بعد الاحتلال الأميركي في العراق وتراجع سلطة القانون عادت المظاهر العشائرية إلى هذا البلد بعد عقود طويلة من انتهاء دورها، وأصبحت المجالس العشائرية تتدخل في القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والقانونية إلى حد كبير حتى أضحت أكثر تأثيرا من المحاكم والقوانين.
في جلسة برلمانية مثيرة عقدت في الاول من آب (أغسطس) الحالي وخصصت لاستجواب وزير الدفاع خالد العبيدي بشأن صفقات فساد إداري ومالي، فاجأ العبيدي الجميع واتهم بشكل علني رئيس البرلمان سليم الجبوري والنائبين محمد الكربولي وطالب المعمار بالفساد الإداري والمالي.
وبعد ساعات على الجلسة توجه العبيدي الى هيئة النزاهة وقدم أدلة قال إنها تؤكد الفساد الإداري والمالي ضد رئيس البرلمان والنائبين الآخرين، وقرر البرلمان تشكيل لجنة خاصة للتحقيق في هذا الأمر، بينما رفع رئيس البرلمان دعوى قضائية بتهمة الكذب ضد العبيدي.
ولكن القصة لم تنته إلى هذا الحد، فالمسؤولون العراقيون الذين من المفترض ان يحترموا المحاكم ذهبوا الى عشائرهم طلبا للحماية، ليبدأ فصل جديد في المشهد العراقي، وباتت العشائر تحمي المسؤولين الذين ينتمون إليها من القانون حتى وان كان أحدهم متهما بالفساد الاداري والمالي.
ذهب وزير الدفاع الى العشيرة التي ينتمي اليها "العبيد" طلبا للدعم، ولم يمض يومان على الجلسة البرلمانية حتى عقد زعماء هذه العشيرة مؤتمرا صحافيا أعلنوا فيه تأييدهم لوزير الدفاع وهددوا كل من يتعرض له بسوء.
في المقابل اصدر شيوخ عشائر "الجبور" التي ينتمي إليها رئيس البرلمان بيانا هددوا فيه وزير الدفاع واتهموه بالكذب، وأكدوا انهم يقفون إلى جانب رئيس البرلمان ولن يسمحوا بالتعرض اليه.
وأيضاً فان زعماء عشيرة "الكرابلة" التي ينتمي اليها النائب محمد الكربولي عقدت هي الأخرى مؤتمراً صحافياً رفضت اتهام النائب الكربولي بالفساد وهددت كل من يعتدي على أبنائها.
استقواء السياسيين الفاسدين بعشائرهم شكّل ظاهرة جديدة في المشهد العراقي، وانتقد العراقيون تزايد نفوذ العشائر في السياسة بعد ان سيطروا على الوضع الاجتماعي عبر قوانين عشائرية متخلفة ترتكز على قوانين جائرة تبيح الانتقام بالقتل مباشرة من القاتل او إجباره على دفع مبالغ مالية طائلة.
ويخشى مسؤولون عراقيون من تفاقم هذه الظاهرة، ولجوء السياسيين الفاسدين الى عشائرهم لحمايتهم من المحاكم ستحول دون تحجيم ظاهرة الفساد الإداري والمالي في البلاد، واذا ما قررت الحكومة فرض القانون فان العشائر ستدخل في حروب فيما بينها كما يحصل في جنوب البلاد.
عبود العيساوي وهو رئيس اللجنة البرلمانية الخاصة بالشؤون العشائرية يقول لـ"نقاش" ان "على العشائر عدم زج نفسها في الصراعات بين الأحزاب والمسؤولين والسياسيين، ويجب الاحتكام الى القضاء والمحاكم".
ويضيف العيساوي ان "تدخل العشائر في هذه الخلافات يؤدي الى انقسامات خطيرة فيما بينها، وعلى زعماء القبائل دعم جهود الدولة في فرض القانون وليس العكس.. لان الخلافات العشائرية قد تستمر سنوات وتهدد السلم الاجتماعي"، ويقول أيضاً ان "البرلمان يناقش اقرار قانون خاص لتنظيم عمل العشائر ودورهم في الحياة العامة".
ولكن المشكلة اكبر من ذلك، وظاهرة تزايد النفوذ العشائري تعود الى الانتخابات، اذ تعتبر العشائر هي اللاعب الاساسي في فوز المسؤولين في الانتخابات، وقبل كل عملية انتخابية يذهب المسؤولون الى عشائرهم للحصول على أصوات أفراد عشيرته مستفيدا من أعدادها الكبيرة وإمكانياتها في تحشيد السكان المحليين.
في المقابل فان السياسي الذي يفوز في الانتخابات يقوم في المقابل بتقديم خدمات كبيرة لزعماء عشيرته مثل منحهم تعيينات في الحكومة وصفقات تجارية وتسهيلات أمنية، حتى أصبحت المصالح بين العشائر والسياسيين متلازمة لا يمكن حلها بسهولة.
الباحث الاجتماعي إدريس القيسي يقول لـ"نقاش" إن تزايد نفوذ العشائر دليل على ضعف القانون في العراق بعد عام 2003، ويقول أيضاً بان "السياسيين يستغلون العشائر وأبناءهم في الأرياف للحصول على الدعم ايام الانتخابات ومن ثم يهملون اوضاع الغالبية العظمى من ابناء العشائر مقابل رشوة زعماء القبيلة بالاموال والامتيازات الخاصة".
"غالبية زعماء العشائر اثرياء تركوا القرى والارياف الزراعية التي ينتمون اليها ويعيشون حاليا في المناطق الراقية في بغداد ومراكز المدن"، وساهمت الفوضى السياسية والصراع على السلطة والاموال في تعزيز نفوذ العشائر، كما يقول القيسي.
في السنوات القليلة الماضية تزايد دور العشائر في النزاعات الاجتماعية، وكل من يتعرض احد أفراد عائلته للقتل او للسرقة يفضل الذهاب إلى عشيرته لأخذ حقه بدلاً عن المحاكم، وهنا تبدأ العشيرة في الوقوف إلى جانبه مقابل الحصول على نسبة من المال، ويبذلون شتى الطرق للحصول على حق ابن قبيلتهم.
ولكن الشيخ كاظم العايد وهو احد زعماء القبائل في بغداد يبرر النفوذ الذي تلعبه العشائر في العراق، ويقول لـ "نقاش" إن "أفراد القبيلة يلجؤون الينا بسبب عدم قدرة الحكومة والمحاكم في الحصول على تطبيق القانون على الجميع دون استثناء، وهناك مجرمون يفلتون من العقاب بسهولة، ولهذا يلجأ العراقيون الى عشائرهم للحصول على حقوقهم".
ويضيف العايد أن "دور العشائر ايجابي وليس سلبياً، ولو لم تكن هناك عشائر تحمي أبناءها وتأخذ حقوقهم بالقوة ستزداد الفوضى في المجتمع ويصبح القتل والسرقة ظاهرة عامة لا يستطيع احد ايقافها".
وفي كل عشيرة هناك اشخاص يكلفون بمهمة الحصول على حقوق أبنائهم، ويبدأ هؤلاء بالذهاب الى العشيرة التي ينتمي اليها الخصوم ومطالبتهم "بالدية العشائرية" وهو مبلغ من المال مقابل ما ارتكبه ابنهم سواء قيامه بالقتل او السرقة وتصل المبالغ التي يطلبونها إلى مئات الملايين وفقا لطبيعة الجريمة.
وفي حال لم يتمكنوا من الوصول إلى العشيرة الأخرى يبدأ هؤلاء الأشخاص بإغلاق المنازل او الشركات التي يمتلكها الخصم، ويكتبون على جدران المباني بان أصحابها مطلوبون للقانون للعشائري، وهذه العبارة كفيلة في إخافة الشخص وهروبه من منزله ومكان عمله.
في حزيران (يوليو) الماضي حصلت مشادة كلامية بين احد موظفي شركة "دايو" الكورية المكلفة في بناء ميناء الفاو في مدينة البصرة وبين احد العمال من السكان المحليين، وأقدم الموظف الكوري على ضرب العامل، ولكن القضية تطورت حتى وصلت الى العشائر.
ذهب العامل وهو من سكان البصرة الى عشيرته لأخذ حقه، وفعلا هددت هذه العشيرة عمل الشركة الكورية وطالبتها في حق ابنها، وتمت التسوية وفق الأعراف العشائرية، الشركة منحت العشيرة مبلغ 7 آلاف دولار، ومنحت العامل الذي تعرض للضرب إجازة مدفوعة المرتب لشهرين.
ولم تعلق الحكومة العراقية والقوات الأمنية على هذه الحادثة التي باتت تهدد الشركات الأجنبية العاملة في العراق، وتعمل على طرد المستثمرين الأجانب كما يقول عضو غرفة التجارة العراقية سمير القاضي.
ويقول القاضي لـ "نقاش" ان "الشركات الأجنبية ستفكر كثيرا قبل ان تستثمر في العراق، إضافة الى مصاعب أعمال العنف والبيروقراطية، على الشركات ان تفكر أيضا في كيفية التعامل مع المجتمع العشائري، وما جرى في البصرة سيؤثر على الاقتصاد بشكل كبير".
العشائرية أضحت ظاهرة خطيرة تضاف الى مشكلات العراق الاخرى الامنية والسياسية، وأصبحت تهدد الدولة والمؤسسات الرسمية، وتشهد مدن عديدة مثل البصرة وميسان والناصرية قتالا عنيفا بالأسلحة منذ شهور، بينما تتصارع العشائر في الأنبار وصلاح الدين على ادارة مدينتهم بعد تحرير "داعش".
مقالات اخرى للكاتب