ما مِنْ أديبٍ في العالم إلا وقد وردت في نتاجهِ مُفردة مطر .
وما مِنْ أرضٍ في العالم إلا ويكحل عيونها المطر .
وما من نفسٍ إنسانيةٍ إلا وتمنتِ المطر .
وكلمةُ مطر تدخل في معانٍ كثيرةٍ . فمطر السماء يختلف عن مطر الدموع ومطرُ الدموع يختلف عن مطر الدمْ . والشتاء محملٌ بالمطر. والقلوب حَرا . إلا في هذه البقعةُ من الارض فالمطر يجعل البيوت تنهار على سكانها . والمطر يــُعيق سير المركبات والناس معاً . وتغتاظ من فضولهِ النفوس وكلما تلبدت السماء بالغيوم تلبدت الارواح خوفاً من المطر .
كنتُ في موسكو قبل عام وشاهدتُ المطر كيف ينزل بغزارةٍ لا تـُصدقْ .. بحيث ليسَ من الممكن ان ترى اي شيىء لمسافة ( ربع متر ) ولكن بمجرد ان يتوقف المطر تبدو المدينة جميلةً رائعة المنظر وقد بانت الالوان على حقيقتها وكأنَها لوحةٌ رُسِمتْ بريشةِ فنانٍ محترف . كل شيىء نظيف الازهار والحشائش والبيوت والشوارع وحتى قلوب الناس .
كنتُ أُتايعْ نشرات الاخبار بشدة ٍ فلم اسمع او اشاهد طيلة بقائي هناك ان بيوتاً انهارت ومات ساكنيها ولم اسمع أو أُشاهدْ ان شوارعاً غـَرقتْ ودخل الماء حتى الى الاكواخ الخشبية في الريف . أو ان التيار الكهربائي انقطع نتيجة هطول الامطار ليومين او اكثر دون توقفْ .
وشاهدتُ الناس هناك يتأملون قطرات المطر من خلال نوافذهم مجتمعين حولَ مدافىء الفرح . ملابسهم نظيفة أيديهم نظيفة وقلوبهم بيضاء . تذكرتُ أهلنا في ستينيات وسبعينات القرن المنصرمْ حينما يتساقط المطر وبغزارةٍ شديدةِ . نتأملهُ من خلال نوافذ بيتنا فرحين مبتهجين وبمجرد ان يتوقف المطر تخرج جدتي رحمها الله لتجمع ( حبات التـُـكي والنبق ) من اشجار حديقتنا في منطقة ( الطويسه في البصره ) زمان كان للبيوت حدائق غـَـناءْ . وكنا نخرج حيث الشوارع نظيفة يكسوها الاسفلت الناعم والعصافير تغزو اشجارنا .. زقزقتها تملئ الدنيا . واذكرُ كانت احذيتنا نظيفة جداً لم يلتصق بها طين الشوارع ولم اتذكر انني سمعة بيتا انهار ولا انقطعت الكهرباء وكل الذين كانوا ساكنين هذه المناطق في البصره يعرفون ذلك جيدا .
أما منطقة المعقل فكانت من انظف المناطق ففيها شارع ( جنادين ) أشبه بغابة من الاشجار وفيه نادي ( البورت كلاب ) حيث يمارس الموظفون فيه لعبة البليارد حتى ساعات متأخرة من الليل . واذكر كان عمي وهو احد موظفي مؤسسة الموانئ يأتي تحت المطر من منطقة الابله على دراجته الهوائية الى بيتنا في الطويسه لم يلتصق بعجلة دراجته اي شيىء من الطين الا انه يكون مبللاً (والمبلل ما يخاف من المطر ) كان مولعاً بالمطر . كنا نرى عمال البلدية يمضون الساعات الطويلة في تنظيف الشوارع وتحت اقسى الظروف مطرا كان ام حرا شديدا . لا كما نشاهد اليوم فعامل البلدية يجلس ساعة لتناول الفطور وساعة لشرب الشاي وساعة للتدخين وساعة لأداء الفريضة وبعدها ينصرف الى البيت . زمانذاك كان عامل البلدية مفعم بالحيوية والنشاط ويعتبر عمله هذا هو شرفه الذي يحافظ عليه . كان حبهُ لبلاده يسع العالم . وقد بكيت والله حينما شاهدت نصباً من الذهب لعامل النظافة قد شخص في وسط الصين تقديرا واحتراما له ولا زلنا نحن نــُسمي عامل النظافة ( زبال ) والغريب ان في تراثنا العربي والاسلامي شواهد كثيرة تحثُ على النظافة ومنها قول محمد العظيم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ( تنظفوا فان الاسلام نظيف ) أقول كما قال المثل العراقي القديم ( لو باقين على بنيان العام احسن )
مقالات اخرى للكاتب