مجنون - من كل سياسيي العراق - من يتقمص شخصية صدام حسين. ليس بسبب ما تسبب من دمار، ولا بسبب الحالة المزرية التي قبض عليه فيها فحسب، بل لأنهم أضعف منه كثيرا، وجاءوا في مرحلة لم يعد فيها الشعب قابلا للسكوت عنهم، ولأن فرسانا من السياسيين يراقبون أوضاعهم ويتصدون لهم علنا.
قبل بضعة أيام شاهدت مقطعين، أحدهما لرئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني أثناء لقائه شيوخ عشائر عربية - على الحكومة المركزية رعايتهم - يقول فيه إن «كل الذين قاتلوا مع داعش سيكون مصيرهم مصير التنظيم»، وهو كلام لا يحتاج إلى مناقشة. ولكن، وهنا الـ«لكن» كبيرة، هل ينطبق هذا توصيفا قانونيا وشرعيا وعرفيا على من غطى وروّج لهم من «إقليم كردستان»؟ ومن أمّن لهم الإقامة والأمان وحرية الاتصال بوسائل الإعلام، ولا يزالون هناك يسبون ويشتمون ويحرضون على العنف ويثيرون الطائفية والعنصرية؟ وهل من واجب الحكومة المركزية تحريك دعاوى جرمية لا تستثني أحدا من المعنيين من مسؤولي الإقليم؟ أم أن استغلال الظروف الشاذة متاح لطرف دون حساب؟
وقبل أن أسترسل بهذا المقال الموجز، فإن المقطع المثير المحبط الثاني فكان لنائب رئيس جمهورية العراق وهو يلقي خطابا ثوريا على عدد يصعب وصفهم بالمئات من متطوعي معسكر تحرير نينوى، وعددهم لا يكفي لتشكيل جزء بسيط من أفراد حمايته! فهل تتحرر الموصل هكذا؟ أم المطلوب الاستعانة بالباب العالي وحكم السلاطين الذين رهن بعض مسؤولي إقليم كردستان المستقبل بوجودهم؟ يا له من تحالف! ولا أريد أن أستعير عبارة من عبارات الرئيس الأميركي بوش الثاني لتوصيفه.
أما قصة «حدود الدم» المصطلح الذي استخدمه بارزاني للأراضي التي حررت من قبل قوات البيشمركة بعد احتلالها من «داعش» من مناطق هيمنة الإقليم السابقة، فتدعو إلى الاستغراب من عدم كفاية عقود من الصراعات المتعددة بين أبناء الإقليم ومع المركز لاستخلاص العبر والدروس، وضرورة تبني خطاب سلمي بعيد عن لغة الوعيد والتحريض، خصوصا أنها لغة لا تستند إلى معطيات مادية ولا إلى عناصر قوة، فالبيت الكردي ذاته يعاني تجاذبات وخلافات كبيرة، ويخطئ من يظن أن رئاسة الإقليم قادرة على فرض إرادتها - رغم تأثير المال والسلطة على أطراف ضعيفة - على القوى الفاعلة في الاتحاد الوطني الكردستاني وكتلة التغيير.
نموذج البعث وصدام لن يتكرر أبدا في أي جزء من خريطة العراق الحالية والباقية، والحراك الشعبي في الجنوب والوسط والشمال «وفي الإقليم» يعطي دليلا واضحا رغم الصعوبات المؤقتة. وإذا كان وصف حدود الدم قد عبر عنه كجزء من استراتيجية فماذا سيقال عن التطور الكبير وغير المتوقع لقوات الحشد الشعبي، التي لا أظن أنها ستتوقف أمام حدود ورغبات؟
معظم السياسيين الحاليين خائفون إلى حد الرعب مما ستؤول إليه أوضاعهم في مرحلة ما بعد «داعش»، ومنهم من سرق أموال الشعب بأرقام فلكية، ومنهم من تسبب في تأجيج مشاعر طائفية وعنصرية ومناطقية، وتسببوا في نزوح ملايين الناس تاركين بيوتهم، ومنهم أصحاب الأقلمة والشوفينيين. ومع أن هؤلاء ليسوا عقلاء، فإن كل عاقل ومطلع يمكن أن يؤكد لهم مخاوفهم، فالذين قدموا التضحيات من أبناء الشعب والقوات المشتركة لن تبقى لهم القدرة على رؤيتهم دون حساب، واستمرارهم على خلفية «المؤامرات السياسية» سيصبح هراء على المدى القريب، وفقا لأحكام القوانين.
نعم مرحلة ما بعد «داعش» ليست كسابقاتها من المراحل، فلكل مرحلة معطياتها، ومن يظن أنه قادر على فرض أجندته على شعب ظلم كثيرا فإنه بحاجة إلى ظهور من يكشف للناس حقائق من التاريخ، وهي كثيرة وموجودة. وسيأتي يوم قريب يفرض فيه الشعب إرادته بالحق، وسينال الفاشلون ومثيرو الشغب ومتسببو الكوارث ومروجو شعارات التخلف بكل أشكالها العنصرية والطائفية جزاءهم العادل، وسيتوارون عن الأنظار، وسيحكم العراق وفق معادلات أخرى. هل سمعتم أن منتصرا ترك ثمار النصر لغيره. ونتمنى، وسننصح أن يبقى الإنصاف قرين الحزم، وإن 12 عاما كانت كافية لإعادة البدء باستقرار العراق والبدء بإعماره، ومن حق أمهات الضحايا رؤية يوم الحساب بالحق والعدل والإنصاف والحزم، ومن حق العراق وكرامته التاريخية أن يغيب عنه اللغو الطائفي والعنصري والمناطقي المتخلف نهائيا.
مقالات اخرى للكاتب