ليست المسألة مسألة حظ أو سوء طالع حتى نأتي كل مرة في مؤخرة الركب العالمي, فالإبداع والتحدي والعزيمة والعفة والصدق والإيمان بالمبادئ الصحيحة والأداء المتميز هي الأدوات التي ترسم مسارات الارتقاء نحو الأفضل, وهي المقومات التي تحدد ملامح النجاح والتفوق, فلا علاقة لفشلنا وتقهقرنا بتحيز المؤسسات العالمية المكلفة بالتقييم, ولم يسبق للمراكز الدولية المعنية بالتحكيم أن تخندقت ضد دولة أو بالغت في تقاريرها, فهي مؤسسات محايدة لا تعرف التلاعب ولا التزوير, ولا عهد لها بالكذب والتلفيق والتحايل, وتختلف اختلافا مهنيا وعلميا وأخلاقيا عن اللجان المُسيسة, التي كلفها مجلس الأمن بمهام الكشف والتفتيش وفرض الحدود البحرية بين البلدان المتشاطئة . .
في كوكب الأرض مراصد عدة, وعيون تستطلع وتراقب وتفحص وتدقق, وفي الفضاء مجسات مرتبطة بالأقمار الصناعية تستشعر وتتحسس وتلتقط الصور, ومن خلفها مؤسسات إحصائية عملاقة تسجل البيانات وتتابع التغيرات, ومؤسسات أخرى تخصصت باعتماد المعايير القياسية والثوابت المختبرية. .
مثال على ذلك, نذكر إن مقياس الفساد العالمي يعتمد على منح نقطة واحدة لكل مؤشر فرعي من المؤشرات التي يتكون منها المقياس العام ليصل في النهاية إلى عشر نقاط، ويعتمد المقياس على ترتيب تصاعدي لبحث معيار الشفافية في البلدان التي يشملها التقرير, فتكون الدول أكثر فسادًا كلما هبطنا نحو الصفر، وأقل فسادًا كلما قفزنا نحو القمة, وعلى هذا الأساس جاء ترتيب العراق في الدرك الأسفل من الترتيب العالمي, الذي اعتمدته المنظمة العالمية للشفافية, واصطف في المؤخرة مع الصومال والسودان وأفغانستان, فاحتل المواقع المخصصة للبلدان الأكثر فساداً على وجه الأرض. .
ثم خرجت علينا مؤسسة (ميرسر Mercer) لتضع العاصمة (بغداد) في أسفل درجات السلم العالمي للعواصم النظيفة, فجاءت بغداد في الترتيب الأخير للعام الرابع على التوالي, وكانت في التسلسل (221), وعدتها المؤسسة من أقبح مدن العالم وأكثرها بشاعة. .
نتائج مخيبة تبعث على الأسى والحزن على بغداد, التي حملت منذ تأسيسها أجمل الأسماء, فكانت بيت الحكمة, ودار السلام, وجنة الأرض, ومعبر العرب, ومدينة العلم, ونزهة الأمصار, ومرفأ الحكمة والفضيلة, وعنوان الفنون والآداب, وهي المدينة التي قارعت الأحداث وقارعتها, وقاومت عاديات الزمن وقاومتها, ورأت من المصائب والعجائب ما لم تشهده عواصم الدنيا كلها, فما من مدينة انفردت بشهرة واسعة وذاع صيتها في الآفاق مثل بغداد, لكنها سقطت للأسف الشديد في قعر المقياس العالمي الذي تبنته مؤسسة (ميرسر) www.imercer.com. .
وربما يطول بنا الحديث عن موقفنا المؤسف في الترتيب العالمي للجامعات بالمعيار الدولي للتعليم العالي في الكليات والمعاهد, والذي يمكن التعرف عليه في الانترنت, على الموقع التالي:-
http://www.webometrics.info/en/search/Rankings/iraq
أرقام متردية لا تسر الصديق ولا العدو, ونتائج مخيبة للآمال والتطلعات, وشهادات دولية تبعث على اليأس والإحباط. .
ثم جاءت النشرة البيئية العالمية لتضع العراق في ذيل القائمة الدولية بمرآة التقييم العام من منظور الظروف البيئية السائدة, والتي تتألف من خمس مرايا ملونة, المرآة الأولى باللون الأخضر الغامق, والثانية بالأخضر الفاتح, والثالثة بالأبيض, والرابعة باللون القرنفلي, وتنتهي الخامسة باللون الكستنائي المرادف للون الصدأ. .
تضم المرآة الأخيرة الأقطار المتأخرة عن تلبية متطلبات الحد الأدنى من إجراءات مكافحة التلوث, فجاء العراق في مؤخرة المتأخرين, بينما جاءت سويسرا في مقدمة المتقدمين, فحصلت على التسلسل الأول, وحصل العراق على التسلسل (132), وجاء ترتيبه العام بعد اليمن وأرتيريا وليبيا. وللمزيد من الاطلاع ننصح بمراجعة الرابطة التالية:-
http://epi.yale.edu/epi2012/rankings
أو شاهدوا الرابطة التالية:
http://epi.yale.edu/dataexplorer/tableofmainresults
من المفيد ان نذكر هنا, ان جامعة (Yale) الامريكية, هي المسؤولة عن إصدار النشرة البيئية السنوية, وهي التي تشرف على التقييم العام بالاعتماد على مجموعة من المؤشرات, تتضمن قياس مستويات التلوث في الماء والهواء والمناخ والحقول والغابات والثروة السمكية والمستشفيات وأنظمة الصرف الصحي. الخ. .
نحن في العراق لسنا بحاجة إلى من يشعرنا بما آلت إليه ظروفنا البيئية السيئة, فالمنظر العام لشوارعنا المتربة المغبرة, ومدننا المختنقة بسموم الدخان الأسود, وأنهارنا الممتلئة بالنفايات البلاستيكية, وجداولنا الطافحة بجثث القطط والكلاب النافقة, وتجمعاتنا السكانية العشوائية المتراكمة فوق أرصفة الحواسم, ومجارينا المعطلة, ومكباتنا المتكدسة بالقمامة, هي المرايا الصفراء, المعبرة عن سوء أحوالنا البيئية, الناطقة بتردي ظروفنا الصحية. .
لا نريد أن نحدثكم عن الجرذان والقوارض, التي تتكاثر عندنا بالانشطار, ولا نريد أن نحدثكم عن أنهارنا المصابة بكولسترول الأطيان الآسنة, ولا نريد أن نحدثكم عن اللون العراقي الموحد لوجوه الناس في المدن الواقعة تحت خط الفقر, فاللون (البيجي) الترابي هو القاسم المشترك في تقاطيع كل الوجوه البائسة. .
ولا نريد أن نحدثكم عن تجمعات الكلاب السائبة, والقطط الشاحبة, التي صارت تسرح وتمرح من الغروب إلى الشروق, ولا حاجة لتذكيركم بحقول الألغام, والمخلفات الحربية الحية, ولا نريد أن نقص عليكم حكاية الحيوانات الغريبة, التي قفزت فوق خط الاستواء في القارة الأفريقية وهبطت في ضواحي الجنوب, فظهرت التماسيح في (الديوانية), وانتشرت أفاعي المامبا السوداء في (الناصرية), وظهر القرش القاتل في أهوار الجبايش, واجتاحتنا الكلاب المستذئبة في (أبي الخصيب) بالبصرة. .
لكننا يكفي أن نقول لكم إننا تبوئنا المراكز الدولية الأولى في الإصابات السرطانية, حتى لم يعد ورائنا وراء, ثم جئنا بالترتيب الأول في معدلات الملوحة والملوثات النفطية في الأنهار والأهوار والجداول. ويكفي أن نقول لكم إنّ شط العرب صار أكبر مستودع للنفايات النفطية, حتى أن أسماكه باتت معروفة بنكهتها النفطية المميزة, من دون أن نعرف حتى الآن من أي صهريج تلوثت, هل تلوثت بنفط عبادان ؟, أم بالمشتقات النفطية التي ترميها السفن في عرض النهر ؟, أم إنها تلوثت بالمواد النفطية المهربة ؟, أم تلوثت بما نقلته المجاري المنسابة نحو شط العرب ؟, وليس لدينا حتى الآن إحصائية رسمية عن ما تجرفه المجاري معها من مواد سامة ومركبات كيماوية قاتلة ؟. .
في مدن الجنوب, وعلى وجه التحديد عند ساعات الفجر الأولى, تتجمع في السماء طبقات كثيفة من سحب الدخان الأسود, ظهرت بصورة جلية في سماء البصرة على شكل خيمة سوداء, وتكرر ظهورها يوميا بحيث صارت من المناظر المألوفة, التي اعتدنا على مشاهدتها صباح كل يوم. طبقات رمادية داكنة, تهدد الناس بالاختناق والموت بمواد الكربون المنبعثة من فوهات الآبار النفطية التي اصطفت على الأفق البعيد, فتناثرت بكثافة غير مسبوقة بين حقول (الرميلة), و(البرجسية), و(مجنون), و(صبَّة), و(اللحيس), و(ام الشويج), و(القرنة), (والرفاعي), ناهيك عن أعداد فلكية لمولدات كهربائية غاضبة تنفث سمومها ليلا ونهارا في سماء الجنوب. .
ختاما نقول: أنّ مجيء العراق في المرتبة الأخيرة في المعيار البيئي لجامعة (Yale) يعد اعترافا رسميا بآثار الغزو الأمريكي للعراق, ويعكس حجم الدمار والتخريب الذي تركته الفيالق الحربية على أرض الرافدين ابتداء من عام 1991 وحتى يومنا هذا.
وبهذه المناسبة نطلب من جامعة (Yale) أن تكون أكثر عدلا وإنصافا في التعامل معنا, وتحدثنا بشفافية عن رواسب غازات (الكيمتريل) ومخلفاتها البيئية الكارثية, التي نثرتها الطائرات الامريكية فوق سماء العراق في طلعاتها الجوية الموثقة في سجلات البنتاغون. .
نريدها أن تزودنا بما تمتلكه من معلومات وبيانات وجداول عن غازات الكيمتريل التي استعملتها أمريكا ضد الشعب العراقي المنكوب. .
نحن على يقين تام إن الجامعات الامريكية كلها تدرك حجم المخاطر البيئية الكارثية التي تركتها الفلول الامريكية فوق الأرض وفي كبد السماء, لكنها لا تريد كشف المستور في المرحلة الراهنة. .
والله يستر من الجايات. . .