في الطريق من ساحة مظفر إلى حي أور، أسعدني القدر مساء أمس بالاستماع لسائق تكسي شاب وهو يسرد قصصا عن أنماط الرجال الذين يصادفهم أثناء عمله، وتشككه بهم، وخلال ذلك ركز على السكارى والمثليين الذين قد يستأجرونه أحيانا، هؤلاء الذين يحبّون ملذاتهم ويصرًّون عليها رغم المزاج السوداوي الذي نعيشه في العراق.
لقد حدثني الفتى العشريني عنهم بعد أن لمس فيّ فضولا واضحا لمعرفة المزيد، ثم سرد لي بضعة مآزق آخرها جرى له قبل صعودي معه بساعة، حيث اكتراه رجل في الخمسين يرافقه شابان وسيمان "مستخنثان" كما قال. كان "المثلي" ثملا جدا لدرجة أنه لم يتورع عن التحرش بصاحبي الأملح علنا مرددا على مسامعه عبارات يتداولها المثليون حين يراودون فتى عن نفسه، فما كان من الشاب سوى أن ردّه بخشونة وكاد أن يضربه، لكنه "انقهر" عليه كونه بسن والده، ثم قال له - يمعود إلعب غيرها، احنه شباب المدينة طاكه جوه رجلينه!
وقبل أن يكمل قصته استوقفته ليحدثني عن الكناية التي ذكرها؛ طاكه جوه رجلينه، فقال إنه بات يسمعها منذ فترة بين شباب مدينة الصدر كونهم "ما ينغلبون" ويعرفون كل شيء. ابتسمت في سري وأنا أستحضر الكنايات المرادفة لهذا المعنى، ثم رحت أقارن بينها. لقد خطر في ذهني أن الكناية عموما لا تولد إلا لتشير إلى سياقها الاجتماعي والنفسي وأحيانا السياسي والإقتصادي، ومن ذلك مرادفات كناية السائق: طاكه جوه رجلينه. البغداديون مثلا كانوا يقولون في معنى مشابه؛ فار عجه ومجه، أي أنه من الشطارة ووفرة التجارب بحيث وصل لأبعد المدن كمدينة عكا في فلسطين ومكة في الجزيرة العربية. وهذه الكناية، في الحقيقة، قد تشير، في مضمرها، لسياق يصعب فيه التنقل بين المدن المتباعدة، فدون ذلك أهوالٌ ومصاعب جمة، وقد يستغرق الوصول أسابيع محفوفة بالتعب.
سياق "عكا" و"مكة" يختلف تماما عن آخر ولدت فيه كناية ثانية ترادفها حيث كانوا يقولون: بايع فرارات وخبز يابس، في إشارة لسعة تجاربهم العملية وتنقلهم بين العديد من المهن، ولا يخفى أن المزاج النفسي هنا يشي بمشهدٍ إقتصادي تندر فيه الأعمال ويصعب الحصول على الرزق، ولذا يتباهى الشاطر إنه لم يترك حتى بيع "الفرارات" دون أن يجربه. ثم غير بعيد عن المعنى عينه، كان الشاطر البغدادي يقول أيضا: ماكو دربونة ما فارهه أو ماكو زاغور ما اعرفه، وهنا يتضح تماما أن المشهد المعماري والبيئة شديدة الخصوصية لبغداد هما اللذان انتجا الكناية، فمدينتنا القديمة كانت تتألف من مئات الدرابين المتداخلة التي قد تصعب معرفة خرائطها إلا لأبنائها وبعض الشطار أو اللصوص الذين يعرفون أسرار مداخلها ومخارجها، وعنهم ربما صيغت الكناية لتعمّ فيما بعد على كل مدعٍ بالمعرفة الكلية.
الأن، بالعودة لقول شبان هذه الأيام: طاكه جوه رجلينه، فإن مزاج العنف والتفجيرات يكاد يتجسد عن طريق اللغة صاخبا مخيفا، فهؤلاء المساكين تعرضوا لما لم يصادفه جيلٌ من قبلهم، والأمر لا يقتصر على ما قد ينفجر بين أرجلهم بين لحظة وأخرى، بل يتعدى ذلك ليصل حد غياب إمكانية التمييز بين العدو والصديق، بين القاتل الذي قد يترصدهم والشرطي الذي ينقذهم، بين من يريد "علسهم"، من جهة، ومن يروم اصطيادهم، من أخرى. كل شيء تحول بالنسبة لهم إلى قنابل موقوتة بما في ذلك "العبري" الذي لا يعرفون عنه شيئا.
حين حدثني الفتى الإملح عن السكران الذي تحرش به، قلت له - ستر الله عله هذا الرجل، أقلها هو مسالم ومحب للحياة،
يشرب الخمر ويتغزل بالفتيان، هذا كل ما لديه، وهو قد ينكفئ لمجرد أن تقول له - العب غيرها، خل يولن، تره طاكه جوه رجلينه. هذا لا يخيف مطلقا إنما المخيف هم القتلة الذين يتربصون بك وبأمثالك يا صاحبي.
الله يسترك ويسترنا
مقالات اخرى للكاتب