لو عدنا وبوعي كامل ,الى بقية المشاريع التقسيمية السابقة في العراق ' وما وضع له من خرائط وما أعد له من دراسات وقدم لها من مبررات , لوجدناها بمجملها ضربا من الهوس ومن الصراعات المصطنعة العابرة في التأريخ , ولوجدنا كذلك ان الحقيقة الوحيدة في العراق (الفدرالية) .
ولو عدنا كذلك الى بعض الركائز التأريخية لأدركنا فشل جميع التجارب التقسيمية التي عرفها العراق , منذ مطلع تأريخه حتى هذه اللحقبة الى (دويلات)أو (امارات) او(أقاليم) لعر فنا عندها ان انتماء العراق الى المنطقة جعله مرتبطا ومتفاعلا معها على جميع الأصعدة فما يصيبه يصيبها والعكس بالعكس ,فعندما لم يكن عراقا واحدا ,لم يكن هناك لا سوريا واحدة ولا لبنان واحد ولا فلسطين واحدة ,لا دينيا ولا سياسيا ولا عسكريا ,بل لكانت هناك سوريا الأمارات ولبنان الأقليات وفلسطين الولايات وايضا فقد كان لوجود العراق (الواحد) غير المقسم ارتباط وثيق ومباشر بالمصالح العالمية (وهي كثيرة ,منها السياسية,والعسكرية ,والحضارية) .وما سمي في الماضي (بالمسألة الشرقية) هو في الحقيقة امر قديم جدا ويعود الى بدء تكوين العالم الغربي وبدء تطلعه الى توسيع مناطق نفوذه ونشاطاته الحيوية.
الا ان هذه الركائز التاريخية وان كانت تعطي دليلا واضحا وثابتا تأريخيا على استحالة التقسيم في العراق , فهو في الوقت الحالي لا يبعد عنه شبح السياسات التقسيمية والتهجيرية والتدميرية التي عرفها في الماضي والتي عادت حاليا وبفضل بعض المنجرفين في دوامة اللاوعي المؤقت ,الى التمظهر بشكل اخر وابعاد اخرى لا يعلم سوى القليل مدى خطورتها على بنية العراق الحالية وعلى مستقبله واحتمالات ديمومته , مما دفع بهذه الأقلية (الواعية) الى طرح علامة استفهام تلو الأخرى حول مصير العراق .
لابد لأي انسان عاش الأحتلال الأمريكي بسنواته وشهوره وايامه ان يقع على صفة فريدة او بالأحرى سمة غريبة , كانت قد التصقت بالنظام السياسي الأجتماعي في العراق خلال فترة تاريخه الحديث هذه الصفة تتلخص في ان ( المتغيرات ) وليست الثوابت هي التي تتحكم بالمواقف والأحداث في العراق الى درجة تجعل معها القدرة على (التنبؤ) بمستقبل التطورات في هذا البلد عملية شبيهة بالمستحيل .
ولا يعثر المهتم في الحقيقة على مثل هذه الصفة او هذه الخصوصية العراقية في المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات العربية فالقاعدة العامة في هذه المجتمعات تقول ان لكل منها خطوط ثابتة وراسخة من المعتقدات والسياسات التي تمثل وتصور إستراتيجية هذا المجتمع وبنيته وهي إستراتيجية تتسم عموما بالثبات النسبي والمرونة في مواجهة الأحداث لكن خصوصية الوضع في العراق بما يتضمنها من خلل في المجتمع العراقي . افشلت في الحقيقة قيام ستراتيجية مثيلة في بنيان هذا المجتمع وجعلت المتغيرات هي الأساس واخفت الثوابت بحيث بدت وكأنها غير موجودة اصلا.
وهذه الظاهرة ( سيادة المتغيرات على الثوابت) بحد ذاتها هي تعبير واضح عن خلل ما في المجتمع العراقي وليست كما يدعي البعض , ناتجة عن( الطفرة ) التكنولوجية كتلك التي تشهدها المجتمعات الغربية فهذه المجتمعات استطاعت (في ظل ثورة التكنولوجيا) ان تكون لنفسها مجموعة من القواعد العامة ,او الثوابت التي تعمل بدورها على تنظيم الحياة الأجتماعية والسياسية فيها , مما يمنحها بشكل عام نكهة الترابط والقدرة على التنبؤ بما قد يقع في المستقبل .
لكن العراق ,على الرغم من عدم تبعيته بالكامل للمجتمعات الغربية , فقد شاء بأرادة النخبة الطائفية فيه ان يقف عند درجة مجتمع في مرحلة التكوين او الانتقال (حيث تسود المتغيرات على الثوابت) ليأتي من ثم الأحتلال الأمريكي ويعصف بكل شيء , فأنهارت على الأثر النظم السياسية وانهارت القيم الأخلاقية والأجتماعية واصبح كل شيء ممكنا كما استحالت القدرة على التنبؤ وهذه النقطة الاخيرة بالذات هي التي دفعت بمعظم المراقبين الى رسم علامات الاستفهام حول سر مجرى التطورات الأخيرة في العراق .
ولكن ما هو مفروض في العراق ليس هو الحاصل دائما ,ويظل السؤال الأهم يتردد(هل من احتمالات لبقاء النظام السياسي الحالي في العراق ؟) .........
لقد طرحت الأحداث الأخيرة - من دون ريب- مسألة قديمة -حديثة وخطيرة هي مسألة التعايش بين الطوائف ولا غرو ان المحنة الحالية (تشكيل حكومة وطنية) ستزيد من حدة تلك المشكلة وتنيخ بظلالها على قضية التعامل بين الطوائف , مع انها من الناحية المحسوسة , لم تنجم عن صراعات طائفية مكشوفة.
وهكذا فقد اعادت الأحداث الأخيرة أحياء بعض الحلول العملية السابقة (التي كانت موضوعة على رف الأنتظار )والتي تتراوح بين التوفيقية والتوافقية والتلفيقية والتكاذب المشترك وقد يكون من الضرورة بمكان تعداد ابرز تلك الحلول :
1)يقول البعض اليوم ان اعادة بنيان الدولة العراقية لا يحتاج الى اكثر من احياء الفسيفسائية الطائفية ,شرط تأمين لحمة افضل بين الطوائف وتشابك اكثر ايجابية وفعالية من قبل .
هذا في الحقيقة تصور يردده الكثيرون على الرغم من الشك الذي يدور حول صحته ,فأذا كانت الفسيفسائية تعني فسيفسائية التراث الثقافي -الحضاري ,فأن العراق وان كان مجزأ سياسيا واجتماعيا , الا انه واحد من حيث التراث الثقافي والحضاري (خاصة فيما يتعلق بالأمثال العراقية ,النكات , المطبخ, الموسيقى, الأدب, اللهجة,الثأر, الأعراض,الشرف,الكرامة الشخصية,تركيب العائلة ,الشهامة والشجاعة.
اما اذا كانت الفسيفسائية تتناول -التنظيم السياسي-الأجتماعي في العراق فليس بامكان احد انكار التعددية الطائفية والتشرذم المجموعي القائم على الفوارق بين الطوائف والفوارق بين الأغنياء والفقراء والريف والمدينة الخ.....
والمسألة العالقة عندها تكون في كيفية ( التعايش بين السياسيين في العراق )وليس بين العر اقيين انفسهم ,لأن هؤلاءكانوا دائما موجودين من حيث التراث الحضاري الا ان التركيبة السياسية هي التي كانت دائما تعطي انطباعا مغايرا لذلك.
2) يعتبر البعض الأخر ان اقامة دولة عصرية بكل معنى الكلمة , وفي ابسط مفاهيم البنيان الوطني والقانوني للدولة ,يتعارض مع وجود عدة دول ضمن دولة واحدة ,اي وجود سيادات طائفية ضمن السيادة الوطنية .وهؤلاء يضعون السلطة العامة في تعالي على الطوائف والمصلحة العامة على الجماعات الجزئية ويقولون انه اذا كان لا بد من تعددية في العراق فلتكن ثقافية وفنية ودينية واجتماعية لا تعددية سياسية فقط.
3)يرى طرف ثالث (وهو الأشد تفاؤلا بين العراقيين) ان مجرد العودة الى الصيغة الأساسية والتشبث بها ,من شأنه ان يعيد العجلة الى مسيرتها الأساسية فتصطلح الامور تباعا وبصورة عفوية تبعا لمتطلبات الظروف وتتهيأ اذ ذاك ظروف اوفر مؤاتاة لنمو افضل وأزدهار ازهى .
4)يبقى دعاة الأنفلاق الطوائفي ,وهؤلاء يحملون شعارات متعددة ويطرحون صيغا مختلفة للعراق الجديد تتراوح بين (الفدرالية,والكونفدرالية,والوحدة اللامركزية ,والنظام التوافقي ,والحل الأتحادي ,والصيغ التعددية , والتنوع في الوحدة وصيغة الحل التقسيمي .
وهذه الصيغة الأخيرة بالذات يجب التوقف عندها ورفضها وتبيان مبررات رفضها خاصة ونها تنطلق من موقع ايديولوجي طائفي مغلوط يرى في الطوائف خصوصيات اتنية وحضارية ثابتة في حين انها في الواقع سمات اجتماعية لبنى تتعدل وتتطور وفق العوامل البنيوية الفاعلة ' وهي عوامل ترتبط بالتطور الاقتصادي ومسار هذا التطور وطبيعته الانمائية ومدى انخراط المناطق وطوائفها فيه.
وقد اثبتت الوقائع بالملموس استحالة تقسيم العراق الى كانتونات طائفية بسبب تشابك عوامل داخلية يستحيل معها التقسيم الا بتدمير العراق كله دون ان تنجو منطقة واحدة او طائفة واحدة من مخاطر التقتيل والتهجير القسري وقد عشنا هذه الازمة وحتى الان,(ذن لنقل صراحة:لا يمكن ان يكون العراق وطنا مسيحيا ولا وطنا شيعيا ولا وطنا سنيا ولاكرديا ولا اسلاميا 'لا يمكن ان يكون وطنا لأي من الأديان ,او مذهب من المذاهب ...لا يصح ان يكون العراق الا وطنا لاي دين من الأديان ,او مذهب من المذاهب, لا يصح ان يكون العراق الا وطنا لجميع العراقيين على السواء.
البداهة اذن تقضي ان يتخطى العراقيون الوضع التراكمي ذا المعالم الطائفية البالية لكي يحققوا تناغما وطنيا ,ووحدة حقيقية يؤلف فيها الافراد ,على اختلاف المنشأ او المعتقد الديني او الفكري او السياسي او الحزبي , مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات في دولة عصرية لا تقيم لغير الكفاءة وزنا وهذا يتطلب نسف الخلفية الطائفية واقامة تشريع وتنظيم حديثين الا ان سرعة السير في هذا التحول وحيثياته ومداه تتأثر -بدون شك - بالظروف والمصاعب النابعة من رواسب الماضي ومن مطامع ومداخلات السياسة الخارجية ودول الجوار , فما دام التوافق العام والواضح على هذه الامور غير قائم فالمسألة ستظل مطروحة والنار ستظل مشتعلة تحت الرماد...... وأخيرا :
نتمنى تحقيق الحلم العراقي والعربي بالوحدة والأستقلال والسلام ...
مقالات اخرى للكاتب