تكمن عظمة الدول والشعوب، في الطريقة التي يُسيّر فيها الكرسي، أي في وسائل الدخول وكيفية الخروج من الحكم. وجنوب إفريقيا، ممثلة في الرئيس السابق، نيلسون مانديلا، تمثل هذه العظمة والرقي بامتياز، ودون أن ينازعها في ذلك أحد.
نيلسون مانديلا، كان كبيرا، حين واجه التمييز العنصري، وفي سبيل تحرير أمته من الذل والعبودية، رضي أن يقبع في السجن ثلاثة عقود، ولم يرضخ لتهديد، ولم يستسلم للإغراءات التي مُنحت له، وقال بإباء وشموخ .. السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.
وحين خرج من السجن، علم أن زوجه، استغلت اسمه في سوء التسيير، واستغلال النفوذ، فأساءت لهذا الطود، وأضرت بسمعة الرجل، ووقوفه ضد كل استغلال، فطلقها لأسباب سياسية، ولم يطلقها لنزوة عابرة، فعمّ عدله العرش والفرش.
ودخل الرئاسة على متن الصناديق الشفافة، من ماي 1994 إلى جوان 1999 ، وكان رئيسا للذين أذلوه، والذين رفعوه. وطيلة عهدته الرئاسية الوحيدة وغير المجددة، لم يثأر من أحد، ولم يحقد على أحد، وعاش الجميع في كنفه، وفي ظل رعايته، وهو الذي بيده الأمر والنهي. فحكم بجانب من حاكموه، فساد التسامح، وعمّ العفو، وانتشر السِّلم، وقال للأبيض والأسود.. لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.
وحين جاء الوقت المعلوم للخروج، خرج من الرئاسة نظيفا نقيا، في كامل عظمته وكبريائه، وتركها لمن خلفه زاهدا فيها، وهي التي سعت إليه سعيا، حاملا معه لقب .. الرئيس السابق، وهو لقب عظيم شريف، يناله من احترم نفسه عند الدخول، فاحترموه أثناء الخروج.
وظل يخدم دولته ومجتمعه، كأي فرد عادي، من خلال ماأوتي من رصيد رصين، وعلاقات عميقة متينة .. فبفضله نالت إفريقيا كأس العالم، وهو حُلم يراود الكبار قبل الصغار، وتهاطلت على جنوب إفريقيا، مختلف المشاريع، ومن كل فجّ عميق، فهي من علو إلى علو.
وحين أصابه الكبر والمرض، فضّل سرير البلد على مستشفيات الغير، وهو الذي لو شاء، لسعى إليه الطب وأمهرالأطباء، من كل حدب وصوب. فهو الآن يحتفل بعيد ميلاده 95، على سرير المستشفى، بين أهله وذويه، وفي وسط شعبه ودولته، يدعون له، ويصلون لأجله. و يبقى الرئيس السابق لجنوب إفريقيا، نيلسون مانديلا ..
عظيما حين واجه الحديد والنار، ورفض أن يكون عنصر اللون، معيارا للحكم، ومقياسا للصعود والرقي.
وعظيما حين اقتطع من زهرة شبابه، 30 سنة في السجن، في سبيل تحرير شعبه ودولته، ولم يبدّل تبديلا.
وعظيما، حين دخل الرئاسة نقيا، وخرج منها أنقى.
وعظيما، حين اختار أن يداويه أطباء البلد، وفي ظل طب البلد .. هذا البلد الذي لأجله ومن أجله، سجن وأهين وعُذّب.