أيُّ كلماتٍ تسعفنا وقد أضحينا نحنُ أهلُ العراق أغرابٌ في أوطاننا منكسري الجناح تعصف بنا ريحٌ صِرٌ عاتية تجعلنا نميدٌ ذات اليمين وذات الشمال وعزاؤنا ذكرياتنا عن وطنٍ كان كالأم الرؤوم يجمعنا تحت خيمته ذكرياتٌ مشفوعةٌ بدموعنا ولواعج الشوق والحنين والوجد والأنين .......نستجدي المدامع كي تجود بدمعها الراقراق مسفوحاً بكرم حاتمي من المآقي بعد أن ركل الفرح قلوباً كانت عامرة بكل تباشير الأمل والسعد لنصبح ويكأن الطير على رؤوسنا ، وللأسف أن ما حَلّ بالعباد والبلاد يستند على ركائز ثلاث هم ساسة الصدفة الذين تسلطوا على كُل المقدرات ورجالات دين تاجروا بدمائنا وكل ما نملك والركيزة الثالثة الإعلام المُضلل الذي يتحمل الوزر الأعظم .
صُعِقت وأنا أتمعن بكلمات ديفيد واردس نائب الرئيس الأمريكي جورج w بوش والمستشار المسؤول عن قسم الشرق الأوسط في فريق دك تشيني (المحافظين الجُدد) حينما قال بالنص : (مِن ضمن خطتنا في المنطقة أننا لابُد وأن ننتبه للإعلام ، فالإعلاميون العرب كُلُهم أعداء ضد السامية وكُلُهم يشكلوا معسكر الخصم فلا بُد أن نجد إسطبلاً من الإعلاميين العرب يشبه سفينة نوح ، الأحصنة في هذا الإسطبل وضيفتهم أن يقولوا أن سوريا وإيران هما المُشكلة ، أما الحمير فهُم مَنْ يُصدقون بأننا نُريد الديمقراطية ، أما الخنازير فهُم الذين يقتاتون على فضلاتنا ومهمتهم كلما أعددنا مؤامرة قالوا : أين هي المؤامرة ) ...؟؟؟!!!
تنبه ابن خلدون المتوفى ٨٠٨هـ في مقدمته وسلط الضوء على خطورة دور الإعلام ومدى تقبل المُتلقي لما يُنقل قائلاً : التعاطي مع الأخبار ومحاكمتها وفق القناعات المسبقة لا من حيث مطابقتها للواقع من عدمه... فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها ميولٌ وتعصبٌ لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والهوى غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ظنه وتخمينه فيقع في الكذب،ومنها توهم الصدق وهو كثير، ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنّع وهي بالتصنع على غير الحق ، وفي زماننا ما أكثر الفضائيات التي تدس السُم الزعاف وتُذكي الشحن الطائفي والعرقي وتغرس في الأنفس المُغرر بها صدرا وصراع الأديان والحضارات ... وتسعى جاهدةً على خلق إصطفافات وتخندقات وما أكثر الدم المسفوح بين الفضائيات .
ولو تأملنا جلياً بالمقولة الشهيرة لوزير الإعلام النازي في عهد هتلر جوزيف غوبلز: (أعطني إعلاماً بلا ضمير أعطيك شعباً بلا وعي) ولنا أن نتصور البون الشاسع بين ما كانت عليه الإمكانات قُبيل منتصف القرن العشرين قٌبيل الحروب العالمية الأولى والثانية وبين ما تملكه وسائل الإعلام اليوم من امكانيات تترجح لديه قناعةٌ راسخة بإمكانية التلاعب بوعي الشعوب وخلق أجيال بلا وعي أصبحت أسهل بكثير مما كان عليه الحال في عهد جوزيف غوبلز فما بالنا اليوم في أجيال نشأت وترعرعت في خِضّم هذا الصراع ....
بعد أن سلطنا الضوء ولو بالنزر اليسير عن دور الإعلام في ما آلت إليه الحال حتى إنطبق علينا أهل العراق المثلُ القائل (أصبحنا كُلَ واحدٍ تحت نجمة) ورغم الشتات إلاّ أن العراق يتربع عرش القلب ويسكن خافقه
يا صبرُ أيوبَ...
لا ثوبٌ فنخلعُهُ إن ضاق عنا
ولا دارٌ فننتقلُ...
لكنه وطنٌ... أدنى مكارمه
يا صبر أيوب...
إنا فيه نكتملُ
وأنه غُرَّةُ الأوطان أجمعِها
فأين عن غُرةِ الأوطانِ نرتحلُ... ؟؟؟ !!!
في غُربتي رن هاتفي وكنت قد عقدت العزم أن لا أرد على رقم غير معرف ولكن مع إصرار المتصل آثرت الجواب فإذا به صوت مضى على سماعي له أكثر من عشرة أعوام وقد دارت رُحى الأيام وأضحى من كبار الضُباط ليُخبرني بأنه قُدم لزيارتي في غُربتي بعد متابعته لما آلت إليه الحال وما أن إلتقينا حتى أخذني بأحضانه وأخذ يجهش بالبكاء لتختلط دموعنا والعبرات والنشيج ، ثم راح يُحدثني عن أولى الدورات التي تم إشراكه بها مع كوكبة من ضباط العراق من كل القوميات والأعراق والمذاهب والأديان بُعَيّد إحتلال العراق بوقتٍ قصير ، حيث تم التعاقد مع الضابط الأميركية المتقاعدة (لندا) وزوجها للإشراف والتدريب وقد جرت العادة أن يناديها الجميع الأم لندا (ومعنى اسمها الجميلة) وزعت الإستمارات على الضباط ومن بين فقراتها سؤال هل أنت (سُني أم شيعي) الأمر الذي أثار سخط واستياء ضباط الدورة واتفق الجميع على كتابة علامة x والإكتفاء بكتابة مُسلم .
بدأ التدريب ومع تباشير فجر كل يوم كان الضباط كُلٌ يُعانق صاحبه (والأم لندا) تتابع المشهد من شرفة غرفتها المُطِّلة على الموقع ، لكن مع الأيام بدأت يد القتل تحصد أرواح الكثير من الضباط وتحديداً في الموقع الجغرافي المُمْتد من معسكر الرشيد حتى نهاية الخط السريع المقابل لمدينة الدورة ومع مصرع كل ضابط كان البُكاء سيدُ الموقف وما أن ينتهي التدريب ويشرع الضباط بالمغادرة حتى يتضرع الجميع بأن يحفظهم الله وكُلٌ يوصي صاحبه إحذر فديتك ولا تفجعنا بمصرعك .... انتهت المُدة المُقررة وفي حفل الاختتام وقد خسرنا كوكبة من خيرة ضباطنا اجتمعت بنا (الأم لندا) في لقاءٍ مفتوح وحوارٍ دون أي قيود وللجميع أن يسأل ، يقول صاحبي بعد موجة عارمة من التساؤلات والصراحة المفرطة سألتها أما كان بإمكان القوات المُحتلة الأمريكية أن تؤمن حماية لنا على طريقٍ لا يتجاوز بضع كيلو مترات ولما خسرنا إخوة لنا و...؟؟؟
لِتُجيب (الأم لندا) : إعلموا أن أميركا بإمكانها حماية حدود العراق وليس هذا الطريق فحسب من واشنطن ، ولكن كُلُ شيء يسير وفق ما تم التخطيط له وأنا اليوم إذ أصارحكم بحقيقة كُلِ شيء لحالةٍ شدتني وهو الألفة بينكم وطيب مشاعركم وصدقها فأنا عن نفسي لم أرى أنا وزوجي إبنتنا الوحيدة منذ أربعة أعوام بينما أنتم تفترقون مساءاً وفي اليوم الثاني تتعانقون في أواصر وعلاقات متينة لا نظير لها في أميركا خصوصاً والمجتمع الغربي على وجه العموم فانتم تمثلون الإنسان السامي بكل ما تعنيه الكلمة لذا دعوني أحذركم لا تنطلي عليكم كذبة التحرير والديموقراطية والإعلام الزائف ... وأنني أجزم أنكم أهل العراق بمقومات الأخلاق التي تمتلكونها بإمكانكم أن تبلغوا وتتجاوزوا ما وصلت إليه الولايات المتحدة الأميركية خلال عقدٍ من الزمن أما إذا وقعتم في الفخ الذي نُصب لكم فاقرؤوا على أنفسكم وبلادكم السلام ... ولكنني أحذركم ... إحذروا ديموقراطية بوش ..........
اللهم إحفظ العراق وأهل العراق
مقالات اخرى للكاتب