كانت زهرة فتية يانعة نبتت في البصرة تحت مظلة القبة الزرقاء في معقل الموانئ العراقية فشهدت على جماليتها الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA), ومنحها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) أعلى المراتب, وأشادت بتفوقها المؤسسات البحرية العالمية
كاظم فنجان الحمامي
شجرة مينائية طيبة وارفة الظلال غرستها وزارة النقل عام 2007 في الحديقة الأمامية للموانئ العراقية, وسقتها من ينابيع مياه شط العرب, ووفرت لها العناية والرعاية, فأينعت وأزهرت وأثمرت بالخير والعطاء, وأصبحت من الأشجار الجميلة الباسقة في غضون بضعة أعوام. .
كانت هذه الشجرة عبارة عن كتيبة صغيرة ضمن تشكيلة الهيكل الإداري للموانئ العراقية, أنيطت بها مسؤولية إدارة مشروع هيئة القرض الياباني, ووضع صولجان القيادة بيد الكابتن حسين محمد عبد الله, الذي وقف في طليعة الكتيبة المكلفة بهذه المهمة الصعبة. .
تخرج قائد الكتيبة عام 1969 في جامعة ساوثهامتون البريطانية, وأكمل دراسته العليا في الأكاديمية البحرية, ثم خاض غمار البحار العميقة على السفن البريطانية التابعة لشركة (BI), وعمل ردحاً من الزمن على السفن التجارية العراقية المترددة على الموانئ العالمية, ثم تبوأ سلسلة من المناصب بدئها مديراً للشؤون البحرية, فمديرا لقسم الحفر البحري, فمديراً لقسم الإنقاذ, فمديرا عاما للموانئ العراقية, وعرفه الناس بأخلاقه الرفيعة وتوجهاته العلمية ونظرته المستقبلية الثاقبة. .
بيد أن المثير للعجب إن هذه الكتيبة, وعلى الرغم من حداثة تأسيسها, وقصر مدتها, وعلى الرغم من انخفاض تعداد عناصرها, الذين لا يزيد تعدادهم على عشرين موظفاً, استطاعت أن تسجل قفزات نوعية هائلة في الاتجاه الصحيح بشهادة الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا JICA), وشهادة مكتب رئيس الوزراء بتاريخ 26/2/2012, وشهادة هيئة المستشارين بتاريخ 19/3/2013, وبتقييم عال من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP), فحصلت منه على المركز الأول للسنة الثانية على التوالي (2011-2012).
وفي ضوء هذا التقييم وهذا التفوق الرائع قررت الوكالة اليابانية للتعاون الدولي ترشيح الموانئ العراقية لاكتساب الاستحقاق الأفضل في الحصول على قرض ياباني جديد لإعادة إعمار ميناء خور الزبير, ولم يأت هذا الترشيح من فراغ, ولا من باب المجاملة, فالمؤسسات اليابانية لا تعرف التملق ولا التزلف ولا المحاباة, وهكذا جاء ترشيحها للموانئ العراقية بناءً على الأسس العلمية الثابتة والأساليب المنهجية الرصينة, فأكملت الوكالة اليابانية دراسة الجدوى المخصصة لمشروع إعادة تأهيل خور الزبير, ورفعتها إلى الحكومة اليابانية للحصول على موافقتها الرسمية ومصادقتها المالية. .
خارطة الطريق في طريقها إلينا
ومن الانجازات الرائعة لهذه الكتيبة العراقية الفاعلة إنها حصلت على منحة مجانية من اليابان لتغطية تكاليف الخطة المينائية الشاملة لغاية عام 2035, وهي خطة تتضمن سبل الارتقاء بالموانئ العراقية نحو الأفضل, وذلك على وفق الأسس العلمية التي ستتبناها المراكز الاستشارية الدولية لصالح العراق, والتي يفترض أن تصادق عليها الجهات المعنية في العراق لتكون هي المنهج الثابت الذي يرسم للموانئ العراقية خارطة الطريق نحو آفاق التطوير والتجديد والتحديث. .
لقد صارت هذه الشجرة اليوم من الأشجار الطيبة, وأصبحت من أروع الأشجار التي استظلت الموانئ بظلها, لكنها لم تغير عناصر كتيبتها, ولم تستبدلهم, فنشأت وترعرعت تحت ضوء الشمس, فاستمدت نقاوتها من الأجواء الشفافة المتميزة بالوضوح والصدق, وهذا هو أحد أسرار نجاحها في مواجهة التحديات المرهقة, فنالت إعجاب المؤسسات الرقابية والمالية والإنتاجية والهندسية. .
أما السر الخفي في جمالية هذه الشجرة وشموخها فهو تفوق رجال كتيبتها وتفردهم بتغذية النسغ العلمي المتصاعد بالأفكار والتوجهات الذكية, وإصرارهم على التعامل الحازم في فرز الشركات التي يقع عليها الاختيار لتنفيذ المشاريع, أو التي يقع عليها الخيار لتجهيز المواد والأدوات والمعدات والسفن والزوارق, ناهيك عن تميز رجال هذه الكتيبة في تطبيق السياقات اليابانية الجادة في التعامل الصارم مع الشركات الهندسية الفائزة بالتجهيز أو التنفيذ. .
كان مشروع إعادة تأهيل قطاع الموانئ من بواكير أعمال هيئة الإشراف على القرض الياباني, والتي وصفناها بالشجرة الوارفة الظلال, فشرعت بمشروع تأهيل الموانئ في الخامس والعشرين من الشهر الأول من عام 2008. .
تهذيب الأعماق الملاحية والمينائية
نظرا لأهمية زيادة غواطس السفن التجارية الأجنبية المتوجهة إلى الموانئ العراقي, ولأهمية زيادة حمولاتها المنقولة بحراً, باشرت كتيبة القرض الياباني أولاً بالتعاقد مع شركة حفر مرموقة تعد من أفضل أربع شركات عالمية هي (جان دي نل JAN DE NUL) البلجيكية, فتعاقدت معها لحفر وتعميق نهر أم قصر رقم (1) بعمق (12,5) متر, وبعرض (200) متر, وتوسيع حوض استدارة السفن بعرض (300) متر, واستخراج كميات كبيرة من الأطيان المترسبة في القاع تزيد على خمسة ملايين متر مكعب, فحُدد اليوم الثالث من الشهر الثالث من عام 2010 هو اليوم الأول للمباشر بالحفر, فاستعانت بسفن جديد من الحفارات البحرية من نوع (المحراث PLOW) من مثل الحفارة القاعية المتخصصة بتعديل وتسوية قاع البحر, وحفارة أخرى من النوع (الماصة الخازنة) بحمولة (11000) طن من الأطيان المستخرجة من القاع, وأنجزت عمليات تهذيب الأعماق وتعميقها بالكامل في اليوم الثالث من الشهر الثالث من عام 2011, من دون تلكؤ ومن دون تعطيل, ومن دون أن يلجأ المقاول إلى الأساليب الرخيصة كالغش والاحتيال والمراوغة والمماطلة, فاستحقت الشركة المنفذة شهادة الانجاز بدرجة (100%) قبل الموعد المقرر وذلك بتاريخ 24/2/2012. .
وتعاقدت الكتيبة العراقية مع شركة تويوتا اليابانية ومقاولها الثانوي شركة (IHC) الهولندية, على تصميم وبناء سفينة متخصصة بالحفر البحري من الأنواع الماصة الخازنة, بطاقة (3500) متر مكعب وهي السفينة (كربلاء), وسفينة أخرى للحفر في واجهات الأرصفة من الأنواع الخاطفة, بطاقة (500) متر مكعب وهي السفينة (دهوك), جميعها مسلحة بأحدث التقنيات البحرية المستعملة حتى الآن في الحفر البحري, وتم تجهيزها بمعدات التفريغ الساحلي المباشر من دون أن تضطر إلى إلقاء حمولتها مرة أخرى في الماء, وهي طريقة غير مستعملة في المياه العراقية في السابق, فباشرت الشركة الهولندية بالبناء لصالح العراق بتاريخ 21/1/2011 وتم تسليم السفن المتعاقد عليه بتاريخ 21/1/2013, وتعاقدت الهيئة مع الشركة الكويتية للصناعات الهندسية الثقيلة وبناء السفن (هسكو) لإعادة تأهيل سفينة الحفر (بصرة), وهي من سفن الحفر القادرة على حفر وتحميل (2000) طن من الرمال والأطيان المترسبة في القاع في غضون ساعة واحدة فقط, وأنجز المشروع بالكامل خلال خمسة أشهر فقط, والحفارة تعمل الآن بكفاءة عالية في صيانة أعماق الممرات الملاحية لميناء أم قصر. .
التقدم في المشاريع المينائية
وقع اختيار كتيبة القرض الياباني على شركة متخصصة ببناء السفن والوحدات البحرية الثقيلة, وهي شركة (تويوتا تسوشو TOYOTA TSUSHO) اليابانية لتجهيز الموانئ العراقية برافعتين متنقلتين بقدرة (150) طن لكل منهما, وتجهيزها برافعتين شوكيتين بقدرة (20) طن لكل منهما, وبرافعتين شوكيتين بقدرة (7) طن لكل منهما, وبورشتين متنقلتين, ومنصة هيدروليكية متنقلة, وأُنجز التجهيز بالكامل ووصلت المعدات إلى الميناء على وفق الشروط والمواصفات المثبتة في العقد بتاريخ 18/8/2011. .
ووقع الاختيار على شركة (اليمامة) العراقية لتطوير وتنظيم ساحات الحاويات في الرصيفين (20) و(21), ونصب وسائد كونكريتية لتستيف وتنضيد الحاويات, فانتهت الشركة المتعاقدة من التنفيذ, وأنجز المشروع بالكامل بتاريخ 14/2/2012, ثم وقع الاختيار على شركة (براق الخير) العراقية وشريكتها التركية (4Eliktrik) لإنشاء وتأثيث محطة كهربائية ثانوية في ميناء أم قصر, وتحسين منظومات الهاتف, ومنظومات الإنذار المبكر, وشبكات المياه, وشبكات المجاري وقنوات تصريف الأمطار, ونُفذ المشروع على الوجه الأكمل بتاريخ 31/8/2012. .
ثم تم التعاقد مع شركة (الحلو) العراقية لصيانة واستبدال الواقيات المطاطية من إنتاج شركة (SUMITOMO) لأرصفة ميناء أم قصر وبلغت نسبة الانجاز (92%) بتاريخ 14/4/2012. .
انتشال السفن الغارقة
اختارت كتيبة القرض الياباني شركة (KS) التركية لانتشال أربعة أهداف من السفن الغارقة في الممر الملاحي الوحيد المؤدي إلى ميناء أم قصر, والتي كانت تعد من الغوارق الكبيرة والثقيلة والخطيرة, وهي سفينة القطر (الرمادي) والناقلة (دوكان) الغارقتين منذ عام 1980 في منتصف الممر الملاحي لخور عبد الله عند العوامة الملاحية رقم (11), وانتشال سفينة القطر (سيحان) الغارقة في نهر أم قصر رقم (1), والناقلة (النصر) الغارقة في حوض الاستدارة لميناء خور الزبير, فانتشلتها كلها بعدما قطعتها إلى قطع منفصلة ثم رفعتها من قعر البحر, ونقلتها إلى الأماكن المخصصة لتجميع أشلاء السفن المنتشلة, فاكتمل التقطيع والرفع والانتشال بتاريخ 1/1/2012. .
سفن بحرية جديدة
تم التعاقد في 31/5/2011 مع شركة (GHI) الكورية الجنوبية لبناء وتجهيز رافعة بحرية عملاقة قادرة على رفع (2000) طن, وهي الرافعة العملاقة (أبا ذر), فبلغ مستوى الانجاز حتى الآن نسبة (96%), وستكون هذه الرافعة أكبر الرافعات البحرية التي ستنضم إلى الأسطول البحري العراقي, والتي ستزيد قدرتها على الرفع على قدرة الرافعة القديمة (خالد بم الوليد) بمقدار الضعف. .
وتعاقدت الهيئة مع شركة (AVIC) الصينية لبناء ثلاث سفن للقطر والسحب والدعم والإسناد في عرض البحر, وهي السفينة (الواصلية), والسفينة (الداودية), والسفينة (الصالحية) بقوة حصانية تقدر بنحو (5000) حصان لكل منها, وبناء زورق بحري مخصص للغوص والغطس, هو الزورق (المسبار), وبناء ناقلة للوقود بسعة (1000) طن هي الناقلة (السيبة), ومن المؤمل أن تصل هذه السفن إلى الموانئ العراقية قبيل نهاية العام الجاري 2013. .
قبل أن نصل إلى الخاتمة لابد من الإشارة إلى الدور الفاعل الذي لعبته هذه الكتيبة المينائية المتميزة في الارتقاء بمستوى التدريب, وفي حرصها على تغذية الأقسام الملاحية والهندسية بالعناصر المؤهلة لإدارة دفة العمل في السنوات القادمة, فقطعت حتى الآن شوطاً كبيرا في تأهيل مجاميع متخصصة من أصحاب الكفاءات والمهارات النادرة, فكانت موانئ (طوكيو) و(يوكوهاما) في اليابان هي الحاضنات التدريبية التي فتحت بواباتها لاستقبال العراقيين القادمين إليها من موانئ البصرة, فتدربوا على الأساليب الحديثة لإدارة محطة الحاويات, وإدارة عمليات الشحن والتفريغ, والسيطرة الملاحية على حركة السفن القادمة والمغادرة, والأساليب الحديثة لمكافحة التلوث ومعالجة الانسكاب النفطي في عرض البحر, والطرق العالمية الصحيحة المعتمدة في فحص السفن وتسجيل الوحدات البحرية العائمة, وتكنولوجيا الحفر والتعميق في واجهات الموانئ وممراتها الملاحية. .
فالتدريب الفاعل يعد استثماراً حكيماً للموارد البشرية, ويعود بالخير والنفع للموانئ في المديات القصيرة والطويلة, ويمكن أن يسهم في زيادة المهارات الفردية والجماعية, وفي تنمية القدرات الفكرية والمهارية, ويمنح المتدرب قدرات فائقة للتكيف مع المتغيرات التنظيمية والتشغيلية, ويعطيه القدرة على إتقان الأعمال والتقليل من الأخطاء بالاتجاه الذي يجعل الموانئ العراقية ترتقي نحو الأفضل في سلم التفوق المينائي لحوض الخليج العربي. . . .
مقالات اخرى للكاتب