امتهنت الكتابة الصحافية على كبر، فقد انصرفت منذ صغري إلى الأدب والشعر. كنت في المدرسة الابتدائية ألقي تحية العلم صباحا، ومازلت أحفظ بعضا مما كنت ألقيه، مثل:
عش هكذا في علو أيها العلم فإننا بك بعد الله نعتصم...
وحينما انتقلت من الابتدائية إلى الإعدادية ترقت يوميتي من خمسة عشر فلسا ثمن قنينة مياه غازية إلى خمسة وعشرين فلسا، وكثيرا ما كنت احتفظ بها لأشتري في طريق عودتي إلى البيت عبر سوق السراي كتابا من سلسلة اقرأ والهلال وغيرهما، وأحيانا أشتري كوب لبن رائب بخمسة فلوس، وابتاع جريدة بعشرين فلسا، وفي إحدى العطل الصيفية مارست بيع الصحف القومية في ساحة الشهداء بدفع وتشجيع من احد أساتذتي القوميين، متعمدا رفع صوتي بالمانشتات والشعارات القومية المناهضة للمد الشيوعي الأحمر آنذاك.
وانتقلت إلى ثانوية الكرخ المسائية في خضر إلياس على دجلة، فكان الأستاذ خير الله طلفاح خال الرئيس العراقي صدام حسين مدير الثانوية يشجعني على القراءة ويختارني في المناسبات لإلقاء كلمة الطلبة، وفي الجامعة كان الأستاذ يوسف عز الدين يشجعني على نشر قصائدي في جريدة الجمهورية، ومازلت اذكر ان أول مقالة نشرتها كانت يوم ولادة ابنتي الكبرى قبل اثنين وأربعين عاما، وبدأت أكتب ولكن على فترات متقطعة قد تطول أشهرا، ولذلك إن لم أكن إعلاميا لم أكن بعيدا عن الإعلام والصحافة وإنما متابعا متواضعا لمسيرتيهما.
ولا أخفي تشكلت لدي قناعات عن الصحافة طيلة هذه الفترة، تراكمت وآلت إلى مآخذ في الأعوام الأخيرة، حيث أصبح الإعلام العربي إعلاما مسايرا انغمس في مجاملة السلطة نفاقا وطمعا وإيثارا للسلامة، أصبح إعلامنا إعلاما مهادنا كسولا يؤثر الراحة، صحفنا قلما تقرأ اليوم وقنواتنا قلما تشاهد، لأنها تركز في الخبر اليومي الرسمي، تنقله كما هو لا تتجاوز قشرته الخارجية، فهي تنقل الأخبار لا تصنعها، فلا تحلل ولا تتابع تطوراته وآثاره بمهنية وموضوعية وحيادية مؤسسية. أصبح القارئ العربي يتصفح الجريدة بدقائق ويشيح عنها، فالعنوان يدل على ما تحته، وما تحته صورة منفوخة بتحسنها حتى قبحت لفرط ترهلها. أو صورة قبيحة جملت بأصباغ رخيصة، وغاب التواضع والصدق، وانتفت الوسطية، إلا من رحم ربي.
إعلامنا صنع الجبابرة المستبدين، صنع القذافي والأسد ومبارك وابن علي، ومهد لزعمائنا سبل الطغيان وانتهاج الدكتاتورية بما يزين ويمجد، ويضفي الألقاب بلا حساب، يشتقونها من أسماء الله الحسنى ويلقونها بلا مبالاة، فيقتلون في الرؤساء كل إحساس بالآدمية، ولكي لا أبدو متجنيا خذ ما كتب عن مبارك قبل سقوطه بيوم وما كتب عنه بعد رحيله، وما يكتب اليوم عن قضيتنا الكبرى فلسطين، وتحديدا عن فتح وحماس، فلا تجد غير مؤيد مندفع، ومناوئ متهور، وقل منهم من يحلل ويقدم رؤية وسطية محايدة، أو لنقل بلا إسفاف وبلا شتائم وتخوين؟ إعلامنا مشوش مرتبك إعلام دعاية وترويج رخيص مبتذل.
ولنعرف الحقيقة علينا بالموازنة بين ما يكتبه العرب عن مصر وسوريا والعراق ولبنان وقضايانا عموما وما تكتبه الصحافة العالمية، وأيهم اقرب إلى الموضوعية والمنطقية وأيهم ابعد عنهما، إعلامنا يفرق بين ضحايا قوى الأمن والسلطة وضحايا المعارضة، قتيل الجيش شهيد وشهداء التظاهر قتلى، مع أن قتل النفس جريمة، جنديا كان أم مواطنا اعتياديا، صغيرا أم كبيرا، وزيرا أو فلاحا بسيطا، ربما الجندي اعد ليقتل ويقتل، ولكن الأمان للمواطن، فما بال الإعلام يركز في مواطن ويتجاهل آخر؟ إعلامنا منحاز فاقد المصداقية يفرق حتى بالموت بين من يقتل بالرصاص ومسمما بالغازات أم تحت سياط التعذيب مع أن الموت واحد، إعلامنا لا يفرق بين رئيس منتخب وآخر منصب، ولا يفرق بين الثورة والانقلاب، إعلامنا اليوم ينوب عن القضاء ويحتل دوره، في توجيه التهم وإصدار الإحكام، يجرم هذا ويبرئ ذاك، ويهرب من تناول جوانب الموضوع المختلفة وطرح الرؤى بشفافية، ويهرب من مهمته بقيادة الجماهير إلى تضليلها.
إعلامنا منحاز لا يفرق بين رئيس ينتخب وآخر ينصب نفسه يأتي بالدبابة يغتصب السلطة عقودا يزور ويدلس ويكذب ويسرق، ولا يفرق بين الضحية والجلاد، ولا بين الأصيل والدخيل، ولا بين معارضة وطنية وأخرى مأجورة، وفي الحالة الواحدة تتناقض الأحكام والمواقف من النقيض إلى النقيض بما يدفع إلى انعدام ثقة المواطن بما يرى ويسمع ويقرأ لانعدام الوسطية والحيادية، وعلى الرغم من أن عمر الصحافة لدينا يقترب من قرنيين، وعهدنا بها عريق، وعلاقتنا بالإعلام العالمي المرئي والمسموع لا بأس بها، لكنه بدلا من أن يتقدم ويتطور في المصداقية والشفافية، يتأخر ويتخلف عن مستوى الإعلام المتزن، ولم يعد يفرق بين الحقيقة والافتراء، ولا بين الانفلات والحرية، أو بين الأسلوب الساخر والمسخرة.
مقالات اخرى للكاتب