" الصحافة الصفراء " تعبير يتردد كثيراّ على ألسنة الناس, قد يقصد البعض بذلك " صحافة الإثارة " سواء كانت الإثارة سياسية أو دينية أو اجتماعية أو جنسية ، وقد يُقصد البعض الآخر " الصحافة الشعبية " أو صحف " التابلويد ". وهي ثلاثة أشكال من الصحافة " الخفيفة " يصعب وضع حدود فاصلة بينها ، لأنها تتشابه الى حد كبير من حيث المضامين والأخراج الفني .
أيا كانت المصطلحات و المفاهيم فإن الجميع يكاد يتفق على أن " الصحافة الصفراء " تفتقر الى الصدقية والموضوعية والمصادر الموثوقة ولا يكلف العاملون فيها أنفسهم عناء التحقق من المعلومات المنشورة ولكنها – رغم ذلك - تلقى هوى ورواجا لدى القراء.
يرى معظم الباحثين ، ان " الصحافة الصفراء " ظهرت للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأميركة على يد ( Ervin Wardman ) ، حين أصدر صحيفة ( New York Press ) في أواخر عام ( 1896م ) . ولكن " الصحافة الصفراء " لم تلد عن طريق المصادفة ، بل ان جذورها تمتد الى الفترة التي شهدت فيها أوروبا تحولات أقتصادية وأجتماعية وثقافية كبرى عقب الثورة الفرنسية ( 1789 – 1799 م) ، ومنها دمقرطة المجتمع والصحافة اثر أنتشار الصناعة ونشؤ مراكز التجمعات العمالية وتقدم تكنولوجيا الطباعة والأنتاج الصحفي وارتفاع مستويات الدخل وظهور الطبقة الوسطى والقضاء على نسبة كبيرة من الأمية . كل هذه العوامل مجتمعة ادت الى ظهور قطاعات عريضة من أشباه المثقفين وأنصاف المتعلمين الذين لم تعد الصحافة التقليدية الرصينة قادرة على تلبية رغباتهم واذواقهم ، مما مهد لظهور ما تسمى " الصحافة الشعبية ".التي تعكس الحوادث من وجهة نظر القاريء من الطبقة الوسطى . وتوقفت قراءة الصحف أن تكون حكراً وأمتيازاً للنخب السياسية والأجتماعية والثقافية ، ولكن القاريء العام – وهو قاريء محدود الثقافة وضيق الأفق - لم يكن يتقبل المقالات الجادة للصحف الرصينة ، التي كانت تبدي اهتماما مكثفا بوظائف الصحافة الأساسية في المقام الأول ، في حين كان الجمهور يرغب في الترفيه والتسلية..
ومنذ ذلك الحين عرف تأريخ الثقافة عموماُ وتأريخ الصحافة على وجه الخصوص ، اتجاهين متفاعلين ومتداخلين في أحيان كثيرة وهما " الأتجاه المعرفي " و" الأتجاه الترفيهي " .وتميل " الصحافة الصفراء " الى تغليب الأتجاه الترفيهي على حساب الوظيفة الأعلامية .
لقد تطور هذا النمط الجديد من الصحافة في الفترة اللاحقة و أكتسب ملامحه وسماته المتميزة
في التجربة الصحفية الأميركية منذ العام ( 1850م) ، وأهم ما تمتاز به هذه التجربة توسع " وظائف الصحافة " وعدم اقتصارها على الوظيفة المعرفية والأعلامية ، والأهتمام المتزايد بالوظائف الجمالية و الأبداعية و الترفيهية ، التي تسهم في تلبية رغبات القاريء وأمتاعه واسترخاءه وهروبه من مشاكله الشخصية وتأمين المشاركة الفردية في عملية الأتصال .
تسعى " الصحافة الصفراء " الى أستمالة وجذب اكبر عدد من القراء بنشرمواد صحفية خفيفة تتسم بعناصرالأثارة والتشويق اوالطرافة والغرابة والتركيزعلى المحرمات ( التابوهات ) والأخبار المجهلة والشائعات والفضائح والجرائم والقصص الخبرية الملفقة والعناوين الصارخة أو المضللة ، وليس ثمة ما يثير اهتمام القاريء وتلهغه أكثر من الأشاعات والأقاويل والفضائح و تفاصيل حميمة من حياة المشاهير. وبطبيعة الحال ينبغي ان يكون في مثل هذه الصحف الكثير من الجنس والوقائع الساخنة والعنف. فعلى سبيل المثال يشعر القاريء بالفرح حين يكتشف ان هذه الجريمة أو تلك المأساة لم تحدث معه شخصيا .
وتتميز هذه الصحافة باستخدام اساليب جذابة في التحرير و الأخراج الفني بما يتلائم واذواق واهتمامات الجمهور العام . وهي صحافة رخيصة الثمن ، تبذل كل امكانياتها من اجل أستمالة الجمهور وزيادة التوزيع الذي يكون دافعا للحصول على عوائد اعلانية ضخمة ودون النظر لعائد بيع نسخ الصحيفة ذاتها .ويمكن القول ان " الصحافة الصفراء " أسهمت في تحول " الصحافة " الى " صناعة "
والحق ان غالبية الناس لا تهتم كثيراً بالسياسة العالمية ولا بالوضع الاقتصادي الداخلي وتركز في الأساس على المواضيع الشخصية المثيرة. وقد استفاد رجال الأعمال من هذا التغيير لجني الأرباح ، كما أستفاد منه رجال السياسة الذين دروا الأموال على أصحاب القلم لكتابة مقالات تزور الحقائق وتقلب المعلومات رأس على عقب بهدف النيل من هذه الشخصية السياسية أو تلك.
في يومنا هذا لا توجد حدود فاصلة وواضحة بين " الصحافة الصفراء " و" الصحافة الرصينة " ، حيث تظهر بعض ملامح الصحف الصفراء الى هذا الحد او ذاك في " الصحف الرصينة " التي تخاطب المثقفين .وقد تثير الصحف " الرخيصة " احيانا مشاكل اجتماعية خطيرة.
صحف الأثارة فى العراق وأقليم كردستان :
"الصحافة الصفراء" في الغرب صناعة متطورة تدر مليارات الدولارات سنوياً وتتمتع بحرية واسعة في ظل الأنظمة الليبرالية وبوسعها تناول شتى الموضوعات المثيرة وفي مقدمتها العلاقات الحميمة للمشاهير ونجوم المجتمع وتصيَد أخبارهم وأسرارهم عن طريق التلصص على حياتهم الخاصة ونشركل ما يلهب خيال القاريء ، محدود الثقافة. ومن خلال متابعتنا للصحافة العراقية والكوردية نرى عدم وجود " صحافة صفراء " بالمعنى الدقيق للمصطلح في العراق و أقليم كوردستان في الوقت الراهن ، وانما هناك بعض العناصر والملامح الصفراء، التي لم تأخذ مداها الكامل نظرأ للبيئة الشرقية المحافظة، التي تحول دون أختراق التابوهات أو تجاوز العادات والتقاليد والأعراف الراسخة للمجتمع .
ولعل من أبرز هذه الملامح الصفراء - التي تقتصر على عدد من الصحف الأهلية أو الخاصة - شيوع ظاهرة الخبر المجهل أو الخبر غير محدد المصدر واحياناُ الخبرغير الصحيح أو الكاذب .ومن تلك الملامح أيضاً اللجؤ الى التهويل والمبالغة في المعالجة الصحفية .وكذلك استخدام العناوين المضللة للأخبار والتقارير وتضمينها معلومات اكبر مما تمتلكه الصحيفة ، أي ان العناوين الصارخة – التي تحتل مساحات كبيرة في مقدمة الصفحة الأولى وحتى في الصفحات الداخلية – قد لا تكون له الا علاقة طفيفة أو واهية بمضامين المواد المنشورة .
وعلى اية حال فأن هذه العناصر والملامح التي أخذت تطغي تدريجيا على الصحافة الخاصة العراقية والكوردية من اجل زيادة أرقام توزيعها ومردوداتها المالية دليل واضح على تدني الأحترافية المهنية لها قبل أن تكون تقليداً غير ناضج للصحافة الصفراء في الغرب .