من البديهي ان لاوجود لشخص لايتمنى الخير لأهله وذويه، ومن البديهي أيضا ان الفرد منا بانتمائه لبلده يكون حبه وولاؤه بطبيعة الحال ساريا في دمه ولايحيد عنه مهما كان الثمن، إذ يبقى بلده لايقارن بأي ثمن مهما غلا وعلا عدده في كل الظروف، ولنا في أسفار التاريخ المئات من الأمم التي ضحت شعوبها بالأموال والأرواح من أجل وطنهم، والحديث حتى اللحظة عن الإنسان السوي والعاقل والشريف وذي الغيرة. هنا في عراقنا الذي شهد هجرات على شكل جماعات وفرادى لاسيما خلال العقدين المنصرمين، بعد ان بات يقينا لدى شرائح المجتمع العراقي كافة في بداية التسعينيات ان النظام الحاكم آنذاك، لن يترك العراق كما قالها حاكمه (إلا ترابا). فترك الملايين من المواطنين أرض العراق على مضض، وسعوا في مناكب الأرض أما هربا من عنف او بحثا عن أمن او لقمة عيش مكرهين على مفارقة أهلهم وأعمالهم وأملاكهم، إلا أن جذورهم بقيت متأصلة فيه متأملة العودة يوما ما ولم الشمل ثانية. والذين خرجوا لم يبيعوا هويتهم او نسبهم او أهليهم او وطنهم، فهويتهم لم يستبدلها الكثير منهم إلا لأغراض العمل، كذلك نسبهم وأهلوهم ووطنهم، وما تأسيس جاليات ورابطات في تلك البلدان إلا دليل على شعورهم بالانتماء الى العراق على الرغم من بعد المسافات الفاصلة بينهم وبينه. ومافتئوا يقيمون المناسبات العراقية الدينية منها والوطنية والفلوكلورية بنفس توقيتاتها ومواعيدها، ويحيونها دوما بنفس الطقوس والمفردات والأهازيج التي تقام داخل العراق، فرمضان بإفطاره وسحوره، وعيد الفطر وعيد الأضحى يحيونها هناك كما نحييهما في بلدنا، وصينية عرس القاسم لم ينسوا قط ان يتحفوها بـ (الياس والشمع والحنة والحلويات والملبّس) فضلا عن باقي مراسيم زيارات الأئمة الأطهار وذكرى ولاداتهم واستشهادهم. ان العراق كان ومازال وسيبقى عند الكثيرين من أبنائه قبلة ولائهم وعائديتهم وانتسابهم بصرف النظر عن دينهم وقوميتهم وجنسهم، وسواء أكانوا بداخله أم مهاجرين او مهجرين خارجه! فلهم فيه مآرب فطروا على حبها وجبلوا على التعلق بتلابيبها، كما أنشد شاعر:
ولـي وطـن آليت ألا أبيـعـه
وألا أرى غيري له الدهـر مالكا
وحبب أوطان الرجال اليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
الذي يحدث اليوم، ان هناك من يشرب من ماء دجلة والفرات ويتنفس صعداء نسمات الوطن التي يتحسر عليها الكثير من المغتربين، إلا أنه لايرى في العراق غير (صفقة تجارية) و (جدوى اقتصادية) و (منفذ تصريف) و (تشغيل أموال) غير آبه بمفردة الوطن وما تعنيه، فهلا تنبهنا لمثل هؤلاء لاسيما ونحن نعيش مرحلة حرجة، على المواطن التدخل بنفسه في المشاركة في صنع القرار، مادام حاكموه يتلاعبون بصناعته وصياغته وقراءته وإقراره، أما تنفيذه فهو الطامة الكبرى، لاسيما أن حال السمكة من ذيلها الى رأسها لا يبشر بخير حتى الآن.
مقالات اخرى للكاتب