تمهيد
تعكس مهام الصحافة، مدى ما تقدمها من وظائف تجاه الفرد والمجتمع أو كليهما في ان معا، وتتمثل هذه الوظائف على حد وصف علماء الاتصال (ولبر شرام وميلتون وهارولد لاسويل) في الحفاظ على تماسك المجتمع ودفع خطواته الى الامام وتخليص افراده من افكار ومعتقدات ثبت ضررها ومده بشحنة من الافكار والمعتقدات التي تتلائم مع روح العصر، لذا كان لابد من اضافة وظيفة جديدة الى الوظائف التي تضطلع بها الصحافة: متمثلة بوظيفة الرقابة (Observation) والتي افتقرت اليها حتى منتصف القرن المنصرم، فقد مارست الصحافة وظائفها المتمثلة في نقل الأخبار والمعلومات والتعليم والترفيه والخدمات العامة والتماسك الاجتماعي، الى ان اضيفت اليها وظيفة جديدة، هي المراقبة وهي ايذان بدخول الصحافة عصر الاستقصاء (Investigative journalism) متمثلة بمراقبة نشاطات أفراد المجتمع والساسة ورجال الاعمال وعلماء الفلك وقادة الجيش والاطباء، ما ساهم في ظهور جيل جديد من الصحفيين الاستقصائيين مهمتهم المراقبة من اجل توفير معلومات للجمهور، ما تسبب نشرها في استقالة سياسيين وغلق مستشفيات وافلاس مؤسسات واعتزال علماء ومحاكمة اطباء.
المفهوم
لا تخرج الصحافة الاستقصائية عن مفهوم الصحافة بوجه عام، وتعد وظائفها مكملة لوظائف الصحافة ايضا، الا ان ما يجعلها تختلف عن الصحافة الكلاسيكية هو البحث عن موضوعات تعدها الصحافة الكلاسيكية خط النهاية لتغطيتها الصحفية، فالصحافة الاستقصائية تسعى للاجابة عن (لماذا؟) تتخطى بذلك الاجابة عن من؟ ومتى؟ واين؟ وماذا؟ وكيف؟، لذا يمكن تعريف الصحافة الاستقصائية بانها "مجمل النشاطات المتعلقة بالكشف عن المعلومات المجهولة والتي تخص الاحداث لاعطاء فرصة للجمهور للاطلاع عليها"، كما هي "الانشطة الخاصة بحصول الصحفي على معلومات من شانها الكشف عن جرائم وعمليات فساد واهمال لمعاونة رجال الشرطة في الكشف عنها ونشرها".
نستشف من ذلك ان الصحافة الاستقصائية ما هي الا مرحلة متقدمة من العمل الصحفي وان نتائجها تفضي للكشف عن معلومات مجهولة او تم التستر عليها والتي تساعد رجال الشرطة في تعقب المجرمين وتعطي فرصة لجمهور القراء والمستمعين والمشاهدين من الاطلاع عليها.
البدايات
دخلت الصحافة الاستقصائية الى مجال العمل الصحفي في منتصف القرن المنصرم، مع الموضوعات الصحفية التي نشرت في الصحفة الاوربية والامريكية، ويعزى سبب دخولها ذلك الى تشريع قوانين (حق الحصول على المعلومات) للوصول الى السجلات والمعلومات الحكومية فقد دخل القانون في الولايات المتحدة الامريكية حيز التنفيذ عان 1967، وفي بريطانيا عام 2000، وفي المكسيك عام 1997، وفي تركيا عام 2003. يعد قانون (حق الحصول على المعلومات) بمثابة دليل، يساعد الصحفيين في الاستقصاء عن المعلومات، فبدون هذا القانون تتلكأ الحكومات في تزويد الصحفيين بالمعلومات، مع ان المعلومات التي يحصل عليها الصحفي بموجب هذا القانون لا تعد هدف الاستقصاء، لكنها تساعده في التعمق فيها وربطها مع بعضها وتحليل اهميتها مع الاحداث والوقائع، اي انها تكون بمثابة بنية في ظاهرة الصحافة الاستقصائية.
هنالك العديد من الموضوعات الاسقتصائية المنشورة التي عصفت بالشخصيات والاحداث، فالمعلومات التي نشرها الصحفي الامريكي (بوب وود ور) في جريدة الواشنطن بوست اثر فضيحة (الووتر جيت) دفعت بالرئيس الامريكي نيكسون الى الاستقالة من منصبه عام 1974، كذلك الموضوع الذي نشره الصحفي الفيتنامي (سيمور هيرش) بخصوص مذبحة (ماي لاي) عام 1969 ما ادى الى تقديم جنرالات الجيش للمحاكمة، والموضوعات المنشورة بخصوص تعذيب السجناء العراقيين في سجن ابو غريب ما ادى الى موجة من الادانة الدولية، اضطرت بسببها وزارة الدفاع الامريكية الى اعادة النظر في معاملة السجناء وتغيير القائمين على السجن. والموضوعات التي نشرت حول وجود حالات اغتصاب في دار للاطفال واليتامى في الاردن عام 2012 والتي تسببت في ادانة دولية من قبل منظمات الطفولة وحقوق الانسان، كذلك التحقيق الذي نشره احسان عبد القدوس بشان الاسلحة الفاسدة التي زود بها الجيش المصري قبل حرب فلسطين عام 1948.
هنالك فنان صحفيان هما الاكثر استخداما في نشر الموضوعات الاستقصائية: التحقيق الصحفي والتقرير الصحفي، فبفضل التحقيق الصحفي ساهمت الصحافة في معالجة المشاكل وليس بتسليط الضوء عليها عن طريق نشر معلومات بخصوص المشاكل التي يعاني منها المجتمع، بل يختتم الصحفي تحقيقه بتصريحات احد المسؤولين بالية معالجة المشكلة، اما التقرير الصحفي فقد اكتسب المرونة بفضل الصحافة الاستقصائية فلم يعد يهتم بنشر كم هائل من المعلومات والاحداث المتشابكة، بل يقوم الصحفي بعرض معلومات مهمة بهدف اطلاع الجمهور على الموضوع المنشور.
استقصاء المعلومات
تضطلع الصحافة الحديثة اليوم القيام باربعة وظائف مهمة هي: الوظيفة الاقتصادية، اذ لم تعد الصحافة مشروعا انسانيا واجتماعيا خيريا بفضل التغييرات الحاصلة في التطورات التكنولوجية، بل اصبحت مشروعا اقتصاديا ملازما لعنصر الربح، واصبحت المؤسسات الصحفية الربحية هي الاكثر شهرة وقدرة على ايصال رسائلها الانسانية والحضارية والاجتماعية الى الجمهور، بسبب حاجة الصحافة الى ايرادات مالية من اجل الاستمرار، فالبث والنشر والاستفادة من التطورات التقنية والمساهمة في جعل المؤسسة الاعلامية ورشة للعمل والتعليم في ان واحد يتطلب امكانيات مادية ضخمة لا يوفرها سوى تحويل المشروع الصحفي الى مشروع ربحي.
اما الوظيفة السياسية للصحافة فتتمثل في ان انها تستميل الراي العام اثناء الانتفاضات والثورات والاعتصامات وتعد عاملا في فوز الاحزاب السياسية وفي الكشف عن المعلومات السياسية وتمارس دورا في تحسين أو تعقيد العلاقات بين الانظمة السياسية، وتعمقت في الشؤون السياسية الى الحد الذي قيل (كل ما في السياسة اعلام) وهو اشادة الى الدور الكبير للاعلام في مجال السياسة.
وتتمثل الوظيفة الثالثة في ربط مكونات المجتمع بعضها ببعض، وهو ما يطلق عليها بالوظيفة الاجتماعية، بسبب مساهمة الصحافة في التعريف بعادات الشعوب وبناء الهياكل الاجتماعية وربط مكونات المجتمع وتحليل الانظمة الاجتماعية، اما الوظيفة الرابعة والتي اصبحت بفضلها الصحافة تمارس دورا في استقصاء المعلومات، فهي الوظيفة المعلوماتية، فالمعلومات كونها السلطة الخامسة اضافة الى (السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وسلطة الصحافة) قد اصبحت احدى مخرجات الصحافة، اي ان الصحافة بفضل ارتقاء المعلومات الى مصاف السلطات (كسلطة خامسة) اصبحت تمثل سلطة بذاتها فضلا عن كوَن مخرجاتها سلطة (المعلومات). ان ثنائية السلطة هذه اعطت الصحافة دفعة قوية ومزيدا من المرونة في جعل المؤسسات السياسية والاجتماعية الاخرى تدور في افقها.
الصحفي الاستقصائي
مما لا شك فيه ان صحفي الاستقصاء تتوفر فيه مؤهلات تساعده في الحصول على المعلومات كالمؤهل الاكاديمي واتقانه للغات والمامه بفنون الصحافة الاستقصائية وعدم تسرعه في نشر الموضوع وتمتعه بعلاقات جيدة من الاخرين، فهنالك تحقيقات استقصائية يعمل الصحفي بجد طوال (6) اشهر لتكتمل ثم لتحدث عاصفة عقب نشرها، كما ان الموضوعات الاستقصائية تكسب المؤسسات الاعلامية شهرة واسعة وتزيد من قاعدتها جماهيريتها، فنسخ الصحف التي تنشر الموضوعات الاستقصائية تختفي من الاسواق بسبب اقبال القراء على اقتنائها.
واحدى اهم الصفات التي ينبغي توفرها في الصحفي هي الرؤية الفاحصة للامور والبحث عن الاسباب وتحليل مكونات الاحداث، فانقطاع الماء عن احد الاحياء لمدة شهر يولد احساسا بالغبن لدى قاطني الحي، ويسعى الصحفي لكتابة خبر عن الموضوع او كتابة تقرير لبيان معاناة السكان، اما الصحفي الاستقصائي فلا يتوقف عند ذلك، بل يبدأ عندما انتهى اليه الصحفي الاول كاتب التقرير، فهو ياخذ عينة من المياه التي ترسلها السلطات الى الحي (بالتنكر) ويكتشف ان المياه غير صالحة حتى للاستحمام، ويجد ان هنالك زيادة ملحوظة في مراجعة اهالي الحي للمستشفى نتيجة حالات الاسهال وفقدان الشهية والتهاب المعدة وامراض الجلد. وقد يكتشف ان لذلك علاقة بالتوجه السياسي او الديني او المذهبي لاغلبية ساكني الحي.
كيف نخطط؟
يتطلب التخطيط لكتابة تحقيق استقصائي ان يحلل الصحفي الاحداث ولا ينظر اليها في نطاق المسببات والنتائج، بل ان يضيف اليها عنصر المصالح والاهمال والفساد والتقصد، هذه العناصر الاربع تحيط بالعديد من الاحداث الا ان عدم المام الصحفي بها وملاحظتها يكمن في عدم تخصصه الاكاديمي وعدم درايته الكافية بمجال الحدث والاستعجال في نشر الموضوع، كذلك عدم رغبته في الاساءة الى علاقاته بالمسؤولين فضلا عن الافتقار الى قانون (حق الحصول على المعلومات).
ان النظر الى الاحداث من منظور المصالح، يتطلب ان يسال الصحفي نفسه: لمصلحة من وقع هذا الحدث؟ اهنالك من يستفيد اذا تضرر عدد من الناس؟ او قتلوا؟ او حرموا من الخدمات؟ ان عنصر المصالح تسير احداثا سياسية واقتصادية قد تلحق اضرارا بملايين الناس، فحين تهمل الساسة اخلاقيات السياسة ولا تضعها في الحسبان تتضرر مصالح الشعب ويستفيد اشخاص قليلين من الازمات والحروب والمجاعات.
اما الاهمال فيعد احد اهم اوجه الاحداث التي تتطلب ان يقوم الصحفي بالاستقصاء بشانها، وقد يكون مرادفا للمصالح، فيتعمد المسؤول في الاهمال كي يحافظ على مصالحه، اما اذا لم يرتبط الاهمال بالمصالح فتترتب عليها مسؤولية قانونية تؤول الى عدم الكفاءة والضعف الاداري ما يدل على الفساد الاداري ايضا.
وينعكس الفساد على محتوى الاحداث من منظور التعمد اي التقصد في الحاق الضرر بالشيء من اجل الكسب المادي او المعنوي، كذلك التقصد الذي يعني القيام بالشيء بوعي. ان اغفال الصحفي عن هذه العناصر الاربعة يفوت عليه فرصة كتابة تحقيق استقصائي ممتع للقراء والكشف عن المعلومات التي تتعمد بعض الجهات الى اخفائها.
مقالات اخرى للكاتب