البصرة: حيدر الجزائري
أكتسب الشاب عباس صباح، 29 عاماً، مهنة "تصفير" أواني النحاس مبكراً من والده "أبو عماد" الذي غيبه الموت منذ فترة قصيرة، وارتحل مع أقرانه بذكريات ماضي سوق الصفافير وترانيم الطرق والنقش على النحاس أو الصفر باللهجة العراقية ليرث هذه المهنة متحديا عوامل اندثارها وحيداً، ويحتفظ لنفسه بلقب "آخر صفّار" في مدينة البصرة.
الصفّار الشاب، نفض الغبار عن محل أجداده الواقع في سوق موسى العطية سوق التجار في العشار، وباشر بخبرة أستاذه والده الراحل بأعمال تصليحات وصيانة المصنوعات الصفراء، واجتذب حوله معارف وزبائن والده من داخل وخارج العراق وأعاد الروح لهذا المحل الوحيد من نوعه، منشغلاً بمهنة لولا شغفه ووصية والده لآلت للفناء والنسيان كما هو حال غيرها من المهن التراثية.
ويقول عباس صباح، في حديث لراديو المربد، "بعدما توفى والدي 67 عاماً منذ فترة قصيرة بسبب المرض، أصبحت أنا والعائلة على منعطف جديد، فإما إن أتجه إلى مهنة أخرى أكثر سهولة تدر أرباحاً كما فعل الصفّارون الآخرون، أو أستمر على مهنة احترفنا بها أبا عن جد، غير إني قررت المضي على وصية والدي وما علمني إياه خلال ثمان سنوات من العمل المتواصل".
وعلى الرغم من أن عباس من حملة الشهادات، غير انه متمسك بالمهنة المتوارثة اعتزازاً بها كما يقول، إلا إن عمله بات يقتصر على صيانة المصنوعات النحاسية فحسب، كدلال القهوة المصنوعة محلياً أو التي تأتيه من بعض الدول، إذ لاتوجد في البصرة ورشة خاصة إطلاقا كما هو عهد سوق الصفّارين فيما مضى.
وتأثرت مهنة الصفّارين بشكل كبير لأسباب عدة، منها تراجع السياحة والسواح، حيث اقتناء المشغولات النحاسية المنقوشة بعناية وخبرة فريدة منذ أكثر من ثلاثة عقود، كما إن انفتاح السوق واستيراد المنتجات وبالأخص من الصين وكوريا والهند وتركيا ساهم بذلك الاندثار، فضلاً عن غياب الدعم الحكومي لأصحاب هذه المهن الفريدة.
وعن ذلك يقول عباس بصوت لايخلو من الحزن، "لايوجد اهتمام ودعم من أي جهة للمهن والحرف اليدوية والصناعات التقليدية، وسط غياب الحماية من منافسة السلع المستوردة الرخيصة وأخرى زجاجية غزت البيوت، إلى جانب شحة مادة النحاس في الأسواق، جميعها عوامل دفعت إلى الهجرة من هذه المهنة".
ويلفت بالقول، ان "والدي طالما كان يحلم بان يفتتح قسما في إعدادية الصناعة لتعليم هذه المهنة برعاية حكومية، وتستثمر وجود محترفيها الكبار في بغداد والمحافظات رغم اعتزالهم المهنة، غير أنهم قادرون على تعليم صناعتها، لكن حلمه لم يتحقق ومستقبل المهنة مرهون بيد الدولة".
ومهما كانت تحولات هذه المهنة، فهناك بارقة أمل تشجع عباس كل صباح على العمل بمحل جده الذي بناه في عام 1922، فما زال الطلب موجود رغم ما تبقى.
وعن ذلك حيث يقول "هناك طلب متواصل من الزبائن على ما أعرضه، وبالأخص مختلف أنواع دلال القهوة المحببة من قبل العشائر، سيما من المحافظات الجنوبية، أما النساء فيرغبن بالمبخرات ومرش الماء والهاون، فضلاً عن رغبة كبيرة من زبائن في الخليج على دلة القهوة البغدادية المختومة باسم المرحوم مهدي صالح، وتحفيات مختلفة والسيوف والخناجر للزينة التي تضم نقوشا لحضارات وآثار عراقية، وكذلك بضائع متفرقة كالسيوف والدروع وغيرها".
ويبدو ان هذه العائلة متمسكة بمهنتها، فعباس الصفّار الشاب بدأ بتعليم شقيقه الأصغر وينقل له خبرة والده التي جاءته من أجداده بشكل متوارث، لتحتفظ بأسمها ومكانتها بين صفاري العراق، ويختمون على المصنوعات النحاسية بختم جدهم وبالأخص الدلال لتميزها كمصنوعات أصلية عن غيرها.
حل وقت الغروب على عباس، وأغلق محله جده القديم بعد أن انفض الزبائن من حوله، واخذ يمشي بخطوات واثقة نحو دارة ليستريح من عناء العمل، ويبدأ مشاوره في يوم آخر معيداً شيئاً من الحياة لسوق الصفّارين في البصرة الذي التزم الصمت منذ عقود مضت وغابت عنه ضربات يد الفن والحرفة وأدواتهم النحاسية التي بهت لونها، كما بهت سوق الصفّارين بالعراق بشكل عام رغم تاريخه وعراقته وامتداده إلى ما قبل العهد العباسي وأوج نشاطه الذي بدأ من بغداد وبعدها مدن أخرى في العراق.