ان حجم الجدل الجاري في العراق بشان قانون الانتخابات، دليل على امرين في غاية الاهمية، الا وهما:
اولا: ان الكل يشعر بان العملية الانتخابية لازالت طور النشوء ولم تكتمل بعد، ولذلك فهي بحاجة الى تطوير وتعديل وتبديل وترشيد الى ان تصل الى مرحلة النضج الكامل.
ثانيا: اتساع طيف المشاركين في هذا الجدال ليشمل احزاب السلطة وغيرها ومنظمات المجتمع المدني والاعلام والمفكرين والمثقفين وغيرهم، دليل آخر على مدى حرص الجميع للمساهمة في ترشيد العملية الانتخابية والتي ينظرون اليها كونها مسؤولية كل المجتمع من دون ان تقتصر على فئة دون اخرى، او على السلطة دون غيرها، وهذا دليل عافية تتمتع بها العملية السياسية في العراق بشكل عام.
وانما تلجأ النظم الديمقراطية الى تحديث قوانينها المتعلقة بالانتخابات بين الفينة والاخرى، من اجل:
الف: تحقيق اقصى حالات التمثيل الشعبي، بالاستفادة من التجربة والواقع.
باء: حماية الاقليات، على اعتبار ان الديمقراطية لا تعني سلطة الاكثرية فقط، وانما حماية الاقليات بكل اشكالها، كذلك، فالديمقراطية التي لا تشعر الاقليات في ظلها بالامان ولا تتمتع بحقوقها ليست سليمة ابدا.
جيم: انتاج تمثيل قوي سواء في النظام النيابي او في النظام الرئاسي.
وعادة ما تستفيد النظم الديمقراطية من تجاربها الذاتية ومن تجارب الاخرين عندما تعيد النظر في قانون الانتخابات او تسعى لتحديثه، بما يتلائم وخصوصياتها والواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه البلاد.
وتزداد اهمية عملية التحديث والتجديد والترشيد للنظام الانتخابي في البلدان ذات النظام البرلماني، مثل العراق، على اعتبار ان مجلس النواب هو المصدر الدستوري الوحيد الذي تنبثق عنه كل مؤسسات الدولة الاخرى، سواء رئاسة الجمهورية او الهيئات المستقلة او حتى مجلس القضاء الاعلى وغير ذلك.
ولقد كان يمكن ان ندع مجلس النواب، الحالي مثلا، ان يفكر بهدوء كلما قرر اعادة النظر بقانون الانتخابات، الا ان واقع الحال لا يشجع على ذلك ابدا لسبب بسيط هو، ان مجلس النواب، وللاسف الشديد، لم يعودنا على التفكير (الوطني بعيد المدى) عندما يبحث في مثل هذه القوانين المهمة والمصيرية، بل انه يسعى دائما الى تفصيل القانون حسب مقاساته مهما كانت ضيقة، ولذلك تراه يتبنى قانون القائمة المغلقة لحاجة في نفسه فحسب، او القائمة المفتوحة لذات السبب، وهكذا، ولو انه عودنا على التفكير برؤية وطنية مستقبلية وتاسيسية لما اضطرت المؤسسات غير الحكومية الى ان تتدخل لبلورة رؤى جديدة بهذا الشان.
لقد كتب المؤسسون الاوائل الدستور الاميركي على مقاسات وطنية واسعة جدا استوعبت لحد الان اكثر من قرنين من الزمن من دون ان تضيق ذرعا بكل التجربة على الرغم من كل المتقلبات السياسية والتحديات العظيمة التي مرت بها طوال هذين العقدين، ولا زالت مواده حية طرية وكانها دونت للتو، اما القوانين التي يصدرها مجلس النواب العراقي، وتحديدا قانون الانتخابات، فنراه يعيد النظر فيها مع كل استحقاق انتخابي سواء كان لمجالس المحافظات او النيابية، لماذا؟ لانه يسعى دائما لتحديثه بمقاسات لا يلبسها غيره، ما يعرض القانون الى الطعن في كل مرة، واقول بصراحة، فلولا تدخل المرجعية الدينية في كل مرة، كونها صاحبة الصوت الاعلى في الشان العام، لكانت العملية السياسية قد ضاقت ذرعا بقانون الانتخابات.
اننا نسعى في كل مرة من اجل ترشيد قانون الانتخابات لنصل به الى التكامل او هو اقرب، مع الاخذ بنظر الاعتبار نتائج كل عملية انتخابية من جانب، ولتحقيق المبادئ التي ذكرتها في صدر المقال وعلى راسها التمثيل الشعبي الحقيقي، كون الشعب هو مصدر الشرعية في العملية الانتخابية، من جانب آخر.
ولذلك فليس من المعقول ان نعود القهقري لنبحث مرة اخرى عن قانون للانتخابت رفضه الجميع، واقصد به قانون القائمة المغلقة والتي تريده القوائم الكبرى من اجل الاستحواذ على العملية السياسية بشكل مطلق.
يجب ان نتقدم الى الامام ونحن نبحث في تحديث قانون الانتخابات، وندع التجربة الماضية وراء ظهورنا، من دون ان يعني ذلك عدم الاستفادة منها ابدا، انها مفيدة كتجربة تزيدنا خبرة، اما ان نعود اليها مرة اخرى بعد ان ثبت بطلانها لرفض الساحة لها فهذا ما لا يمكن لا عقلا ولا قانونا ولا شرعا.
ان من المهم ان يتم تحديث قانون الانتخابات بما يضمن:
اولا: تحقيق قاعدة صوت واحد لمواطن واحد، من خلال اعتماد معيار اكثرية الاصوات لتحديد الفائز.
ثانيا: حماية وتبني ارادة الناخب بشكل واضح وشفاف من دون اي التفاف على صوته بالتناقل مثلا.
ثالثا: الغاء سطوة زمرة من السياسيين او الاحزاب على المشهد السياسي، من خلال خلق فرص جديدة في العملية الانتخابية تتيح للكفاءات والخبرات المستقلة الترشح والفوز.
رابعا: كذلك، الغاء مفهوم القيادات التاريخية التي تتكرر في كل المشاهد ونرى صورتها في كل عملية انتخابية، وكأن العراق عقيم لا ينتج الا هذه الصور التي ملها الناس والتي فشلت فشلا ذريعا في انجاز ما يمكن اعتباره نجاحا يصب في مصلحة الشعب العراقي، وعلى مدى عقد كامل من الزمن.
قد يحتج احد ويقول، ولكن حتى في اعرق الدول الديمقراطية واقصد بها الولايات المتحدة الاميركية يحتكر المشهد السياسي حزبان لا ثالث لهما؟ فلماذا لا يمكن استنساخ التجربة في العراق؟.
واقول، نعم فان حزبين فقط هما اللذان يتبادلان الدور في كل عملية انتخابية، ولكن، هل تحتكر وجوه معينة المشهد السياسي في كل مرة؟ ابدا، فاذا فاز مرشح احد الحزبين لدورة او دورتين اكمل فترته الدستورية وعاد الى بيته مواطنا عاديا، اما اذا خاض الانتخابات في دورة ما ولم يفز فلم تسمع له حسيسا ابدا، فليس هناك زعيم اوحد ومرشح اوحد وقائد ضرورة وآخر تاريخي ابدا.
لم تتكرر الوجوه والاسماء مهما حققت من انجازات عظيمة للبلاد، ولذلك فان مثل هذه النظم السياسية تكون ولادة، تنتج القيادات السياسية والزعامات التاريخية بشكل انسيابي بلا تكلف، لانها عبارة عن فرص تنتج نفسها بمرور الوقت، اما عندنا فالقاعدة الثابتة للحكم والسلطة هي (من القصر الى القبر).
لذلك، يجب ان يحقق لنا قانون الانتخابات الجديد ظاهرة التجديد في الوجوه والزعامات والقيادات، من خلال الغاء كل ما من شانه يكرس الشخصنة وعبادة الشخصية والتكرار في الصورة والواقع.
وبرايي، فان افضل قانون يمكن ان ينتج كل هذا هو الذي يعتمد على الاسس التالية:
1ـ تقسيم العراق الى عدد من الدوائر الانتخابية يساوي عدد مقاعد البرلمان باستثناء حصة الاقليات طبعا.
2ـ اعتماد مبدا صوت واحد لمواطن واحد من خلال اعتبار اعلى الاصوات كمعيار لفوز المرشح.
ان هذين المعيارين هما اللذان ساهما بشكل فعال في تطوير العملية الانتخابية في الكثير من الدول الديمقراطية وعلى راسها الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وفرنسا وغيرها.
هذان المعياران يساعدان الاقليات، سواء السياسية منها او النخب والكفاءات المستقلة، على حجز مقاعدهم تحت قبة البرلمان.
كما انهما يحققان تمثيلا افصل واقرب للواقع، فضلا عن انه يضمن فوز مرشحين وطنيين بكل معنى الكلمة يفوزون برصيدهم الشخصي وليس برصيد (شيخ العشيرة) زعيم القائمة، وتاليا سينتج برلمانا قويا لا يعمل عن طريق السيطرة عن بعد كما هو الحال بالنسبة الى مجلس النواب الحالي، بسبب ان نوابه لم يحجزوا مقاعدهم الا باصوات زعيم القائمة، ولذلك فليس لهم عنده اية قيمة تذكر عندما يتحول الى ولي نعمة يقصي من يشاء ويضخم دور من يشاء.
ان هذان المعياران لم يدعا احد من المرشحين يحجز مقعده تحت قبة البرلمان بعشرات الاصوات فقط، كما هو الحال بالنسبة الى البرلمان الحالي، ومن الواضح فان مثل هذا النائب لا يحق له ان ينبس ببنت شفة تحت قبة البرلمان قبل ان يتلقى اوامره من زعيم القائمة الذي رفعه الى مجلس النواب باصواته.
كان يمكن لمجلس النواب الحالي ان يشرع مثل هذا القانون العصري والمتجدد والراقي اذا كان فوق الميول والاتجاهات، واذا كان يفكر بطريقة تتجاوز النظرة الحزبية والمناطقية الضيقة، اما وانه ليس كذلك، لذلك اعتقد ان على القوى الاجتماعية التالية ان تتدخل بكل قوة لتاخذ زمام المبادرة بايديها من اجل قيادة الراي العام ليضغط على مجلس النواب ليشرع مثل هذا القانون الانتخابي، والا فان العملية السياسية برمتها في خطر محدق.
اما القوى الاجتماعية التي اقصدها فهي:
الف؛ المرجعية الدينية التي اثبتت غير ذي مرة انها فوق الميول والاتجاهات وانها تؤسس لعراق جديد وبرؤية استراتيجية بعيدة عن مجموع التكتيكات التي تحرق الكثير من الاستراتيجيات المطلوبة.
باء؛ منظمات المجتمع المدني التي ليس لها منفعة مباشرة فيمن يحجز مقعدا تحت قبة البرلمان بمقدار حرصها على ان تكون العملية الانتخابية سليمة تضمن التمثيل الشعبي باقصى درجاته وارقى اشكاله.
جيم؛ المفكرون والمثقفون واصحاب الاقلام الحرة ورجال الاعلام الحريصون على بلورة قانون انتخابي يحقق الحد الاعلى من التوافق الاجتماعي والسياسي.
وكما هو واضح فان هذه الشريحة الاجتماعية هي من اكثر الشرائح قدرة على التفكير الحر لما تتمتع به من حرية في التفكير وقلة احتكاك بالسلطة، ما يؤهلها لبلورة قانون جديد يحقق المبادئ اعلاه.
ان هذه القوى الاجتماعية الثلاثة عادة ما تفكر بتطوير العملية السياسية الجديدة في العراق بعيدا عن الشخصنة، فليس مهما عندها هوية الفائز وانما المهم عندها هو ان يكون الفائز قوي الشخصية الحقيقية والحقوقية، قادر على التغيير والاصلاح والتبديل، له رؤية وراي وفكر يمكنها ان تحاوره وتناقشه وتتبادل معه الاراء والافكار وتبلور معه مشاريع القوانين، اما النائب الذي يكيل كل ما تحدثه به الى رئيسه ولا يحسن الا الظهور امام الشاشة الصغيرة للدفاع عن (شيخ العشيرة) حقا او باطلا، لا فرق، فان مثل هذا النائب تتضرر منه هذه القوى الثلاثة قبل اية قوة اجتماعية اخرى.
على الشريحة الثالثة تحديدا ان تبادر لعقد المؤتمرات الحوارية والندوات الفكرية وورش العمل المتخصصة والحلقات النقاشية، لادارة وقيادة الانتقال السليم الى قانون انتخابي جديد يضمن ما يصبو اليه المجتمع العراقي، لتطوير العملية السياسية وانتشالها من واقعها المريض، وان كل الذي نريده هو ان ينتج لنا قانون الانتخابات الجديد برلمانا قويا، لان كل مؤسسات الدولة العراقية الاخرى تعتمد عليه، فاذا كان قويا انتج لنا دولة قوية، والعكس هو الصحيح فاذا كان ضعيفا فسينتج لنا دولة ضعيفة كما هو حال العراق اليوم.
حتى فكرة حكومة الاغلبية السياسية لا يمكن تحقيقها الا اذا انتجت لنا الانتخابات النيابة القادمة مجلسا نيابيا قويا، كما ان حقوق الشعب والبلاد لا ينتزعها نواب ضعاف النفوس والشخصية، يباعون ويشترون بابخس الاثمان، فوضويون، لا يفهمون الا لغة اللعن والطعن والسباب والعراك، كما هو حالهم اليوم.
يبقى ان اشير الى نقطة في غاية الاهمية وهي، لو ان الاحزاب السياسية كانت قد وظفت قانون الانتخابات القديم والحالي بما يحقق انتاج برلمان قوي ومتجانس لما اضطرت مختلف القوى الاجتماعية الى ان تطالب بتغيير قانون الانتخابات.
للاسف الشديد فان هذه الاحزاب وظفت قانون الانتخابات وعلى مدار دورتين انتخابيتين لحمل كل منخنقة وموقوذة ومتردية ونطيحة وما اكل السبع، الا اللمم، لتحجز له مقعدا تحت قبة البرلمان، فكان الحال ما نراه.