بعد التحول الدراماتيكي للعنوان العريض لمجموعات الإرهاب من "القاعدة" إلى "داعش" ،والذي أحدث معه تغيرات جوهرية على المستويات الأربعة المهمة والمتمثلة في : "طبيعة الهدف السياسي الكبير المنشود من وراء إستعمال العنف" و "حجم الأعوان والأنصار وآلية التجنيد ودوافعه" و "القدرات المالية والدعم اللوجستي في ساحة المعركة وخارجها" و"نوع الأهداف المعلنة والمضمرة" ،والتي ما زالت لحد الآن لم تدرك بحدودها الحقيقية من قبل كل الأطراف سواء المتعرضين لعنف الأرهاب بشكل مباشر أو الذين الذين يتحدثون عن مواجهته وهم أطراف غير مباشرة في المعركة ،كثر الحديث عن سبل مواجهة خطر داعش وتصاعد الحديث هذه الأيام بالذات ليصل إلى مستوى بناء حلف دولي يقود حرب المواجهة.
منذ إندلاع الأحداث في سورية والحديث يدور بأشكال مختلفة حول دور الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو وموقفهما من مجريات المعارك الدائرة على الأرض السورية وطبيعة المقاربات التي تقدم لإنهاء الصراع أو توجيهه إلى وجهة محددة ،والمحصلة من هذا الحديث أن الموقف الأمريكي يشوبه التشويش والتردد والإرتباك بشأن الموضوع السوري ،وأن أمريكا تقدم رجل إلى الأمام مدفوعة بتحريك خليجي ورغبة في تحجيم الوجودين الروسي والإيراني وتؤخر أخرى قلقا من القادم بعد الأسد ومجهولية الصورة التي يمكن أن تمثل البديل القادم وللإعتبار بما جرى في مصر في عهد الأخوان وللتقدير الإستراتيجي لكلفة الصراع المستديم مع روسيا الصاعدة وإيران ذات القدرة المتوسعة والمرنة في منطقة الشرق الأوسط.
إن هذا التردد الظاهري أو الإنكماش الإرادي أزاد من تعقيد المشهد في المنطقة وترك الأمور إلى اللحظة التي إنزاحت فيها ما تسمى قبلا بـ "الدولة الإسلامية في العراق والشام –داعش" بشكل مباغت صدم الداخل والخارج عندما أستولت على محافظة نينوى ومناطق أخرى واسعة وصارت تهدد أقليم كردستان من جهة ومناطق الوسط والجنوب من جهة أخرى ،وأستولت في هذه العملية على موارد ومعدات نقلت قدراتها العسكرية والمادية إلى عشرات الأضعاف وفتحت الباب واسعا أمامها من أجل إستقطاب الأنصار من كل أنحاء العالم ،بحيث صارت المشاركة الأوربية ومن أصول أوربية خالصة تتجاوز آلاف المهاجرين الملتحقين بالدولة الإسلامية ،وأعلنت نفسها دولة الخلافة الممتدة على كل أنحاء العالم ،بحيث صار الجميع يتحدث عن خطرها الداهم وعالمية أهدافها التوسعية.
في ظل هذه التطورات يظهر في المشهد العلني تحول كبير في المواقف الدولية في موضوع مواجهة داعش ،فالولايات المتحدة وعلى لسان الرئيس أوباما أعلنت عن إستراتيجية جديدة للمواجههة تتضمن توسيع وتكثيف نطاق الضربات الجوية وتقديم مساعدات إستخبارية ولوجستية للقوات العراقية وتدريب المعارضة السورية المعتدلة ودعمها وفرض حصار ومتابعة للتمويل الداعم للإرهاب وإقامة تعاون دولي مع الحلفاء من المنطقة ،وكانت الخطوات العملية لهذا التحرك تمثلت في اللقاء العشاري الذي جرى في جدة والحركة المكوكية لوزير الخارجية الأمريكي إلى المنطقة ،وكذلك زيارة الرئيس الفرنسي إلى العراق والتحضير إلى مؤتمر عن مكافحة الإرهاب يعقد في باريس في الايام القلائق القادمة ،وخطوات أخرى تعلن في هذا البلد أو ذاك ،وهي تؤشر إلى حالة من الصحوة التي يتوقع السامع في ظلها أنه سيصحى في الصباح وقد وجد "داعش" قد تبخرت من الخارطة نهائيا.
إلى جانب كل هذا "الضجيج في العام" توجد مناقشات من قلب الحالة تؤشر لنقود جوهرية مقلقة ،فالجمهوريون (صقورا وحمائم) ينتقدون تأخر وتردد الرئيس أوباما ويعدون إستراتيجيته غير فاعلة ،فالضربات الجوية لا يمكنها حسم المعركة مع عدم وجود قوة مقتدرة على الأرض تمسك زمام الأمور بعد تطهيرها ،كما أن تلك المجموعات لها قدرة الإختباء والمناورة إلى الحد الذي لا تضر بها الضربات الجوية كثيرا ،كما أن هناك نقود من من شكل آخر تتمثل في إقصاء إيران وروسيا من الترتيبات المزمع أقامتها لمواجهة داعش وكذلك إستبعاد التنسيق مع الحكومة السورية الذي يعني عدم وجود قوات يتم الإعتماد عليها في الأرض السورية عند إجراء ضربات جوية في الساحة السورية ،كما أن الموقف التركي المتردد أو المرتبك أو المناور يفت في عضد الجهد الدولي ،وأن عدم وضوح الدور الذي ينبغي أن تضطلع به كل دولة من الدول المشاركة في الحلف الدولي يجعل الأمر أكثر تشويشا ،هذا كله إلى جانب التصريح المتكرر للرئيس أوباما نفسه أن الحرب على داعش سوف تكون طويلة وأن الإجراءات ستأخذ وقتا أكبر من المتوقع حتى تؤتي أؤكلها ،الأمر الذي دفع البعض إلى التوقع أن أوباما سيورث هذا الملف قبل إكماله إلى الرئيس القادم.
في التقديرات العسكرية السوقية والتعبوية تعد حرب المجموعات غير المنظمة في جيوش تقليدية من أصعب أنواع الحروب ،كما أن قتال المجموعات الجوالة والزئبقية الحركة تمتاز بطول الفترة والكلفة المرتفعة وصعوبة الحسم ،يضاف إلى ذلك كله فإن القتال في المدن ومع وجود السكان المدنيين ومع عدم وضوح خطوط الفصل بين العدو والصديق والحساسية السياسية والأخلاقية لأي تحرك ،كل تلك العوامل تعطي مسوغا للحديث عن حرب طويلة الأمد نسبيا في مواجهة داعش ،إلا أن هذا يعني بالضرورة الشروع الجاد في تفاصيل المواجهة والتسجيل اليومي لصولات الكر والفر والدخول في أرض الميدان بحيث تتراكم الإنتصارات الجزئية في هذا القاطع وذاك إلى أن تبلغ مرحلة الإنتصار الكلي.
بقاء الحديث في الضجيج لا يعني أكثر من حملة أعلامية يمكن أن تعطي جرعات من الأمل لكل المتضررين من داعش ولكنه قد ينقلب سلبيا مع طول المدة دون تلمس إجراءات رادعة حقيقية على الأرض ،وقد يعطي زخما وجرأة للعدو بحيث يدرك عجز المجتمع الدولي عن مواجهته ،الأمر الذي يتطلب دخول مباشر في التفاصيل التي تحكي ملاحقة العدو في هذا القاطع أو ذاك ،ومواجهة تلك المجموعة أوملاحقة ذاك المصدر للتمويل ،كما ينبغي أن يكون هناك إستنفار حقيقي وجاد لكل الأجهزة الأمنية لمن يعنيهم الأمر للوقوف بوجه حملات التجنيد الواسعة من كل بلدان العالم وخصوصا من أوربا وضرب خطوط النقل ومحطات الإيواء والترانزيت المنتشرة في كل العالم ،وأن يظهر الحلف العالمي على قلب واحد مع العمل الجاد لإشراك إيران وروسيا وإيجاد صيغة ملائمة للتفاهم مع الحكومة السورية.
يوجد مثل حكيم يقول "من أقدامه في الشمس ليس كمن أقدامه في الفيء" ،لذا لا بد على المحروقين بشمس داعش القاتلة الإرهابية أن يستمروا في تحفيز الآخرين للدخول في التفاصيل والإنخراط في عملية المواجهة المباشرة وإلا يبقى صمت التفاصيل قاتلا ومقوضا لكل صوت في الفضاء العام.
مقالات اخرى للكاتب