لو لم اكن شاهدا على سلسلة من التعديات الشنيعة على قيم الوظيفة مسجلة على جهاز الشرطة التابع لوزارة الداخلية، وتعاطي الرشوة علنا بالصوت والصورة، والتواطؤ مع العصابات المنفلتة، والتراخي في رصد الجريمة التي تعربد في شوارع بغداد، وممارسة الزجر والاذلال للمارة والعابرين ما جازفت بسمعتي ككاتب احترم نفسي وقلمي وتاريخي باطلاق هذا الاتهام “الثقيل” الذي يعرضني الى المساءلة، وربما القصاص، بل، ما كنت ساكتب هذه السطور “المغامِرة” في صحيفة لها مكانتها في خارطة المسؤوليات الادبية والمعنوية للدولة، لو لم اكن طرفا في اكثر من حادثة واحدة يتصرف فيها الجناة بكل “رهاوة” وعينا في اكثر من ساحة تفتح ستارتها، في وضح النهار وعلى بعد ياردات من مفرزة للشرطة، على مسرحية نصب وتشليح وتهديد توقع بمواطنين وتبتز آخرين، ثم يفلت “الممثلون” وهم يرتدون ملابس الشرطة ويستخدمون سياراتها.
أكيد ستقول الجهات المسؤولة في وزارة الداخلية، نعم تحدث مثل هذه الاعمال الخارجة على القانون، ولكنها (ستقول ايضا) اعمال فردية، وتحدث في جميع الدول، بما فيها الدول التي تتمتع بارقى انواع تقنيات المراقبة والملاحقة والضبط والالتزام الوظيفي، وسنقبل هذا التبرير الافتراضي، لكن، تلك الدول تقبض على 90 بالمائة من الاعمال الموصوفة بالجريمة المنظمة، فيما نحن نمرر اكثر من 90 بالمائة من الجرائم، ونزيد على ذلك بان تعلن الجهات الرسمية تورط ضباط وافراد شرطة بادارة عصابات، او المشاركة في جرائمها.
صديق اعلامي، وآخر رجل قانون، وثالث طبيب اخصائي، ورابع فتاة موظفة (وكلهم اعرف اسماءهم وماذا حل بهم) تعرضوا في الاونة الاخيرة الى اعمال نصب متشابهة، في شوارع مكتظة بالشرطة والمفارز (الكرادة. شارع النضال. شارع فلسطين.) حيث تقوم العصابة بافتعال حادث دهس لسيارات يجري اختيارها بدقة ويفاجئون اصحابها بشخص مصاب بالحادث المزعوم، وهو ليس سوى ضحية زائف جرى تعصيبه وتضميد يديه ورأسه مع أشعة من مستشفى قريب تؤكد اصابته البالغة، ويبدأ الفصل الثاني بابتزاز صاحب السيارة بدفع مبلغ لقاء عدم تسليمه للشرطة او عدم حل المشكلة عشائريا.
اكثر من مواطن، في بغداد ومدن اخرى، شكا اليّ انهم لم يحصلوا على فرصة عمل لأن الثمن (الرشوة) باهظة واكبر من طاقتهم، وان هناك افرادا في جهاز الداخلية يديرون طاحونة رشى مكشوفة لتعيين العاطلين عن العمل، واخرى لتأمين الخدمة في مواقع معينة، او لاسقاط اوامر نقل الى مواقع مكلفة امنيا، وحضرت شخصيا حوارا يثير فيه احد المواطنين “نخوة” وشفقة مسؤول في الجهاز لتمشية معاملة تعيينه مقابل مبلغ “على قدر الحال” فرد الوسيط بان القضية بيد غيره.. وان الغير لا يتزحزح عن المبلغ.. وهذا سعر السوق.
“كل ما يتطلبه الطغيان للوجود هو بقاء ذوي الضمير الحي صامتين”.
جيفرسون- الرئيس الامريكي الثالث
مقالات اخرى للكاتب