لمحة واحدة تكفي لبرج ايفل كي يستدل الناظر منها على مدينة اسمها باريس ؛ ولمحة أخرى لقباب الكرملين تحيل الناظر الى موسكو وساعة بيغ بين تعني لندن وبرج بيزا علامة فارقة لروما . ولكن ما الذي تبقى للبصرة كي تتميز به عن مدن أخرى من مدن الشرق والغرب ؟!
منذ اوائل الستينات والمدينة شهدت وتشهد تقويضا عشوائيا ومنظما في آن معا ، حتى استحالت الى واحدة من مدن ( الزي الموحد ) فهذا الشارع يشبه ذاك وهذا المبنى يماثل ذاك . وبهذا فقدت البصرة خصوصيتها وعلاماتها الفارقة . ومنذ ذلك العقد الستيني فقدنا عددا كبيرا من البيوت التراثية و الشواخص اما عن طريق الإزالة او الإهمال او التخريب .
وحين جاء البديل تبين انه لا يمت لروح المدينة بأية صلة ولا للفن ولا للذوق . من المسؤول وهل من علاج او حتى نصف علاج ؟
كيف كنا وكيف اصبحنا
يورد احد الدارسين من متابعي التاريخ السكاني والعمراني لمدينة البصرة اسماء عدد من الشواهد التراثية التي تحكي تاريخ مدينة بسعة البصرة قائلا : تأتي ساعة سورين ببرجها المميز وبيت خلف جلبي المطل على نهر العشار وعمارة ( النقيب) في طليعة العلامات البارزة التي تشكل بصمة واضحة للمدينة . ويستطرد متحدثا : كثيــــــــر من النـــــاس وخاصة من جيل الشباب يجهلون الكثير من معالم البصرة القديمة اما بسبب ازالة تلك الآثار أو المعالم نهائيا من الوجود أو الإهمال وعدم الاهتمام بتلك المعالم التاريخية الجميلة وتقادم الزمن عليها ومن هذه المعالم ( ساعة سورين ) , التي أزيلت منذ زمن ولم يبق منها سوى صور فوتوغرافية بالأسود والأبيض . تقع ( ساعة سورين ) عند جسر سوق الصيادلة ( سوق المغايز ) من الطرق الشمالي للجسر القديم المبني من الطابوق الذي أزيل هو الآخر ولم يبق منه شيئا فقد وضعت ( ساعـــــة سورين ) عند مدخل جسر سوق الصيادلة ( سوق المغايز ) من الطرف الشمالي للجسر القديم المبني من الطابوق ألذي أزيل ايضا . بنيت ساعـــــــــــة سورين على برج عال مشيد من الطابوق يرتفع إلى السماء وفي نهايته ساعة مستديرة الشكل سوداء اللون .. تراها شامخة يغازل ظلها نهر العشار وتقابلها في الضفة الأخرى من النهر بناية مشهورة هي ( عمارة النقيب ) التي أزيلت وطواها النسيان .هذه المعالم الجميلة الرائعة لم يتم الحفاظ عليها للأسف الشديد ولم تقدر قيمتها ألأثرية . أن كثيرا من الدول والشعوب تحافظ على تراثها ومعالمها الحضارية وتصونه من كل عبث ، أو توفر له الإمكانيات المادية والبشرية بصيانته والاعتناء به وإبرازه بشكل يليق بمكانة صانعيه وجهودهم لذا بقيت تلك المعالم خالدة لم تندثر على مر الزمــــــــــان بينما نحن بقينا نتـــــــــذكر ونتحســـــــــر على تلك المعالـــــــم التي لم يبق منها شيئا سوى الذكريــــــــــات التي سيطويها النسيــــــــان يوما مـــــا وتصــــــــــبح بدورها أطـــــــــلالا !
ويتساءل مدير احد المراكز البحثية مسترسلا : كيف كنا وكيف أصبحنا ؟! البصرة لم تفقد ساعة سورين وبيت الجلبي الهندي الطراز بل فقدت وعلى مدار خمسة حقب بيوتا تراثية وأضرحة وحدائق ومتنزهات وشوارع مزدانة بالنخيل . اذهب الى منطقة السيف لتجد مصداق كلامي فهناك عشرات من بيوت الشناشيل أمست إطلالا او كادت . ومازلت اذكر سائحا من امريكا اللاتينية زار مدينتنا اوائل السبعينات وذهل لدى مشاهدته لشناشيل البصرة القديمة قائلا ان الحال كان سيختلف لو انها كانت موجودة في ( بوغوتا ) عاصمة كولومبيا اذ من المؤكد انها ستأخذ نصيبها من الصيانة والحفظ باعتبارها تاريخا ومصدر جذب سياحي في الوقت نفسه .
ويتابع مستذكرا ومتسائلا : ماذا سيقول صاحبنا الكولومبي لو زار شناشيل البصرة في يومنا هذا وقد أمعنت أيدي الإهمال وأزاميل الزمن والتخريب اشد امعان بل والأنكأ من ذلك بعد تعاظم البناء العمراني الفاقد لأية ملامح مميزة في معظم ابنيتها ؟!
يصف الكاتب الكابتن كاظم فنجان هذه المدن بأنها ( مدن الزي الموحد) وهو تعبير في غاية الدقة والبلاغة .
مدرسة المحمودية
ابو قدوري وهو من أهالي ( ابي الخصيب ) يتحدث في لهجة لا تخلو من أسف ومرارة لما آل اليه القضاء : بيت الراحل السياب هو من ابرز الأمثلة على الاهمال رغم انه جرت محاولات وان كانت متأخرة لصيانة بيت الشاعر الذي يعد علامة مضيئة في تاريخ مدينة الادب والعلم . وهناك صرح تربوي آخر يؤسفني القول بأننا لم نحافظ عليه وهو ألا مدرسة المحمودية التي ازيلت عن الوجود قبل فترة ليست بالبعيدة ولم تبق سوى في ذاكرة اناس سيرحلون هم بدورهم ذات يوم .
في كتابه المعنون ( ابو الخصيب وشط العرب ـ ذكريات ) يتحدث مؤلفه المرحوم منصور الحاج سالم السالم عن الأيام الأخيرة لمدرسة المحمودية فيقول :سميت هذه المدرسة بهذا الاسم نسبة لمؤسسها محمود باشا العبد الواحد وكان بداية بنائها في منطقة جلاب وهي منطقة من مناطق ابي الخصيب .. الا ان مكانها كان في زقاق ضيق مع ازدياد عدد التلاميذ سنة بعد سنة الى ان سنحت الفرصة بانتقال المدرسة الى الشارع العام في منزل الحاج خلف جلبي ابن اخ الحاج محمود في منطقة تسمى ( آل ابراهيم ) .
لعبت المدرسة المحمودية دورا كبيرا في تخريج اجيال من التلاميذ كان من بينهم اسماء لامعة في اكثر من مضمار كالسياب واسماء اخرى قدمت خدمات جلى للمجتمع البصري بوجه خاص والعراقي عموما ، لكن المدرسة كصرح شهدت بداية اندثارها في بداية السبعينات حين تم اهمالها واختلف ورثتها فيما بينهم بعد ان كانت نارا على علم على حد تعبير المؤلف الذي يستطرد في كتابه متحدثا عن أيامها الاخيرة قائلا : واخيرا اصبحت من نصيب رجل من اهالي القرنة اذ انه في بادئ الامر حاول ان يجد عمالا من اهل البلد ليقوموا بهدمها لكنه لم يحصل على ذلك اذ ليس البلد خاليا من الايدي العاملة لكن منعهم من ذلك قدسيتها عندهم بكونها اثرا شامخا يذكرهم بماضي الآباء والاجداد . لقد صمد ذلك ذلك الصرح امام حربين شرستين لكنه تخاذل امام ورثته ! واثناء الحرب العراقية الايرانية قامت المدرسة بايواء عدد من العائلات الجنوبية لمدة ست سنوات . كما انها شرعت ابوابها عام 1991 لأبناء الوافدين من البصرة والزبير ابان حرب الخليج الثانية .
وفي ايامها الاخيرة صارت غرفاتها تؤدي مهاما أخرى كاهداء احدى غرفها الى فرقة اطفاء ابي الخصيب قبل ان تمعن فيها الفؤوس والمعاول هدما وتقويضا ، على سبيل المثال لتفقد اهميتها كبصمة من البصمات التي منحت شارع النادي خصوصيته .
وشواهد اخرى
ان ما حدث لمدرسة المحمودية قد حدث لصروح وشواخص اخرى كانت تمنح المدينة علامتها الفارقة التي كانت اشبه بالعلامة التجارية Trade Mark لسلعة من السلع .يلاحظ السيد حسين وهو من قدامى معلمي المدينة ان ما تبقى من صروح لايعد على اصابع اليد ، فقبة الموانئ مازالت ونالت نصيبها من الصيانة لكن اسد بابل تعرض لأيدي العبث والتخريب منذ عهد ليس بالبعيد. ويتفق معه المصور عبد الاله في ان معالم المدينة اخذت بالتناقص مستنتجا : التخريب لم يبدأ بالفأس والمعول بل بدأ داخل العقول . والا كيف نبرر إزالة ساعة سورين وعشرات البيوت والعمائر والفنادق "في شخطة قلم " على حد تعبيره ؟! خذ شارع الكورنيش على سبيل المثال . اين الفنادق ذات الطراز التراثي وأين حديقة الأمة ومبنى رئاسة الجامعة والنادي الهندي وغيرها ؟ أما عن الشناشيل فحدث و لاحرج . تقول الفنانة التشكيلية د. جنان محمد احمد : يمكن ان ننظر لطراز الشناشيل على انه ذاتي وجزء من نظرة المجتمع نحو البيئة ، في آن معا . وتورد الدكتورة جنان في المبحث الخامس من دراستها ثلاثة دور تقع في منطقة الباشا هي ( منزل الشيخ خزعل ) ومنزل الوالي ( المناصير فيما بعد) ومنزل المعتمد اليوناني ثيودور ( متحف آثار البصرة حاليا ) ذاكرة : لم يبق من مباني الشناشيل التي شيدت في مدينة البصرة الا القليل جدا وما تبقى منها فهو بحالة متردية .
وكان الكورنيش مزدحما بالبيوتات ذات الطرز المعمارية الرائعة . في هذا المضمار يتحدث الكاتب احسان وفيق السامرائي في مقالة عنوانها ( كورنيش البصرة .. قصة شارع) : لقد تعرض كورنيش البصرة عبر السنوات المتتالية الى تغييرات عديدة ففي مطلع السبعينات حدثت تغييرات كثيرة في النمط المعماري غير ان تلك المحاولات باءت بالفشل لانعدام الرؤية الفنية وغلبة الحس التجاري النفعي كهدم بيت السيد ( عبد المحسن الشعيبي ) الذي اتخذته British Club كناد لموظفي النفط ، وبيت السيد حامد النقيب الذي حل محله ( فندق شيراتون ) الذي جاء رغم الجهد الظاهر في عمارته بعيدا عن الاطار المعماري المألوف في البصرة .
وقد حاول مصممو البنك المركزي بعد استملاكهم لقصر الكويتي الشيخ عبد الله المبارك الاحتفاظ بملامح شرقية للمداخل الرئيسة الا ان التصميم فشل في اعطاء مسحة شرقية لخلوه من الاعمدة والاقواس وانشغالهم باعمال المرمر غير المألوف في اجواء البصرة بدلا من الطابوق المنجور. وفي محاولة استذكارية يستدعي احد اعضاء اتحاد ادباء البصرة ما غاب عن المدينة او شوه من بصمات فارقة : على الرغم من الصيانة المستمرة للاعدادية المركزية التي تقع في قلب المدينة ومساعي تجديدها على نحو فني ، لكن الزحف العمراني تسبب في (انكساف) جلي لحضور المبنى على الصعيد الجمالي المادي وهي الظاهرة التي تنطبق على العديد من البناءات والنصب التي كان لها حضورها الطاغي ايام زمان مثل محكمة البصرة القديمة وعمارة النقيب التي حلت محلها كتلة بنائية صماء رخيصة الالوان لاتمت للحس الجمالي بصلة . وكذلك فلكة مطافئ المدينة وساحة الطيران ومطار المعقل الجوي و حوض الداكير وبيت الاغا الذي استحوذ عليه صدام حسين واتخذت منه القوات البريطانية مقرا لها وعشرات من البيوت الشرقية الطرازعلى الضفة الشرقية لشط العرب ، ناهيك عن دور السينما والجسورالمشيدة بأساليب خاصة مميزة .
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وعلى الرغم من الدمار الكبير الذي لحق بالجزء القديم من العاصمة البولونية وارشو ، الا ان ابناءها أبوا الا ان يعيدوا بناءها كما لو انها لم تخرب قط ! هذا الامر ينطبق على المانيا ما بعد هتلر فقد افلح الشعب الالماني نساء ورجالا في اعادة ما دمرته طائرات الحلفاء في غضون فترة زمنية قصيرة حتى صار البديل يفوق الأصل دقة ونصاعة .
لعل جسر المحاكم الذي يقع في قلب العشار يمثل محاولة لاضفاء الطابع المعماري المتميز بروافده ومقترباته , رغم نواقص اللمسات الاخيرة . ولكن كم من الجسور روعي فيها التميز والخصوصية وكم من الفنادق اخذ بنظر الاعتبار ان المدينة ذات طابع شرقي ذي تماس مع حضارات هندية وفارسية وعثمانية وكان ينبغي المحافظة على خصوصيتها لا إضاعتها عن طريق تشييد المكعبات المتشابهة ( مكعبات الزي الموحد ) .
هل نحلم ببصرة من جنس احلامنا التي تداعب اجفاننا ؟
سنكون بحاجة ، حينها ، الى الف زها حديد كي نحقق ذلك الحلم اللذيذ!
مقالات اخرى للكاتب