قبل أشهر ضجت إحدى قاعات كوردستان التي ضمت مختلف الناشطين والحكوميين والبرلمانيين من كافة المكونات العراقية الدينية والمذهبية والقومية، بصرخة مدوية أطلقها المطران السرياني داود شرف، وهو من اعرق أبناء الموصل التي ارسي أجداده حضاراتها الأولى، وتعرض أهله وعرقه ودينه لعملية إبادة جماعية، كما حصل للكورد الايزيديين والشبك في سنجار وسهل نينوى، أقدم المستوطنات البشرية التي صنعت الغذاء وأقامت أولى القرى الزراعية قبل سبعين ألف سنة، كما ورد في أبحاث المؤرخ والاثاري الأمريكي سيتون لويد إبان زيارته لسنجار عام 1963م.
هذه الصرخة التي عبرت عن ماسي لم تقع اليوم باحتلال داعش للموصل وسنجار وسهل نينوى واستباحتها لكل شيء، بل لمئات السنين من مخازي التعامل مع المكونات المختلفة قوميا ودينيا ومذهبيا، فقد تعرض الايزيديون إلى ما يزيد على سبعين حملة إبادة استهدفتهم لكونهم مختلفين دينيا، وكذا الحال مع المسيحيين الذين لم يشعروا بالأمان والاطمئنان منذ قيام مملكة العراق وحتى استباحة داعش لهم في مدنهم وقراهم، ناهيك عن المختلفين قوميا أو عرقيا عن الأغلبية، في بلاد لم تحترم قيمة الإنسان لكونه إنسانا إلا حينما يكون عبدا لأولئك الطغاة الذين يعملون ليل نهار من اجل إذابة الجميع في بودقة قوميتهم تارة ودينهم تارة أخرى وأخيرا في مذهبهم، وليس للمقابل خيار إلا الموت أو التهجير.
إنها حقا كما قال المطران داود شرف وكررها (عيب عيب عليكم جميعا) وما بعدها من عيب أو خزي أو عار، أن يتبوأ كراسي التشريع والتنفيذ في احدى اعرق بلدان العالم، أبناء الشوارع من النكرات واللصوص وتجار الحروب، ومجاميع من عصابات وميليشيات الفساد والإفساد ممن رأيناهم في دفوعات وزير الحرب العراقي الذي كشف مستوياتهم المتدنية وكيفية نهبهم وسرقتهم للمال العام دون أي ضمير أو عُرف أخلاقي، مستغلين مواقعهم لامتصاص الأهالي وإذلالهم.
عيب وعار على مواطني هذه الدول التي أسقطت امريكا وحلفاؤها أنظمتهم الدكتاتورية، أن يعودوا ثانية تحت أي مسمى أو تأثير لينتخبوا جوقات من الحرامية والمنحرفين الذين يعرفهم الأهالي ليس في العراق فحسب، بل في طرابلس وبنغازي وصنعاء ودمشق وغيرها من دول المختبر الديمقراطي، من الذين يرفعون شعارات دينية أو مذهبية أو قومية تنفي الآخر وتلغيه ممن دمروا حضارات الشعوب ومنعوا شعوبهم من التطور بفسادهم وعنصريتهم وتشددهم الديني والمذهبي المقيت.
وما زلنا نتذكر بألم بالغ تلك الموجة من التسقيط العرقي أو المذهبي باستخدام أسلوب ( الفكاهات ) أو الطرائف التي كانت تصنع في أجهزة دعاية السلطة وأحزابها الحاكمة ضد الكورد تارة وتارة أخرى ضد الشيعة أو السنة أو المسيحيين أو اليهود أو التركمان، بحيث تستهدف تلك النكات شخصية أبناء هذه المكونات بما ينتقص إنسانيتها ويسلب مواطنتها، ممهدة بذلك لعمليات إبادة كاملة كما حصل للكورد في انفالات صدام حسين وكيمـــيائيات علي حسن المجيد في حرق وإبادة مدن وبلدات بأكملها في كوردستان، وكذا الحال حينما استهدفت خلاصة الشوفينية والتطرف الديني والقومي المسماة داعش الكورد الايزيديين وقتـلت الكثير من رجالهم وشبابهم وسبت آلاف أخرى من بناتهم ونسائهم تحت غطاء ديني مقيت (أكثر من ألف قتيل و2745 يتيم و 6413 مختطف منهم 3543 من الإناث والباقي من الأطفال والشبيبة)، وما حصل للايزيديين حصل للمسيحيين في الموصل وسهل نينوى وسنجار (آلاف الأسر تم نهبهم وسلبهم ولم يسمح لهم بمغادرة الموصل أو سهل نينوى أو سنجار إلا بملابسهم فقط)، حيث تمت فرهدتهم كما فرهدوا اليهود في أربعينيات القرن الماضي.
تاريخ من العارات والمخازي والأكثر عارا أن لا يدرك البعض ويعترف بهذه الحقائق ويحترم خيارات الشعوب وحقها في تقرير مصيرها بعد فشل كل أشكال الحكم والحروب بما فيها الإبادة، عيب كبير أن لا نسمع الصوت الآخر الذي يرفض بعد مئة عام من العيش المشترك الفاشل أن يقرر مصيره بنفسه.
غدا سيتم تحرير الموصل من هيكل داعش العسكري، كما حررت أمريكا العراق من هيكل صدام الإداري والأمني، فهل سيطمئن أولئك الذين بقوا من حملات الإبادة على مستقبلهم ثانية، ومن يضمن لهم عدم ظهور داعش جديد بمسمى آخر ومنهج ربما أكثر توحشا من تنظيم الدولة أو نظام البعث أو نظام الميليشيات!؟
ودعونا نردد ما قاله المطران بعد استباحة داعش للموـــــصل وسنجار وسهل نينوى هل حقا هناك شرف في هذا العالم الذي أصبحنا فيه غرباء؟
مقالات اخرى للكاتب