فيما كان العراق يسعى لعرض كنز النمرود الأثري في متحف اللوفر الفرنسي، وبحماية دولية تتضمن نقل موجوداته بصناديق غير قابلة للحرق ولا للتهشم، برزت إلى السطح فجأة دعوى قضائية أقامتها شركة «أكس اوبشن يونايتد كروب»، الدنماركية طالبت فيها العراق بدفع (100) مليون دولار، لأنه أخل بعقد سابق وقعته معه للقيام بهذه المهمة. وفي منتصف العام الماضي، وبحسب بيان لوزارة الثقافة، أعلن العراق كسبه هذه الدعوى المقامة في المحكمة الدولية بباريس، وأشاد البيان بجهود المسؤولين، وبالمتابعة المتواصلة والدقيقة على مدى سنوات من قبل المكلفين بمتابعة الدعوى، والمتخصصين من موظفي القسم القانوني في المكتب، بدوره ثمن المفتش العام في الوزارة جهود السفارة العراقية في باريس ومسؤولة الملف الثقافي في السفارة العراقية بباريس مها الحيدري.
قصة العقد الدانماركي
وعن حيثيات هذا الاتفاق يقول فراس تركي المفتش العام لوزارة الثقافة وكالة: «سبق وان تعاقدت وزارة الثقافة في 20/7/2004 مع الشركة الدانماركية القابضة (UEG) على إقامة معرض متنقل لكنز النمرود الأثري في (12) متحفا في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وكان مبلغ الاتفاقية (6) ملايين دولار وبسبب الظروف الأمنية والعمليات الإرهابية التي أحاطت بالعراق في ذلك الوقت لم يتم تنفيذ هذه الاتفاقية، فضلاً عن أن الشركة أشهرت إفلاسها وظهرت لاحقاً بأنها غير رصينة وغير مؤهلة ولا تمتلك القدرة على حماية كنز ذهبي مهم يمثل إرثاً حضارياً للعراق، فضلا عن عدم وجود رعاية من منظمة اليونسكو لهذه الاتفاقية». وبحسب استقصاء قامت به «الصباح» فإن هناك من انتقد هذا العقد، ومن بينهم الأستاذ زاهي حواس مدير المتحف الوطني المصري الذي أكد في رسالة للمعنيين أن هذه الشركة تفتقر الى الثقة، ولكن ذلك جاء بعد توقيع الاتفاق بشرطه الجزائي، ثم جاء رد من اليونسكو يؤكد أنها لا ترعى مثل هذه الاتفاقات. ويعود المفتش العام لوزارة الثقافة وكالة ليقول موضحا:
«وفي العام 2011 بدأت الشركة المذكورة بعدة مراجعات لغرض البدء بتنفيذ الاتفاقية او التعويض عن عدم تنفيذها وعلى إثر ذلك تمت مفاتحة الأمانة العامة لمجلس الوزراء لغرض إلغاء الاتفاقية وحصلت موافقة السيد رئيس الوزراء على إلغائها وإبلاغ الشركة بذلك، كون الكنز معلما آثاريا ولا يصح أن يكون محلا للتعاقد والاتجار فيه، كونه من الرموز المادية والمعنوية الثمينة للحضارة العراقية القديمة، وبعد ذلك أقامت الشركة المذكورة الدعوى ضد الوزارة أمام محكمة التحكيم الدولية في باريس للمطالبة بالتعويض وقد كان لمكتب المفتش العام جهود حثيثة وعمل مضن في كسب الدعوى المقامة على الوزارة أمام المحكمة المذكورة من قبل الشركة الدانماركية ومطالبة الجانب العراقي بتعويض يصل الى مئة مليون دولار أميركي وذلك من خلال متابعة هذه الدعوى وتزويد المحامي بالوثائق والمستمسكات وعلى مدى سنين عديدة لتعزيز دفاعاته القانونية التي تكللت بالنجاح في كسب الدعوى وصدور القرار النهائي من محكمة التحكيم الدولية في 10/7/2015 لصالح الجانب العراقي».
حماية الكنز
وفي مطلع حزيران من العام 2003، كتب ديفيد لوهناو مراسل صحيفة «وول ستريت جورنال» تقريرا عن كنز النمرود المذهل حسب وصفه، ووصف المراسل كيف ان العقيد ماثيو بوغدانوس ساعد في تجميع فريق من ثلاثة ضباط عسكريين وسبعة عناصر من إدارة مكتب الأمن الوطني للهجرة والجمارك، وكيف ساعدت هذه المجموعة على استعادة آلاف القطع المسروقة من المتحف.
وبحسب المراسل فإن فرقة المشاة الثالثة في الجيش الأميركي أرسلت على وجه السرعة دبابة لحراسة مخبأ الكنز بعد ان قال مسؤولو البنك إن اللصوص كانوا يحاولون الوصول إلى داخل الأقبية. وكان العديد من اللصوص قد قتلوا بعضهم بعضا في أحد المباني، فيما كان غيرهم يطلقون النار على أبواب المدفن، فقتل نتيجة ذلك رجل واحد في القبو. وعلى الرغم من أن الكنز كان يبدو آمنا، إلا أن هناك عقبة رئيسة باتت تلوح في الأفق، وهي انغمار الطابق الأرضي من مبنى البنك المركزي العراقي بالماء، فضلا عن الظلام الذي كان يحيط بالمكان. وقد غمرت الطابق السفلي من مبنى البنك المركزي الرئيسي. قبل أسبوعين، يحدق الرجال على حد سواء في الماء إلى أسفل الدرج المظلم. طلب جيسون ويليامز، عالم الأنثروبولوجيا والمخرج البريطاني، الذي كان قد حاول عبثا تصوير كنز نمرود، الحصول على إذن لشراء مضخات لبدء سحب الماء من الطابق السفلي، فأعطاه العقيد بوغدانوس الضوء الأخضر، وعلى الرغم من وجود مضختين عملاقتين كانتا قريبتين من المكان، إلا انهما لم تصلحا للعمل، فاضطر ويليامز إلى شراء مضختين صغيرتين، لكن المياه كانت تزداد أكثر، وأخيرا استجاب فريق العمل إلى مقترح عامل عراقي مفاده ضرورة البحث عن صنبور المياه المكسور لإصلاحه ومن ثم سحب المياه، ونجحت الفكرة، فتم سحب نحو 64 ألف غالون من المياه في غضون اسبوع كامل، وتم استخراج أغلب الصناديق المخبأة فيها قطع الكنز.
المزيد من التعقيدات
وفي خزانة «الصباح» الاستقصائية، مؤشرات تؤكد على أنه، بات من المستحيل إخراج الكنز وعرضه خارج العراق نتيجة الحجز عليه، ولم يبق أمام الجهات المسؤولة غير طرح المشكلة بمساعدة محام مختص أمام لجنة تحكيم دولية، على أن تمارس مهمتها في فرنسا باعتبارها بلدا محايدا، وتم اتخاذ الاجراءات الخاصة بذلك، ومثل العراق ثلاثة دبلوماسيين من السفارة العراقية بباريس فضلا عن المحامي، وكان المطلوب اختيار حكم من قبل الجانب العراقي، ولكن لضيق الوقت لم يتم فعل ذلك، وبذلك تشكلت اللجنة من حكمين حددتهما المحكمة وحكم اختاره الجانب الدانماركي، ومنذ البداية ظهر ان العراق سيخسر، ليس بسبب الطريقة التي شكلت بها لجنة التحكيم فقط، وإنما لأن الفريق بالأساس ليست لديه معلومات كافية عن القضية، وهكذا ترك للمحامي ما بوسعه لتأجيل البت في القضية، وهذا ما حصل فعلا، إذ تم تأجيل النظر في الموضوع 9 أشهر، وكان ذلك بمثابة طوق الإنقاذ، وأعلن المحامي انه لم تكن لديه معلومات عن القضية، أو أوراق ثبوتية ليطرحها على القاضي الفرنسي.
العودة إلى بغداد
وتقول مها الحيدر مسؤولة الملف الثقافي في سفارة العراق بباريس: «حضرت الى بغداد وتوجهت الى وزارة الثقافة فورا، والتقيت بوكيلها طاهر ناصر الحمود وناقشنا العديد من المقترحات لرفع الحجز عن كنز النمرود، وضرورة الحصول على كل الأوراق الرسمية الخاصة بهذه القضية، ولأن تلك الأوراق والوثائق كانت كثيرة جدا ولا يمكن الاطلاع عليها في وقت قصير، فقد تم الاتفاق على إرسالها لي إلى باريس عبر خدمة الـ(DHL)، وبدأت عملية الإرسال فكانت تصلني كل اسبوع، أو اسبوعين، كميات كبيرة منها، وكانت عملية الاطلاع عليها وتقدير ما ينفع منها شاقة وعسيرة جدا، وكنت أقضي ساعات طويلة في قراءة تلك الأوراق وتصنيفها، وكنت أستشير المحامي دائما بعد ان أنقل له المعلومات من العربية إلى الفرنسية، لكي أعرف منه ما هو الصالح لدعم موقفنا، ثم تقرر ان يعمل على هذا الموضوع ايضا وكيل وزارة الثقافة طاهر ناصر الحمود والمفتش العام للوزارة وكالة فراس تركي».
وتضيف الحيدر : «كنت مسؤولة الملف الثقافي في السفارة العراقية بباريس، وفضلا عن عملي في هذا الملف، كان هناك ملف أموال العراق المجمدة، وهو ملف لا يقل أهمية عن ملف كنز النمرود، والحقيقة انني كنت أتمنى أن يكون لي وجود في عملية تحرير الكنز من براثن الشركة الدانماركية لأن له علاقة بالحضارة العراقية وقد تحقق لي ذلك والحمد لله تعالى».
أسرار كنز النمرود
بدأت الجلسات في تشرين الثاني من العام 2013، وكسب العراق الدعوى وحرر كنز النمرود، وتخلص من دفع تعويضات مالية طائلة للشركة الدانماركية، كانت معركة قضائية للدفاع عن حضارة العراق في هذا الملف من بدايته وحتى نهايته، ومن خلال معلومات وردت الى «الصباح» بأن مكتب الترجمة الذي ساعد في حل هذه القضية في عملنا لم يتسلم مستحقاته حتى يومنا هذا.
يقدر عدد قطع كنز النمرود بحدود الـ650 قطعة ذهبية بديعة الصنع والصياغة يعود عمرها إلى أكثر من 3 آلاف عام، واكتشفه عالم آثار عراقي في العام 1989، لكن العراق أخفى سر هذا الاكتشاف على أمل الإعداد لعرضه بشكل يدهش العالم، وجاء غزو العراق للكويت وما أعقبه من أحداث ليؤجل الإعداد لذلك العرض، وليبقى أمر وجوده سرا، واكتشافه يعادل في الأهمية اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في مصر. وقد تم التحفظ على محتويات الكنز في الموصل أول الأمر، ثم نقلت إلى العاصمة بغداد لتستقر في أحد سراديب البنك المركزي العراقي، واستعان «صدام» بشركة كندية لتصميم خزانة «قاصة» محكمة للحفاط على موجودات الكنز، ووضعت للخزنة ثلاثة مفاتيح لا يفتح إلا بوجودها مجتمعة، وإذا ما استعمل مفتاح واحد فقط فإن السرداب كله يغرق بالماء، كنوع من الحماية، ويقال ان الأول كان لدى صدام حسين والثاني لدى وزير المالية والثالث لدى محافظ البنك المركزي العراقي، ومع دخول الأميركان للعراق غمر السرداب بالماء، وربما كان هذا نتيجة التلاعب بالأقفال، واتهم الأميركان بسرقة الكنز، ومن أجل إنقاذ الكنز وتبرئة أنفسهم استعان الأميركان بالشركة الكندية لإخراج الكنز، ثم عرضوه لساعات في المتحف الوطني، وأصبح وجوده حقيقة بعد ان كان سرا تحيطه التكهنات والشائعات.
الكنز يذهل العالم
كان من بين المشاركين في إنقاذ كنز النمرود من براثن المياه جيسون وليامز، وهو مخرج أفلام يعمل لدى مؤسسة (ناشنال جيوغرافيك)، وكانت المؤسسة قد حصلت على موافقة من القوات الأميركية تتضمن الدخول إلى العراق لإعداد أفلام وثائقية عما حل بالآثار من خراب وتدمير، لا سيما المتحف الوطني العراقي الذي ناله الكثير من التخريب وتعرض للعديد من هجمات اللصوص.ووصل فريق (ناشنال جيوغرافيك) بقيادة وليامز وبدأ بالعمل، ويقول وليامز ان صناديق الكنز كانت مقفلة ولم تتعرض لأي اعتداء، لكن بعضها أصيب برضوض وتشققات ونالت الرطوبة من بعضها، ويضيف وليامز ان عملية سحب المياه التي بلغت نصف مليون غالون تم في غضون ثلاثة أسابيع، على عكس الرأي السابق الذي يقول انها تمت في اسبوع واحد فقط.
وأعد فريق (ناشنال جيوغرافيك) فيلما وثائقيا من إخراج وليامز تروي فيه الإعلامية ليزا لينغ قصة رحلة الفريق إلى العراق، وحظيت المقاطع التي تصور موجودات الكنز لأول مرة بانتباه العالم واثارت دهشته وذهوله من الشرق إلى الغرب، ولا يزال الفيلم موجودا على موقع الـ»يوتيوب».
مقالات اخرى للكاتب