عندما توليت وزارة الإتصالات للمرة الثانية نهاية عام ٢٠١٠ أصدرت تعليمات جديدة بأيقاف التعاملات مع كافة الشركات الخاصة ما لم تقدم تعهداً مصدقاً لدى كاتب العدل تتعهد فيه أنه في حالة إكتشاف دفعهم لأي رشوة لأي موظف في وزارة الإتصالات من درجة وزير فما دون فحينها يعتبر العقد بينهم وبين الوزارة ملغياً، وتغرم الشركة غرامة بمقدار ٣٠٪ من قيمة العقد وتوضع على اللائحة السوداء فلا يسمح لها بعقد أي إتفاق مع الوزارة لفترة ثلاث سنوات.
على أثر ذلك جائني أحد القانونيين في الوزارة وجلب معه حزمة من القوانين العراقية في معاقبة الجهة الدافعة للرشوة والجهة المرتشية قائلاً : يمكن إعطاء نسخة من هذه القوانين لكافة الشركات عوضاً عن أخذ هذا التعهد، فسألته: متى شرعت هذه القوانين؟، فأجاب: من زمن النظام البائد، فقلت له: إذاً ليس لهذه القوانين أي أثر للقضاء على الفساد المستشري في كافة مؤسسات الدولة ومن ضمنها وزارة الإتصالات منذ ٢٠٠٣ حتى الآن، فقال لي: السبب إنهم لا يعرفون هذه القوانين، فسألته: هل السبب عدم معرفتهم بألقوانين أو عدم إتخاذ إجراء بحق المفسدين ؟ فأجابني مستدركاً : بل عدم إتخاذ إجراء بحق المفسدين، فقلت له : إن تطبيق التعليمات التي أصدرتها أنا أقوى بكثير من تأثير حزمة القوانين التي جلبتها أنت، فإستفهم متسائلاً: هل يمكن أن تخبرني بأثر هذه التعليمات؟ فقلت له: عندما يوقع ممثلوا الشركات العالمية هذا التعهد لدى كاتب العدل فإنهم مضطرين لإخبار إدارة الشركة في البلد الأم بذلك، أما إدارة الشركة فسيجيبون ممثليهم في العراق (إياكم وإياكم أن تدفعوا أي رشوة فذلك يعني تعرضنا لخسائر فادحة ويعني أيقاف عملنا في العراق) ثم أردفت: إذهب ونفذ التعليمات.
بعد فترة من تنفيذ التعليمات وتطبيقها جائني مجموعة من الفرنسيين الذين يمثلون شركة الكاتيل (Alcatel) وهي شركة فرنسية تعتبر من أكبر الشركات العالمية في الإتصالات وقالوا: جئنا لنشكرك على هذه التعليمات الجديدة، فأجبتهم مبتسماً: ولكن هذه التعليمات هي تهديد لكافة الشركات الخاصة العاملة مع الوزارة وانتم من ضمنهم، قالوا : جئنا لنشكرك على هذا التهديد، فسألتهم : ولماذا؟ قالوا : نحن شركة عامة (PLC) ولا يسمح لنا القانون الفرنسي دفع أي رشوة، وإن دفعنا أي رشوة فستفرض علينا غرامات كبيرة جداً، ولكن الصينيين والكوريين يستطيعوا دفع الرشاوي من دون أي محاسبة من قبل دولهم، ولذلك نالوا أكثر العقود مع الوزارة، فسألتهم : وهل قدمتم عرضاً أرخص من الصينيين فتم رفضه من قبل الوزارة، فقالوا: إن الصينيين أذكى من ذلك، حيث هناك مواصفات ومعايير عالمية للجودة يضعها الإتحاد الدولي للإتصالات (ITU) لكافة أجهزة وآلات ووسائل الإتصالات، ونحن نلتزم بهذه المواصفات والمعايير العالمية، أما الكثير من الشركات الصينية فلديهم مواصفات ومعايير أوطأ، وإنهم يدفعوا الرشوة لموظفي الوزارة لجعل مواصفات المناقصات طبقاً لمنتجاتهم، لذلك ترفض عروضنا العالية الجودة لأنها لا تتطابق مع مواصفات المناقصات الواطئة الجودة.
على أثر هذا الحوار أصدرت تعليمات جديدة عممتها على كافة شركات الوزارة في وجوب الإلتزام بألمعايير العالمية طبقاً لمواصفات (ITU) ، وعلى أثر ذلك فازت شركة الكاتيل (Alcatel) بمناقصتين، كما قمت على أثر ذلك بطرح هذه التجربة في مجلس الوزراء عسى أن تطبق في الوزارات الأخرى، ولكني كنت في عالم ورئيس الوزراء وأغلب الوزراء في عالم آخر.
هذه التعليمات عرضت الكثير من المفسدين في الوزارة لخسائر فادحة كانوا يستفادون منها على حساب مصلحة المواطن، لذلك كان من الطبيعي أن يبطن هؤلاء عداءهم لي، وكان لي خلاف سياسي مع المالكي، فإجتمعت مصلحة الفريقين فكان هؤلاء المفسدون يجتمعون سراً مع المالكي للتخطيط بإزاحتي من الوزارة ولكن كانت تصلني أخبار إجتماعاتهم بألتفصيل من أشخاص مخلصين لي ضمن دائرة المالكي.
لقد إستغل هؤلاء نقطة ضعفي الوحيدة وهي عدم تمسكي بالمنصب، فإسوتنا في ذلك، مع الفارق، علي (ع) حين يقول وهو يخصف نعله (وألله لهي أحب إلي من أمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً)، ومع أننا لا يمكن أن نصل لتراب قدم أمير المؤمنين (ع)، ولكني لم أقبل بتولي المنصب إلا لتحقيق إنجازات لمصلحة المواطن وبخلافه فليس همي المنصب وألدخول بصراعات كان من نتائجها وضع العراقيل أمام مشاريع الوزارة وفبركة تهم باطلة بحق أغلب من هو مخلص ونزيه من الكادر ألوزاري الكفوء.
لقد كان يوم العيد الأكبر لهؤلاء المفسدين بعد تركي للوزارة، حيث تم إلغاء كافة التعليمات التي كنت أنا قد أصدرتها بنية الحفاظ على المال العام من السراق والمفسدين، ورجعت الوزارة بعد مغادرتي لها إلى سابق عهدها مستنقعاً للفساد والسرقات، ولكن {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} و {قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}.
مقالات اخرى للكاتب