العراق تايمز: كتب عصام حميدان ــ يقدِّم السيد عصام احميدان في هذا المقال قراءةً للثورات العربية، يستحضر فيها الوضع الدولي والسياق الإقليمي، ويعتبر أن هناك ثلاثة مشاريع إقليمية بارزة في المنطقة، وهي المشروع التركي، المشروع الإيراني، والمشروع السعودي؛ وبعد أن يشرح طبيعة كل مشروع من المشاريع الثلاثة وخلفيّته، يُبيّن حقيقة الدعم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومساندته للمشروع التركي، بعد تأكده من عدم قدرة المشروع السعودي على خدمة المصالح الغربية والتصدي للمشروع الإيراني، ما يعني أن الثورات العربية، باستثناء الثورة البحرينية، تمثل أداة لدخول النموذج التركي الإسلامي العلماني الذي تجسّده حكومة حزب العدالة والتنمية إلى قيادة المنطقة.
قبل أيّام، تتبّعنا حالة التوتّر بين السّعوديَّة وإيران على خلفية القضيَّة المفترضة لمحاولة اغتيال السَّفير السّعودي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، عادل الجبير، وقد لاحظنا كيف عملت الولايات المتَّحدة على تضخيم هذا الملف، لخلق حالةٍ كبيرةٍ من التوتّر بين البلدين في ظرفيَّة دقيقة وحسَّاسة، وخصوصاً أنَّنا نستعدّ لموسم الحج، وقد يتمّ افتعال بعض الأعمال بين الحجاج الإيرانيّين والسّلطات السعوديَّة .
خلفيات المشاريع الإقليميَّة
إنَّ أيّ محاولة لقراءة هذا الحدث أو أيّ حدث آخر، لا بدَّ من أن تتم من خلال مرجعيَّة محدَّدة للتَّحليل السّياسي، وهذه الأخيرة لا بدَّ من أن تستحضر الوضع الدّولي والسّياق الإقليمي في كلِّ تحليلٍ لكلِّ حدث محلي أو إقليمي .. ومساهمةً في تقديم مرجعيَّة للتّحليل السّياسي، فإنَّني أعتقد أنَّه يجب توضيح طبيعة المشاريع الإقليميَّة في المنطقة، فهناك ثلاثة مشاريع إقليميَّة بارزة: المشروع التركي، المشروع الإيراني، والمشروع السّعودي .
لا يمكن قراءة الأحداث السياسية في المنطقة وتحليلها، من دون فهم طبيعة وخلفيات كلّ مشروع من المشاريع الثّلاثة، ومن الواضح أنَّ الغرب بقيادة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة يساند المشروع التّركي، والذي يتم التّسويق له بطريقةٍ غير مباشرة من قبل قطر، التي تعتمد كثيراً على القوّة النّاعمة، مثلاً "قناة الجزيرة الفضائيَّة"، والدّليل على الدّعم الغربي لهذا المشروع، تمثّل في اختيار أوباما لتركيا، لتوجيه كلمته إلى العالم الإسلامي بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتَّحدة، لأنَّ الغرب يعتقد أنَّ المشروع التّركي يقدِّم حلاً لمشكلة الأصوليَّة، ويمكن أن يحدَّ من تقدم المشروع الإيراني، لأنّ تركيا ـ حزب العدالة والتنمية، قدّمت وتقدّم نموذجاً للإسلام العلماني المتعامل مع الكيان الصهيوني، وفق منطق سياسي غير ديني، وأيضاً لأنَّ تركيا ـ حزب العدالة والتنمية، هي عضو في الحلف الأطلسي .
النموذج التركي: البديل الجديد
إنَّ الثورات العربيَّة يراد لها أن تغيِّر خريطة القوى في المنطقة، وهي إن كانت تستهدف شيئاً، فإنَّها تستهدف ضرب المشروع القومي العربي الذي عانى غياب قيادة سياسيَّة موحّدة ومتجانسة: "البعث العراقي، البعث السوري، النِّظام السعودي، النِّظام اللّيبي، النِّظام المصري..."، وقد ظنّت كلّ دولةٍ عربيةٍ أنَّ التخلّص من رأس عربي سيسمح لها ببسط النفوذ على المنطقة العربيَّة، غير أنَّ الَّذي تبيَّن بعد فوات الأوان، هو أن لا مشروع عربياً ستتمّ مساندته غربياً، وقد انتبه متأخّراً وزير الدّاخليَّة السعوديَّة، نايف بن عبد العزيز، إلى أنَّ الثَّورات العربيَّة قلَّصت من النّفوذ الإقليمي للسّعودية، وحاصرت هذه الدَّولة التي كانت تتطلَّع إلى لعب دور قومي في المنطقة .
إنَّ النَّموذج التركي، والذي تجسِّده حكومة حزب العدالة والتنمية، يجسد التَّحالف الثلاثي: "الغرب، الإسلاميّون، المؤسَّسة العسكريَّة"، هذا النّموذج هو الّذي يراد تصديره بفضل الثَّورات العربيَّة، حيث يراد أن يلعب إسلاميو سوريا والغرب، والمنشقون من العسكر، دور البديل الجديد، كما يراد أن يلعب الإخوان والسلفيون المصريون مع الغرب والمجلس العسكري، دور البديل السّياسي، والشيء ذاته في ليبيا، حيث نجد التَّحالف الثلاثي "الناتو ـ الإسلاميون ـ المنشقون من المؤسَّسة العسكريَّة الليبيَّة"، وفي اليمن أيضاً، نقف عند التّحالف بين المنشقّين عن المؤسَّسة العسكريَّة لنظام الرئيس اليمني علي عبد الله صالح والإسلاميين، والدّعم الغربي غير المباشر، من خلال المشروع التّركي والقوّة النّاعمة القطريَّة .
ثورة من خارج السياق
إنَّ الثَّورة الوحيدة التي أتت من خارج السّياق المبرمج هي الثَّورة البحرينيَّة، وهي الثَّورة التي لم يخطِّط لها الغرب، والّتي وجدت نفسها محاصرةً من المشروعين "السعودي" و"التركي"، لأنَّ كلا المشروعين يرى فيها فرصةً لتقوية المشروع الإيراني في المنطقة. لذلك، التزم الغرب وتركيا الصمت، وتدخّلت السّعودية عسكرياً ضدّ الثورة، وصمتت القوّة النّاعمة القطريّة .
إنَّ الغرب بقيادة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، بات متأكِّداً من أنَّ المشروع العربي السّعودي، بعد أحداث 11 أيلول، لم يعد قادراً، لا على الحدِّ من تقدّم المشروع الإيراني، ولا على خدمة المصالح الغربيَّة وتأمينها، بعد أن خرج الإرهاب الوهّابي ليضرب المصالح الأمريكيَّة في قلب أمريكا.. كما أنَّ الغرب يتوجَّس من المشروع الإيراني، لأنَّه يستهدف أمن الكيان الصّهيونيّ، ويعرقل الطّموحات الغربيّة .
تهديد المشروع السعوديّ
إنَّ المشروع التّركي بات يقلق الكثير من الأنظمة العربيَّة، لأنّه المشروع الّذي قدّم الدَّعم اللامحدود للثَّورات العربيَّة التي أطاحت ببعض العروش، وتهدِّد العروش الأخرى المتبقّية، كما أنَّ المشروع التّركي يقوّي دور الإسلاميّين السنَّة، ولا أدلّ على ذلك من أنّه في الوقت الذي يتحرّك الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبو مازن"، المحسوب على المشروع العربي السعودي، في ملفّ الاعتراف الدّولي بفلسطين، تمَّ التحرّك لتقديم صفقة الأسرى، لتقوية موقع "حركة حماس" الّتي يراد تحويلها من المشروع الإيراني إلى المشروع التّركي القطري، ومن شأن تقويتها إضعاف "حركة فتح" والمشروع السعودي في فلسطين المحتلّة .
من النَّاحية العمليَّة، يمكن القول إنَّنا نتَّجه تدريجيّاً إلى درجةٍ يضمحلّ فيها المشروع العربي السّعودي، ففي شمال إفريقيا، بسبب استقبال السّعوديّة للرّئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وأيضاً بسبب دعم الرّئيس المصري السّابق حسني مبارك، وأيضاً بسبب تنامي الحركة الأمازيغيَّة في شمال إفريقيا في كلٍّ من تونس وليبيا والجزائر والمغرب، فإنَّه لا يعقل أن يجد المشروع العربي السّعودي دعماً من الأمازيغ، مادامت الحركة الأمازيغية المعاصرة تعلن المواجهة مع المشاريع العروبيَّة، وهو ما فسّر استياء أمازيغ المغرب من فكرة دخول المغرب إلى مجلس التّعاون الخليجي .
الثورات بخدمة المشروع التركي:
إنَّ الولايات المتّحدة كانت تريد إبقاء بعض قوّاتها في العراق لضرب الحكومة العراقيَّة المتحالفة مع إيران، غير أنَّها لما شعرت بأنَّ الوقت لم يعد كافياً، ولقيت معارضةً من إيران والحكومة العراقيّة للبقاء بعد نهاية 2011، وبداية سريان الاتفاقيَّة الأمنيَّة العراقيَّة الأمريكيَّة، عملت على ضرب المشروع الإيراني بالمشروع السعودي، وهي بذلك تريد التخلّص منهما معاً، لتخلو الساحة الإقليمية للمشروع التركي .
إنَّ تراجع قوّة الخطاب الدّيني السِّياسي للقاعدة، وتنامي قوّة الإخوان المسلمين، وتحول التّيار السَّلفي نحو المشاركة السّياسية وتعديل مواقفها من الغرب، وتفكّك العقدة بين الإسلاميّين والعسكر وبداية التّحالف بينهما، وتزايد حدّة الصّراع السّعودي الإيراني، وأيضاً الصِّراع الطائفي، وتنامي النَّزعات الدينيَّة والقوميَّة، كلّ ذلك يراد له أن يشكّل الأرضيَّة المناسبة لاستقبال المشروع التّركي الإسلامي العلماني الغربي .
إنَّ الدَّور التّركي في الأزمة السوريَّة ليس صدفةً ولا عبثاً، كما أنَّ الدَّور القطري المتناغم مع المواقف التركيّة في كلِّ المحطّات؛ من تونس ومصر وليبيا وسوريا، ليس صدفةً أو عبثاً، كما أنَّ الدَّور القطريّ غير المتناغم بشكلٍ تامّ مع الدَّور السّعوديّ ولا مع الدّور الإيرانيّ.. كلّ ذلك، يسمح لنا بالقول إنَّ الثَّورات العربيَّة، باستثناء الثَّورة البحرينية، تمثِّل أداةً لدخول المشروع التركي إلى قيادة المنطقة.