعة يؤمنون بالقرآن الكريم، ولكن كل دولة يوجد فيها متطرفون. وسألته عما إذا كان يعرف أن واحدا من أفضل تفاسير القرآن الكريم قد كتبها العلامة الطباطبائي، وأن هذا التفسير يقوم على ثلاثة محاور هي الفلسفي والصوفي وتفسير الأحاديث، وعما إذا كان يعرف أن نحو نصف مليون نسخة من القرآن الكريم تنشر في إيران سنويا، وأن هذه النسخة مطابقة تماما للنسخ الموجودة في مصر وغيرها من البلدان الإسلامية.
ونظر إلي قائلا: هل تعني أن نسخ القرآن التي تنشر في بلدكم هي نفس نسخ القرآن الموجودة لدينا؟ ورددت قائلا: بالطبع نعم! وهنا هز أبو بكر رأسه قائلا: «لا إله إلا الله».
وأعتقد أن رجال الدين من الشيعة والسنة على حد سواء يتعين عليهم القيام بدور مهم من أجل رأب هذا الصدع وعلاج تلك المشكلة الخطيرة التي تعصف بمجتمعاتنا. وبصراحة، يجب أن يكون رجال الدين مسؤولين عن جميع الأبرياء الذين يقتلون في العالم الإسلامي؛ في العراق وأفغانستان وباكستان، وغيرها من الدول، لأن هؤلاء الناس ما هم إلا ضحايا للجهل. ويجب أن نعرف أن القتلة ومنفذي العمليات الانتحارية ما هم إلا أناس بسطاء يقومون بتلك الأشياء لأنهم يفكرون بهذه الطريقة، ولذا يتعين علينا أن نصحح تفسيرنا للإسلام.
وكما يقول المفكر محمد أركون فإننا بحاجة إلى أنسنة وعقلنة الإسلام أكثر من أي وقت آخر، وكما يقول الشيخ يوسف القرضاوي فإننا بحاجة إلى تسليف الصوفية وتصويف السلفية. وكما قلت لطالب ينتمي للتيار السلفي في ميدان التحرير بالعاصمة المصرية القاهرة، فإنه يتعين على علمائنا التفكير في مواجهة هذا التطرف والأصولية، لأن ثقافة الكراهية وسوء الفهم لن تؤدي إلا إلى كارثة بالنسبة لنا جميعا.
مقالات اخرى للكاتب