عباس الزيدي / النجف الأشرف/ 19 / 8 / 2013
هل سمعتم يوماً بوصيف وبُغا؟. هما في الحقيقة غلامان تركيان، ونعلم بأن الأتراك قدم بهم المنصور العباسي كغلمان مرد جرد أصحاب وجوه أوربية ليزين بهم قصره من ناحية ويجامل بهم بيزنطة من ناحية أخرى، وكان معظمهم من الخصيان بعد أن فسدت الخلافة وأصبح هؤلاء الغلمان الوسيمون يعوضون الخلفاء والبلاط عن الملل الذي يصيبهم من النساء على سبيل التنويع؟!. وبعد سنوات ليست بالكثيرة عظم شأن هؤلاء الغلمان حتى أصبحت لهم الكلمة العليا في القصر العباسي، ووصل الأمر الى أنهم يعزلون خليفة وينصبون آخر، وصاحبانا وصيف وبغا كان لهما الدور الريادي في عصر المتوكل والمستعين أما بغا التركي الصغير المعروف بالشرابي الأمير من كبار قواد المتوكل وهو أحد من دخل عليه وفتك به وغلب على المستعين هو ووصيف حتى قال الشاعر في ذلك : ((خليفة في قفص .... بين وصيف وبُغا، يقول ما قالا له .... كما تقول الببغا)). أنظر : السيوطي، تاريخ الخلفاء 278، الصفدي، الوافي بالوفيات 10 : 110، الذهبي، تاريخ الاسلام 19 : 94. وشاهدي من هذه الموعظة التاريخية ما نراه اليوم من هيجان تركي وهيستيريا أصابت أردغان بعد أن تبخرت أحلامه في أن يكون مع أوباما وصيف وبغا، فهذا الرجل التركي الذي أصبح يوماً ما ينظر الى امبراطوريته العظيمة التي امتدت وشملت أجزاء من آسيا وأفريقيا، وكان الآمر الناهي خاصة في مصر أيام الخليفة (مرسي) الذي كان بدوره يقول ما قال له أردغان كما تقول الببغا، ولكن حظوظ وصيف وبغا كانت أكبر من حظ أردغان، فلم يستمر الحلم التركي أكثر من سنة واحدة، وبعد ثورة 30 / 6 المجيدة خرج التركي عن طوره فبدأ يزبد ويرعد ويتوعد ويهدد، وأخيراً طالب بتدخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤتمر الاسلامي لإعادة الخليفة الى عرشه، ولم يكتف بذلك حتى شبَّه الفريق السيسي ببشار الأسد، وهذا ما حصل بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة ومطاردة المسلحين وقادتهم الذين عاثوا في الارض فساداً يقتلون ويحرقون ويعطلون مصالح العباد والبلاد، وتفاجئنا بخروج تظاهرة في أربيل شمال العراق وكوالالامبور بالاضافة الى تركيا طبعاً مع أن أصدقائنا المتظاهرين في هاتين المدينتين لا أعتقد أنهما يعلمان ما يجري في مصر وأغلب الظن أنهم خرجوا لأمر لا يعلمون ما هو، فهم بداية لا يجيدون اللغة العربية جملة وتفصيلاً، اللهم إلا أن يكون بعض الأكراد من أربيل يجيدون بعض الكلمات العربية، ولكن هذه المناطق كما نعلم يمكن تكديسها بتظاهرات مؤيدة اليوم ومعارضة في اليوم التالي، ولم أتفاجئ بالجزيرة وهي تعرض أشخاص ذوي لحى شعثاء ووجوه غبراء وأخيرهم شخصية نياردانتالية تم تعريفه بالدكتور عبد الرحمن النعيمي من محافظة الأنبار غربي العراق حيث معقل الاخوان المسلمين في العراق، والنعيمي هذا رئيس منظمة الكرامة لحقوق الانسان، وكما تعرفون فإن هذه المنظمات التي تدعى (منظمات المجتمع المدني) عناوين زائفة لخدمة مصالح الغرب لا أكثر، وأكَّد النعيمي أنه قدَّم الى منظمات حقوق الإنسان العالمية الحقائق عن الانقلاب (كما أسماه) وعن تدهور حالة حقوق الانسان في مصر. ولا أريد أن أشغل وقت القارئ بهذه الشخصيات الكارتونية بقدر ما أتعجب من هذا الضجيج الذي أُثير في العالم بعد تنحية الخليفة مرسي، وسبق أن أوضحت في مقال بعنوان (مصر والإرهاب وسياسة عضِّ الأصابع) أن رهان الاخوان المسلمين على المطاولة والضجيج مما قد ينتج استجابة غربية مناسبة، أو رضوخ من قبل زعماء الثورة في مصر، فما أن فض ميدان رابعة والنهضة حتى رأينا قطعان الاخوان يتجمهرون هنا وهناك ليعيثوا فساداً ويحرقوا مؤسسات الدولة والكنائس ويروعوا الأقباط ويحرقوا منازلهم ويقتلوا أفراد الأمن والمدنيين، وأخيراً شاهدناهم في مسجد الفتح في ميدان رمسيس في محاولة يائسة ولكنها ضمن منهجية عض الأصابع لإنهاك زعماء الثورة ليستجيبوا الى أي مقدار من المطالبات بعودة الاخوان، ولكن القيادة المصرية بعد صبر وانتظار على هذه الفئة قامت بما هو مطلوب وبشكل تدريجي تصاعدي وكأني أرى حكمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب متجسدة في سلوك القيادة المصرية حيث قال (عليه السلام) : ((إذا غضب الكريم فألن له الكلام، وإذا غضب اللئيم فخذ له العصا)) شرح نهج البلاغة ج 4، وها نحن نرى ثمار صبر المصريين فقد لاح في الأفق تراجع الولايات المتحدة عن الدعم المطلق للأخوان من خلال ما شهدناه من موقف ملك الحجاز عبد الله بن عبد العزيز، هذا الرجل الذي لم ولن يتحرك إلا بتوجيه أمريكي، ومن الواضح أن أمريكا تركت قطر تلعب دورها الحقير التحريضي السابق، لتفسح المجال للسعودية لتعلب دوراً مغايراً، ويجب أن لا نستغرب فلطالما عرفنا الولايات المتحدة وهي تدعم كل الأطراف المختلفة، وذلك لعدة أهداف منها إبقاء سياسة العصا والتلويح بها للطرف الآخر، ومنها عملية تبادل الأدوار المتناقضة ظاهراً والتي تحقق في كل الأحوال الأهداف الأمريكية كلٌ حسب وقته، ولكن علينا أن لاننسى أن السعودية كانت ولا تزال تشترك مع قطر في عدة لأهداف منها تدمير الجيش السوري، ويجب أن نكون أكثر ذكاء بأن نتابع موقف الجبهة السلفية وحزب النور في مصر، واللذان يعكسان دون ريب سياسة السعودية، إذ لم يشتركا في ثورة 30 / 6، وشاركا عبر أعضائهما باعتصامي رابعة والنهضة، وها نحن نراهما اليوم يشيدان بالجيش المصري ويساندانه في مواجهة الاخوان، وهي سياسة برغماتية انتهازية واضحة المعالم، وحقيقة الموقف تكمن في أن تخوف السعودية والسلفيين في مصر من التصريحات التي ظهرت لحظر الاحزاب القائمة على أساس ديني أو طائفي، عندها ونظراً لموقف السعودية والسلفيين فسيتراجع قادة مصر عن هذا المطلب عرفاناً بالجميل السعودي، وأعتقد أن هذا المطلب سيتأخر أو يلغى، ويمكننا أن نتفهم الوضع في حينه، فليس من الحكمة تكثير جبهات الأعداء، فمصر لا زالت تحتاج الى مواقف ووقفات من قبل العالم العربي والاسلامي لردع الولايات المتحدة بعض الوقت الى حين استقرار الاوضاع ولكل حادث حديث، وهنا لا بد أن نتذكر زيارتي العريفي الداعية الوهابي السعودي الى مصر ففي زيارته الأولى كال المديح والثناء لمصر وللشعب المصري من على منبر جامع الأزهر، وألقى في خطبته أبياتاً لشاعر النيل حافظ إبراهيم من قصيدته (وقف الخلق) ولكنه قام بتقطيع أوصال القصيدة لغاية لم يلتفت إليها كل الإعلام المصري وانطلت الخدعة على جميع الاعلاميين المصريين باستثناء الصحفي الكبير إبراهيم عيسى والذي بدا غير مقتنع بمديح العريفي وأن (وراء الأكمة ما وراءها)، ولم يتأخر الأمر حتى شرفنا العريفي مرة أخرى بعد مؤتمر نصرة التكفير في سوريا الذي تزعمه الخليفة مرسي، وهذه المرة ألقى خطبة في جامع عمرو بن العاص، وحث فيها شباب مصر على التوجه الى سوريا للجهاد في سبيل الله وسبيل أمريكا، ولنا أن نسأل هنا : هل جاء العريفي الى مصر متبرعاً بمحض إرادته أم أنه يتبع أوامر البلاط السعودي؟. لا أعتقد أن هناك أحمقاً يظن أن العريفي جاء من دون توجيه. ولا أستبعد أن يعود العريفي مجدداً الى مصر ولكنه سيأتي هذه المرة وفي جعبته قصيدة أو قصائد ربما لأحمد شوقي هذه المرة ويثني على مصر وثورتها ويكيل اللعنات على المارق مرسي وخلافته، وسيطلب الجهاد مرة أخرى ولكن بعنوان جديد لا يعلمه الآن إلا الله وبندر بن سلطان. كما يقول المثل العراقي ((إذا أردت أرنباً فخذ أرنباً وإذا أردت غزالاً فخذ أرنباً)). ولم تتوقف ثورة مصر عند دحر الاسلامويين المتطرفين، بل نرى ثورة من الوعي، وهاهي تجبر الطاغوت الأكبر أمريكا على التراجع حتى بلغ الأمر الرفض الشعبي والرسمي للسفير الأمريكي الجديد روبرت فورد، فبعد رحيل الافعى آن باترسون جرى الحديث عن ترشيح هذا الرجل، ولكن قام الإعلام المصري بتعرية فورد والتعريف بأعماله الإجرامية فهو كان المساعد للسفير الأمريكي في العراق نغروبونتي وكان مسؤولا عن فرق الموت في العراق التي تعرف بـ(سلفادور العراق)، ثم سفيراً لأمريكا في سوريا وقام بتحريك الأحداث هناك، وخرج بعد أن وضع الأحجار على موضعها الصحيح من رقعة الشطرنج. الخلاصة لن تعود جماعة الاخوان مرة أخرى، ولن تخرج أمريكا والسعودية وقطر وتركيا من مستنقع سوريا بالنتائج التي يرجون، ولن تكون مصر (طعمة) كما اشترط عمرو بن العاص على معاوية عندما طلب منه الأخير أن يقاتل علي بن أبي طالب، وثورة مصر ماضية ولن تتوقف، ولن يعود العالم كما كان بعد الآن، وإن غدا لناظره قريب ((اللهم اجعلها برداً وسلاماً على مصر وأهلها)).