احتمالات تفكك الاتحاد الأوروبي، الحلم الذي طالما تطلع الأوروبيون اليه، بدأت تلوح في الأفق رغم الاتفاق الهش الذي توصل اليه قادة تلك الدول في مؤتمرهم الذي عقد في باتيسلافا، وانتهى في السادس عشر من أيلول، بعد التوصل الى اتفاق هش حول وضع حدود وضوابط أكثر تشددا، خاصة بكيفية التعامل مع اللاجئين المتدفقين على الدول الأوروبية، بدون مراعاة لقدرات الدول الأوروبية على الاستيعاب والتحمل.
فقضية اللاجئين المتوافدين بسبب حروب تشتعل في مناطق بعض الدول، كسوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال وبعض الدول الافريقة الأخرى، ومعظمها بلاد تعاني من حروب أشعلتها الحركات الجهادية والارهابية... هذه القضية باتت معضلة حقيقية للدول الأوروبية، لأن دولها هي التي باتت تواجه الآن آثارها الاقتصادية والديموغرافية، بحيث يمكن اعتبارها دولا منكوبة تماما كتلك الدول التي تعاني سواء من الحروب أو من الارهاب. فكأن الحرب في سوريا مثلا، لم تعد معنية فقط باسقاط الرئيس السوري، بل ربما باتت تعنى باسقاط أنظمة ودول في أوروبا أيضا، نتيجة العبء الذي أصبحت تلك الدول تنوء به، كواحد من مفرزات تلك الحرب أو ذاك الارهاب، رغم أن الحرب ليست على أراضيها.
وتساهم تركيا في تصعيد المعضلة بمواظبتها على فتح حدودها في الجانبين، الجانب السوري والجانب الأوروبي. ففي الجانب السوري تأذن لمزيد من اللاجئين بالتدفق على تركيا، ثم تأذن لهم، أو لبعضهم على الأقل، بعبور الحدود التركية الأوروبية، للوصول الى دول أوروبا بدون معوقات جدية، رغم كل المغريات المالية التي قدمتها دول أوروبا لتركيا، بل ورغم الاتفاق الموقع بين الاتحاد الأوروبي وتركيا حول كيفية معالجة هذه الأزمة التي باتت تشكل أزمة حقيقية لأوروبا. فتركيا تتشبث الآن بمطلب آخر أضيف للمطلب المالي السمين بحجمه، وهو السماح للمواطنين الأنراك بالدخول الى أوروبا بدون تأشيرة، مما قد يشكل أزمة أخرى لدول أوروبا اذا تحقق، نظرا لتوقعها تدفق طالبي العمل الأتراك على الدول الأوروبية، عوضا عن تدفق اللاجئين الذي يفترض بذاك الاتفاق الحد منه.
وكان من أبرز النتائج لأزمة تدفق اللاجئين، تصويت نسبة من الشعب البريطاني على مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، تجنبا لاضطرار بريطانيا لاستقبال نسبة عالية من اللاجئين أسوة ببقية الدول الأوروبية. فبريطانيا التي كانت أصلا أقل من غيرها حماسة للاتحاد الأوروبي، وكانت لديها تحفظات عليه، فلم توقع معه اتفاقية شنغن الخاصة بالتأشيرة الأوروبية الموحدة، أو توقع معه اتفاقية اليورو سعيا لتوحيد العملة الأوروبية... أبدت الآن تحفظاتها على السماح للاجئين بالتدفق بحرية على الدول الأوروبية، ورفضت الموافقة على تقبل حصة منهم على أراضيها، علما أنه يتواجد الآن الآلاف منهم في مخيم الغابة قرب كاليه الفرنسية، المدينة القريبة من الحدود البريطانية. وهؤلاء يتطلعون بشغف لمغادرة مخيم الغابة والانطلاق نحو بريطانيا التي كانت أصلا غير مندمجة اندماجا تاما مع توجهات الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، تمضي بريطانيا في مساعيها للاستفادة من الدول الأوروبية، بدون تحمل التزامات توزيع اللاجئين على دول أوروبا كافة، وذلك بمطالبتها بالبقاء في السوق الأوروبية المشتركة رغم قرارها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.. فهي تريد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي كي تتجنب التزاماتهم نحو اللاجئين، لكنها لا تريد التخلي عن المكاسب التي تحققها لها السوق الأوروبية المشتركة.
وهكذا تتفاقم الأزمة في أوروبا تدريجيا رغم كل محاولات ألمانيا وفرنسا لتدارك عواقبها... لكن الى متى. فدول اوروبا تتحمل عبء اللاجئين، وتتحمل أيضا عبء الضربات الارهابية التي تطالها بين الفترة والأخرى. وعندما تصمت عمليات الدولة الاسلامية الخارجية، تنبعث عمليات الذئاب المنفردة التي بلغ عددها في الدول الأوروبية (ومعها أميركا) منذ بداية عام 2016 والى الآن (أي بعد ثمانية أشهر من عام 2016) ستة عشر عملية بعضها كان داميا دموية كبرى، كحادثة نيس مثلا التي حصدت 85 ضحية وأكثر من مائتي جريح.
واذا كانت ميركل، مستشارة المانيا، قد قدرت في البداية امكانية استخدام هؤلاء اللاجئين كأيدي عاملة رخيصة، فقد واجهت الآن عواقب قرارها ذاك. فأربعة عمليات ذئاب منفردة نفذت في ألمانيا خلال أسبوع واحد (في شهر تموز 2016)، اثنان منها نفذها لاجئان من سوريا. كما وقعت سلسلة طويلة من حوادث التحرش بالنساء، وبلغ بعضها حد الاغتصاب، مما أثار سخطا في بعض الأوساط الألمانية، وأضاف قوة الى صفوف الجهات السياسية المعارضة لميركل، مما بات يهدد قدرتها على المحافظة على أكثريتها البرلمانية في انتخابات قادمة. وهذا جعل المستشارة ميركيل التي تحمست كثيرا في البداية لقضية اللاجئين بذريعة التضامن الانساني مع أناس يعانون، أخذت الآن تتراجع بعض الشيء عن حماسها، وباتت تتوافق مع الدول الأوروبية الأخرى على ضرورة تحجيم حركة اللاجئين، والحد من تدفقهم على دول أوروبا لما في ذلك من أخطار أمنية، ومضار اقتصاديةـ اضافة الى مخاطر اجتماعية تعكسها قضايا التحرش والاغتصاب المتزايدة يوما بعد آخر.
فاذا فشلت دول اوروبا في مراعاة اتفاق الحد الأدنى من القبول وتقبل اللاجئين المتفق عليه في قمة باتيسلافا، فان الخطوة القادمة سترجح اقدام كل دولة على الانفراد بقرارها في شأن اللاجئين حسب قدراتها، والذي قد يصل الى رفض بعض الدول تقبل أيا منهم على الاطلاق، مما سيشكل تدريجيا، بداية التفكك بين هذه الدول، وبالتالي قد لا تعود بريطانيا هي الدولة الوحيدة المغادرة للاتحاد الأوروبي، بل ستتبعها دول أخرى هي الدول الضعيفة اقتصاديا، والرافضة تماما لتقبل ولو الحد الأدنى من اللاجئين.
وهنا يتجلى أمامنا بوضوح، أن الحرب في سوريا والعراق وليبيا واليمن، لم تعد تسعى فحسب لاسقاط أنظمة قائمة في الدول التي تعاني من تلك الحروب، أو اغتيال مفهوم استراتيجي معتمد في بعضها وهو مفهوم الممانعة، لأن الأهداف البعيدة لها، والتي ربما كانت وراءها تركيا الماكرة ، كونها الجارة الأقرب لأوروبا. فهي الدولة التي فتحت حدودها ، وجعلت من الممكن نشوب حرب تستنزف دول المنطقة، وتظل قائمة لفترة ممتدة في الزمن، لتستنزف دول أوروبا أيضا، المترددة، بل الرافضة سرا لتقبل تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، فبات من مصلحة تركيا، ولو من باب الانتقام، أن تهدد بقاء هذا الاتحاد قائما.
ولكن في الوقت الذي تتوجه فيه دول الاتحاد نحو احتمال التفكك والابتعاد عن بعضها البعض تدريجيا، باتت الحركات الجهادية تتجه نحو التوافق والتضامن فيما بينها، بدءا بتضامن أحرار الشام وفصائل أخرى مسلحة مع جبهة فتح الشام (النصرة سابقا)، التي رفضت، رغم المساعي والضغوط الأميركية المعلنة، بل ورغم اتفاق الخمس مذكرات الموقعة بين روسيا وأميركا...رفضت التخلي أو الابتعاد عن مواقعها المتداخلة مع مواقع فتح الشام المصنفة ارهابية... فهذا ما يحدث فعلا على أرض الواقع، رغم ما يحمله تمنعها المتعنت ذاك من احتمالات انهيار الهدنة المؤقتة في سوريا، ومن تأخير وصول المساعدات الانسانية والغذائية الى حلب الشرقية المحاصرة والمهددة قريبا بالجوع وبويلات أخرى، ومنها عودة الطائرات الروسية والسورية لقصف مواقعها، ربما بشدة أكبر هذه المرة.
فحركة التضامن الحالية هذه في منطقة حلب خصوصا، مرشحة قريبا للانتشار لتمتد الى تضامن أوسع قد يشمل الدولة الاسلامية المتعرضة لهجوم شرس في مواقع عدة، وهو هجوم قادها الى وضع حرج لا تحسد عليه، الأمر الذي قد يضطرها هي أيضا، لتناسي خلافاتها مع تنظيم القاعدة، والاقدام على فتح صفحة جديدة بين القاعدة والدولة الاسلامية، وهي صفحة سترحب جبهة فتح الشام بها أيضا (أحد فروع القاعدة رغم تغيير المسميات من جبهة النصرة لجبهة فتح الشام). فهذا التآلف الذي في عمق الؤيا والتحليل، لا يبدو لي مستبعدا، وقد يكون مرجحا بل متوقعا، في ظل حرب ضروس تشن على القاعدة في أفغانستان، وأخرى تشن على الدولة الاسلامية في كل من سوريا والعراق وليبيا، وحرب ضروص تشن في حلب على فتح الشام وأحرار الشام وفصائل مسلحة أخرى متضامنة معهما. وسرعان ما يعلن جيش الاسلام أيضا مؤازرتها والسير في ركابها، توجها نحو التآخي والاتحاد ونبذ التفكك الذي لم يعد يوجد ما يبرره في ظل أوضاع الحروب القائمة ضد جميع هذه التنظيمات بدون تمييز واضح..
فاذا استمرت الحرب في عنفوانها في كل من أفغانستان وسورياوالعراق وليبيا واليمن، لا بد ستجد تلك الفصائل نفسها مضطرة، عاحلا أو آجلا، الى التوجه نحو العودة الى الاتحاد في تنظيم قاعدة جديدة ربما باسم جديد، لتتمكن هذه من مجابهة الهجمة عليها، بل ومن نقل عملية المواجهة الى مجابهة أوسع مرجحة لأن تمتد الى أوروبا، سواء عبر غزوات جهادية، أو عمليات ذئاب منفردة، أو نتيجة تدفق مزيد من اللاجئين عليها، بما سيفرزه ذلك كله من مزيد من التفكك في بنيان الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تبرز فيه القوى الجهادية، التي من المحتمل أن تتجلى سريعا كتحالف بين الضعفاء.. كقوة كبرى قادرة على ملء الهيمنة وملء الفراغ في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن...بل وفي أوروبا ذاتها.
ميشيل حنا الحاج
مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين.
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن.
عضو في اتحاد الكتاب والمفكرين الأردنيين.
مقالات اخرى للكاتب