كتب فائق الشيخ علي ــ كتب السيد عبد الباري عطوان رئيس تحرير صحيقة القدس العربي الصادرة في لندن يوم أمس 17 ــ 3 ــ 2013 م مقالا افتتاحيا، بكى وتباكى فيه على صدام حسين، عازيا بكاءه وعويله الى غيره، ناسبا صدق التحديات والتوقعات التي حصلت الى نفسه.
جاء المقال بمناسبة مرور عشر سنوات على بدء العمليات العسكرية للاطاحة بنظام صدام، تلك المناسبة التي كان يفترض بالاعلام العالمي ــ والعراقي منه على وجه الخصوص ــ ألاّ يدعها تمر من دون التوقف عندها طويلا، لولا خيبة هذا الاعلام وتفاهته.
يبدو ان هذا المقال الصدامي سيعيدني عشرين عاما الى الوراء، أيام كنتُ أكتب المقال الشهري العاصف ضد صدام ونظامه خلال العقد التسعيني من القرن الماضي، في أرقى وأهم صحيفة عربية تصدر في العالم، صحيفة الحياة" اللندنية، أو واشنطن بوست العرب ــ كما يُطلَق عليها ــ حين كانت الحياة الصحيفة حياةً مدوية، قبل أن تتراجع وتتردى بعد التغييرات المستمرة لرئاسة تحريرها، وخروج الاستاذ عبد الوهاب بدرخان من ادارة تحريرها , ناهيك عن الاسباب السلبية الاخرى التي شملت كل الاعلام المطبوع.
في تلك السنوات العِجاف أيام الحصار التسعيني على عراقيي الداخل، كان ثمة عراقيون يعيشون في الخارج، يعانون من حصارات من نوع آخر، أحد وجوهه الحصار الاعلامي العربي والعالمي. وبالرغم من تراجع عائدات الاموال التي تدخل جيب صدام حسين كي يتصرف بها كيفما يشاء، ظل صدام يُغدق على الاعلام الخارجي بالاموال والهدايا، كي يستمر في خدمته والترويج له والدفاع عنه وعن ساساته الرعناء.
كانت أحد أذرع صدام الاعلامية الطويلة صحيفة القدس العربي الصادرة في لندن ورئيس تحريرها الاستاذ عبد الباري عطوان. في ظل غياب شبه كامل للقنوات الفضائية، حيث ال m . b . c السعودية التي تبث من لندن، كادت تكون الوحيدة في السماء، قبل أن تباشر ال a . n . n عام 1996 م التابعة لرفعت الاسد، ومن ثم الجزيرة القطرية.. وهكذا.
دأب عطوان على صياغة الاخبار ونشر التقارير وكتابة الاعمدة والمقالات التي تؤيد صدام ونظامه بشكل يومي ومستمر دون هوادة، بل فتح صحيفته لكل عملاء النظام السابق ومؤيديه وموظفيه وقيادييه، من أمثال برزان التكريتي وسفراء النظام ووكلائه الامنيين والمخابراتيين.ما تطلب مني أن أجمع مقالاته وسياسات صدام لأقصفها شهريا في مقال عاصف ينشره الاستاذ وليد نويهض في صفحته ( قضايا ) في الحياة، بالاضافة الى مقال آخر لي ينشره شهريا أيضا الاستاذ حازم صاغية محرر صفحة أفكار في الحياة.
كان السجال بيننا عبر الصحيفتين المذكورتين مستمرا حتى عام 2000 م، حين توقفتُ بشكل كامل بعد نشر 5 مقالات متتالية من كتابي (اغتيال شعب) عن الشهيد الصدر الثاني (قده) وما أثارته المقالات من ضجة حينها، لم تهدأ وتتوقف لاحقا، سببت لي توقفا عن الكتابة في الحياة، استمر الى اليوم.
هذه المقدمة تعمدت الاطالة فيها كونها غائبة عن الانسان العراقي في الداخل، ولذا ندخل الان الى صلب مقاله. حيث ينسب الى أحد الاشخاص تصريحات متضاربة عن لحظة اعدام صدام حسين. أقول للأستاذ عبد الباري عطوان: نحن لسنا في حاجة الى نسبة الاقوال الى الآخرين، كي نستند اليها في انتزاع عناوين صحفية مثيرة من شأنها أن تترحم على صدام أو تذكره بخير.
لم يكن بوسعك ولا بوسع غيرك أن يقارن بين عهدين وزمنين بهذه الطريقة، لولا غياب المخرجين الحقيقيين والمنتجين من ذوي الخبرة والاختصاص في عرض المشاهِد الفاصلة من تاريخ العراق، وصعود أوباش تافهين على أكتاف شعب مسكين الى مناصب الدولة والسيادة والسياسة، ليعرضوا مشاهِد فاشلة لأعظم أحداث تراجيدية مفصلية في التاريخ .
كلنا شهود على قصة سقوط صدام، ولسنا في حاجة الى مَنْ يشرحها لنا، أو يفسرها بالتقسيط على طريقته الخاصة، سواء كانت متضاربة أم متناغمة. على العراقيين أن لا ينسوا المشهد الاول لصدام أثناء محاكمته، بحجة ظهوره بالمشهد الأخير شجاعا بطلا، لقد ظهر أمام قاضي التحقيق رائد جوحي لأول مرة مرتبكا , خائفا، رعديدا، مهزوزا، جبانا، متلعثما في الحديث، أبحا، مصفّر الوجه، شاحبا، ولستُ هنا في وارد الانتقاص من سطوته وطغيانه، كان يمكن أن ينطبع هذا المشهد في ذاكرة العراقيين والعالم ما بقيا، لولا المشهد الأخير السخيف والتافه والمشين من لحظة اعدامه، الذي أظهره صامدا، صابرا، بطلا.
كنا نتمشى لوحدنا أنا والقاضي رائد جوحي على ممر دجلة في المنطقة الخضراء الى جانب القصر الجمهوري، حين دعتنا الشهيدة ليلى الموظفة الكبيرة في وزارة الدفاع عام 2004 م على عشاء مسكوف . فانتحينا جانبا، نحكي أسرار صدام. سألته: لماذا يا رائد ارتبكت أمام صدام ؟ كان يفترض أن تستعد أكثر لتلك اللحظة. ردّ: كان أمامي صدام نفسه، وليس شخصا آخر!.
يبدو ان كل الدروس والاستعدادات والبروفات التي أجراها البريطانيون والأميركيون للقاضي رائد جوحي، داخل العراق وخارجه لم تصمد أمام اللحظة الحقيقية للاختبار. فقد اهتز القاضي وتلعثم وهو يتلوا على صدام أقواله.
ليس بوسع أي انسان في هذا الكون انكار كل الحقائق الآنفة التي ذكرناها.. لماذا ؟ لأنها مصورة ومبثوثة من على شاشات التلفزة شاهدها العالم كله، ولهذا نقول نحن لسنا في حاجة الى أقوال هذا وتصريحات ذاك.
لا يحتاج الاستاذ عبد الباري عطوان الى أن يستشهد بمقابلته في البي بي سي مع " أندرو نيل " مقدّم برنامج "هذا الاسبوع" وتحديه له بعدم بدء الحرب الحقيقية، وعدم جعل العراق كنموذج في المنطقة للديمقراطية.. لا يحتاج.. لماذا ؟.
لأن الحرب التي نتحدث عنها نحن هي حرب الاطاحة بصدام، وهذا ما تحقق . أما الحرب مع الولايات المتحدة كمحتل، فهذه حرب اختارتها الولايات المتحدة الاميركية بمحض ارادتها وتخطيطها، ولم تكن مفروضة عليها كما يوحي عطوان وغيره.
نعم أيها العراقيون: فبدلا من أن تشرع الولايات المتحدة في اعادة بناء العراق، والاشراف الصحيح على بناء الديمقراطية الحقيقية عندنا، عمدت الى استجلاب القاعدة الى العراق، وفتحت حدود بلدنا على مصاريعه، وسهلت لها ايران وسوريا مهمتها، وراحت تقاتلهم على أراضينا المقدسة، معتمدة على شراذم مأجورة من السياسيين العراقيين، ممن لا يملكون تاريخا ولا شرفا ولاحرصا أو حُبّا للعراق وشعبه.
وبعد أن قدمت الدولة الغازية نحو خمسة آلاف ذبيح من قواتها، بما فاق أعداد الضحايا في برجَي التجارة الدولي عام 2001 م، وهي الذريعة الاساس التي استندت اليها في دعوتها لنقل الارهاب من أراضيها ومحاربته خارجها، خرجت الدولة العظمى من العراق غير مأسوف عليها تجر أذيال الهزيمة والعار، وتلاحقها لعنات أبنائه بعد أن سلّمت رقابهم وأموالهم بيد مجاميع من المخانيث الموتورين والجبناء السفلة.
لا يهمنا الذريعة التي استخدمتها الولايات المتحدة في حربها لاسقاط صدام، ومَنْ الذي قدمها لها، أو شهد لمصلحتها، كي يجعل منه عطوان بطلا آخر في أعماق المتطلعين الى الانعتاق والتحرر، من دون أن يشعر بذلك، لان جل أملنا تلّخص في اسقاط صدام ونظامه، انما الذي يهمنا هو أعداد الضحايا العراقيين من الابرياء الذين سقطوا ضحية صراع طائفي بغيض مفتعل، يهمنا المليارات التي هُرِبت من العراق الى الخارج، ودخلت في حسابات أخساء العراقيين، بدلا من صرفها على الشعب الجائع المحطم، يهمنا تسلط سفلة القوم وأوباشهم على مقدرات العراق وشعبه.
نعم أستاذ عبد الباري عطوان نوري المالكي دكتاتور، قل ما شئتَ بحقه وأناى سأويدك وأزايد عليك في وصفه السيء، ولكن هيهات أن أتفق معك في أنه أسوأ من صدام. لقد دمّر صدام حسين العراق، وزجه في ست حروب، ثلاث منها خارجية ومثلها داخلية، وبدد ترليون دولار أميركي من أموال العراق لبناء مجده الشخصي، وأعدم على الشبهة، وصادر حقوق العراقيين ومسخهم، ولم يكن باستطاعة شعب أو شعوب، دولة أو دول اطاحته، باستثناء الولايات المتحدة.
أما وان دكتاتورنا المالكي الجديد، الذي صار دكتاتورا بسبب صاحبك صدام، فنحن العراقيين اليوم كفلاء باطاحته وازاحته عن الحكم، طال المطال أم قصر.. وكل طلبنا منك أن لا تتدخل أنت في شؤوننا.
نعم استاذ عبد الباري نحن أعداء صدام نبكي اليوم فعلا وحقا.. ولكن أتدري علامَ نبكي؟ نبكي على بلدنا وشعبنا، وليس على صدام.