العراق تايمز ــ كتب كاظم فنجان الحمامي:دعونا نقلب الموضوع رأساً على عقب, ونبدأ بهذا الأسئلة الخنفشارية. فنقول: في أي عام هطلت الأمطار لأول مرة على سطح كوكب الأرض ؟, وهل الأمطار من التقلبات الجوية الجديدة الطارئة على مناخ الأرض ؟, وكم مضى عليها من الزمن وهي تبلل وجوه الفقراء برذاذها الطائش ؟, ومنذ متى وهي تُغرق مزارع الأمم ومدنهم بما تجود به سحبها المثقلة بمياه البحار والمحيطات ؟, ومن هو العبقري الذي صمم أول نظام للمجاري في المدن العتيقة المندثرة, وفي أي بقعة من العالم وقعت أخطر الفيضانات؟, ومن هي الأقوام التي شيدت أول السدود المانعة لتدفق سيول الأمطار الجارفة ؟, فيأتينا الجواب من شيخ شيوخ المؤرخين (صماموئيل نوح كريمر) بكلمة حاسمة واحدة: السومريون.
ابحثوا عن السومريين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والأكديين وعن كل العراقيين القدامى لتجدوا أنهم أول السلالات البشرية, التي استوطنت في بلاد الرافدين (الميزوبوتاميا), وهم الذين واجهوا أول وأكبر وأشهر وأعنف طوفان, يوم تفتحت أبواب السماء بماء منهمر, ويوم تفجرت الأرض عيوناً, ويوم التقى الماء على أمر قد قدر.
فالسومريون أول من صمم قنوات التصريف, وأول من برع في هندسة المجاري, وأول من شيد السدود والنواظم قبل مئات القرون, فكيف غرقت مدن أحفادهم في الألفية الثالثة بأول زخة مطر ؟, وكيف تحولت مدنهم وقراهم إلى مسابح وبرك عميقة ومستنقعات واسعة تعج بالفضلات والأزبال والقناني البلاستيكية الطافية ؟.
والعراقيون أول الأقوام الذين تعاملوا مع الأمطار, وصنفوها في لغتهم إلى أصناف ومسميات تزينت بها القواميس والمعاجم, فالرذاذ عندهم هو المطر الخفيف, والبغش والرهمة والدث والرك: أقوى الرذاذ, والطل: أخف منه, والرش أو الطش: أول المطر, والديمة: الأمطار التي تدوم طويلاً, والمزنة: رذاذ الغيوم العابرة, والهطل والتهتان: المطر الغزير, والحيا: المطر الذي يحي الأرض بعد موتها, والعباب: المطر الكثير, الصنديد والجود: المطر الثقيل, والوابل: أثقل منه, والودق: المطر المستمر, والحميم: المطر الصيفي, والولي: المطر بعد المطر.
لكننا اليوم نمر بأحلك ظروفنا الجوية القاهرة بعدما تحولت الأمطار في بلادنا إلى معضلة فلسفية لا تدركها عقول خبراء وزارة البلديات, ولا المؤسسات الهندسية ولا المعمارية, ولا تفهمها مراكز التخطيط.
فجأة توقفت محطات البث الإذاعي والتلفزيوني, وتجاهلت ما فعلته بنا المتفجرات والعبوات الناسفة من موت ودمار, فكرست نشراتها للحديث عن السيول والأمطار, وأعادت إلى الأذهان تراكمات الأزمة الأزلية المرتبطة بفلسفة المجاري و(السبتتنكات), ونظرياتها الموسمية الارتجالية الطافحة بالهموم والأوجاع.
وفجأة تحولت بعض التشكيلات السياسية إلى أبواق تلفزيونية تتفلسف في شرح تقلبات الأنواء الجوية, وتتعمق في خبايا المجاري وقنواتها التصريفية, وفجأة اكتشفت مجسات أمانة العاصمة سقوط كتل فضائية كبيرة من أحجار الجرانيت في مجاري العاصمة بغداد, تسببت في انسدادها وتعطيلها, وفجأة أكتشف الناس أن الأمطار ظاهرة كونية جديدة طارئة لم تكن معروفة في العراق, ولم تكن تعلم بها وزارة البلديات, ولا الإدارات المحلية في عموم المدن العراقية, فانبرت لها الدولة بكل ما تملك من صهاريج وبلدوزرات وشافطات, وقررت التصدي لهذه الظاهرة الكونية الجديدة, على أمل أن تقوم بتحسين وتوسيع شبكة المجاري, ورفع طاقاتها في السنوات القليلة القادمة.
ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين