الاصل ان التظاهرات و الاعتصامات هي من الحقوق الدستورية في التعبير عن الرأي , وهي جزء من حقوق الانسان ومن حريته في التفكير والتعبير اذا كانت سلمية ومجازة مسبقا من الجهات المختصة حسب القانون . ولكل فرد الحق في الحرية ولا يجوز الحرمان منها او تقييدها الا وفقا للقانون ( المادة 15 من الدستور العراقي لعام 2005 ) كما جاء في المادة 38 ايضا ما يؤكد ذلك حيث تكفل الدولة العراقية – وبما لا يخل بالنظام العام والاداب العامة – مايلي :
1- حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل .
2- حرية الصحافة والطباعة والاعلان والنشر
3- حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وفقا لقانون ينظم ذلك .
ولاشك ان هناك فرقا كبيرا بين الاجتماعات والتظاهرات السلمية اذا كانت مجازة من السلطات المختصة وحسب الاصول وبين التمرد والعصيان على الدولة التي تشكل جريمة طبقا لقانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل ( المادة 364 ) كما ان التظاهرات السلمية اذا رفع فيها المتظاهرون شعارات تحرض على قلب نظام الحكم او على الكراهية او اثارة النعرات الطائفية والمذهبية او البغضاء بين سكان العراق يشكل جريمة تستوجب العقاب طبقا للمادة 200 من قانون العقوبات النافذ .
وفي ضوء ما تقدم فان التظاهرات والاعتصامات التي اندلعت قبل اكثر من ثلاثه اشهر وقعت بعد اعتقال مسؤول حماية وزير المالية رافع العيساوي , ويعود سبب الاعتقال الى صدور مذكرة قبض على ( محمود العيساوي ) وعلى متهمين بجرائم خطيرة لتورط عدد من الحمايات الشخصية للوزير المستقيل بجرائم ارهابية وهي اعتقالات للمتهمين بهذه الجرائم جاءت في ظروف الاحتقان السياسي في العراق وربما كانت طريقة تنفيذ اوامر القاء القبض من السلطة التنفيذية فيها جانب استفزازي من حيث الزمان والمكان صعدت ايضا من وتيرة هذا التوتر السياسي .
ان الشعارات والمطالب التي رفعت وترفع من المعتصمين والمتظاهرين يمكن تقسيمها الى نوعين وهي :
النوع الاول :
مطالب مشروعة وتنسجم مع الدستور ويجب الاستجابة لها من الحكومة - رغم ان المتظاهرين لم يحصلوا مسبقا على ترخيص بالتظاهر - ومن هذه المطالب مثلا التسريع بحسم ملفات المتهمين بالجرائم وتعويض المتضررين وحل مشاكل الفساد المالي والاداري وايجاد فرص العمل للعاطلين واحترام معايير حقوق الانسان في السجون ورفع الظلم وضرورة عدم التمييز بين المواطنين وتوفير الخدمات الاساسية من الماء والكهرباء والخدمات الصحية والتعليمية وشق الطرق وبناء المدارس الحديثة وغيرها , كما يبدو ان هناك اكثر من 18 الف قضية جنائية تتنظر الحسم من القضاء العراقي وهو عدد كبير يحتاج الى الوقت والى عدد كاف من القضاة المختصين لدراستها والفصل فيها بعدالة وبدون تأخير.
النوع الثاني:
مطالب غير مشروعة لانها تتعارض مع الدستور والقانون والاتفاقيات الدولية وهي غير مقبولة وليست معقولة ولانها تتنافى مع العدل والعدالة ومن ذلك مثلا اطلاق سراح الارهابيين الذين ارتكبوا جرائم عمدية خطيرة في التفجيرات والاغتيالات والافعال الارهابية المختلفة التي تهدد سلامة وامن الدولة والمجتمع والسلم الاهلي ايا كان الفاعل من الرجال ام من النساء لان واجب الدولة حفظ الامن والاستقرار ومكافحة الفساد و الجريمة المنظمة .
اما عن المادة 4 من قانون مكافحة الارهاب في العراق رقم 13 لسنة 2005 فانها جاءت منسجمة مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها العراق ومنها اتفاقية منع ابادة الجنس البشري واتفاقية منع تقادم الجرائم الدولية لعام 1948 وهي تستمد شرعيتها ايضا من الدستور العراقي النافذ ( المادة 7 ) وتنسجم مع قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم 10 لسنة 2005 , اذ لا يمكن بناء دولة القانون بدون محاسبة الفاعلين للجرائم الارهابية والمرتكبين للجريمة المنظمة , ثم هل توجد دولة في العالم تترك المجرمين بلا عقاب وتقف ضد ضحاياهم ؟
من المؤلم ان العراق تعرض ويتعرض الى سلسلة من الجرائم الارهابية من تنظيم القاعدة الاجرامي وبقايا حزب البعث المدعومة من اطراف خارجية ايضا ولا يمكن السكوت على هذه الجرائم وهو امر غير مقبول من جميع النواحي ولا يجوز من الناحية الدستورية والقانونية العفو عن هؤلاء الارهابيين ولا الصلح معهم مطلقا ولا تسقط جرائمهم بمرور الزمان ولا يجوز منحهم حق اللجوء . ويجوز لكل دولة ان تحاكم المتهم بجرائم الارهاب حسب الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها دول العالم ومنها العراق , فجرائم الارهاب هي من صنف الجرائم الدولية وليست جرائم محلية .
كما نستطيع القول وبكل صراحة ووضوح بعدم جواز استخدام الحكومة العراقية ( ملفات الفساد او الارهاب او التلويح بها ) كوسيلة في قمع المعارضة او الخصوم السياسيين وليس من مصلحة الحكومة الحالية القيام بذلك كما نعتقد ان , لا ديمقراطية بلا معارضة , ولا ديمقراطية بلا تداول سلمي للسلطة ولن تدوم السلطة لشخص ما في العراق مهما كانت قوته بعد الكوارث التي حصلت في العراق منذ تاسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى الان .
نحن لا ننكر التجاوزات والفساد وانتهاكات حقوق الانسان في السجون العراقية وهي اعمال مؤسفة وغير مشروعة ويجب محاسبة كل شخص يرتكب هذه الافعال الاجرامية وفقا للقانون فضلا عن ضرورة احترام المعايير الدولية لحقوق السجين او المعتقل . كما نعتقد ان السلطة التنفيذية الاتحادية ارتكبت اخطاء كبيرة سواء على مستوى مكافحة الفساد ام ملاحقة المتورطين به ام معالجة المشكلات الجوهرية التي تعصف بالبلاد والعباد وهي كثيرة وخطيرة ومعروفة .
ومع ذلك نعتقد ان هناك توظيفا سياسيا لهذه المواضيع ضد الحكومة الحالية التي فشلت فشلا ذريعا في حل العديد من الملفات المهمة لضمان السلام والاستقرار , وعلى الحكومة العراقية ان لا تتهاون ابدا في معاقبة اي شخص او مسؤول ينتهك حقوق الانسان في السجون ويجب خضوع السجون للمراقبة الدائمة من منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان وللرقابة الدولية ايضا , واما اعداد السجينات فان وزارة العدل هي المسؤولة عن هذا الملف . ووفقا لتصريح وزير العدل في الحكومة الاتحادية فان العدد كان – قبل اطلاق سراح العشرات منهن – بحدود 900 سجينة محكوم عليهن بجرائم مختلفة وقد نقل العديد منهن الى سجون محافظاتهن وحسب مناطق السكن لكل واحدة منهن تلبية لطلب المتظاهرين ايضا .
اما عن قانون المساءلة والعدالة فهو قانون مشروع ينسجم مع نص المادة 7 من الدستور العراقي وتشير تجارب العالم الى ما يماثل هذا القانون في المانيا ودول اوربية اخرى بالنسبة للنازية والفكر النازي وكذلك في ليبيا ومصر بعد سقوط نظام مبارك من خلال صدور ( قانون العزل السياسي ) . والغاية من قانون المساءلة والعدالة ان بقايا اتباع النظام السابق والبعثيين ورموز نظام صدام لا يجوز لهم العمل السياسي ولا تولي المناصب في الدولة ولا شغل الوظائف الاخرى بسبب الفكر العنصري المتطرف لحزب البعث وما اصاب العراق والمنطقة من ويلات وكوارث نتيجة هذا الفكر والسياسة الفاشلة والمدمرة للحزب لاسيما وان هناك ( ملايين من العراقيين ) من ضحايا نظام صدام لم يجر تعويضهم عن الاضرار التي اصابتهم من النظام الدكتاتوري المقبور وما تزال معاناتهم مستمرة حتى الان .
وتحت ضغط التظاهرات والاعتصامات سالفة الذكر اقدمت الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة على خطوات تثير الحيرة والاستغراب ومنها مثلا ما صرح به بختيار عمر القاضي نائب رئيس هيئة المساءلة والعدالة المعنية بتنفيذ اجراءات اجتثاث حزب البعث المنحل عن انجاز طلبات الاف البعثيين السابقين بالاحالة على التقاعد ورفع الحجز عن عقاراتهم فقد ذكر لوسائل الاعلام يوم 22 اذار 2013 مايلي :
« أحلنا 93 الف بعثي الى التقاعد خلال الشهرين الماضيين ، ومن بين هؤلاء من كان من اعضاء الفروع وفي الجوانب الاخرى المتعلقة بحجز الاراضي رفعنا الحجز عن قطة ارض واحدة لكل شخص لغرض التصرف بها».
والسؤال هنا هل تم انصاف ضحايا حروب صدام العبثية في كوردستان وفي الوسط والجنوب لكي يجري مكافأة هؤلاء ؟ وهل من الانصاف ان تصدر مثل هكذا قرارات بينما الكثير من العراقيين لم يجر انصافهم واعادة حقوقهم الوظيفية والمالية وحقوقهم المدنية وغيرها من الحقوق التي سلبها النظام السابق بدون سبب مشروع؟
ان بعض الاطراف المشاركة في الاعتصامات والتظاهرات والداعين للتمرد والعصيان هم من تنظيم القاعدة الاجرامي وما يسمى باتباع دولة العراق الاسلامية ومن بقايا النظام المقبور بدليل انتشار اعلام القاعدة والنظام السابق بين المتظاهرين والشعارات التي ترفع منهم ضد العملية السياسية والدستور العراقي النافذ .
لذلك فان أي تغيير للحكومة الحالية يجب ان يكون بطريق دستوري ومن خلال التداول السلمي للسلطة ولا يجوز ممارسة طرق اخرى تكرس العنف وتلوح بالقوة والزحف على بغداد لتغيير النظام , كما يجب محاسبة كل من ينادي او يروج للفكر الطائفي او النعرات التي تمزق النسيج الاجتماعي سواء من خلال الشعارات او الدعوات الاعلامية في قطع مياه الفرات عن الشيعة ووصفهم بالصفويين والتي ينادي بها الدكتور طه المشهداني او برفع شعارات تمنع دخول الانبار من اي شخص يحمل اسم عبد الزهرة او عبد الحسين او غيرهم من الشيعة وهي دعوات ينادي بها الارهابي سعيد اللافي من على منصة التظاهرات في الانبار وهو اسلوب غير حضاري ولم يعد مقبولا وهو مخالف للدستور والقوانين النافذه ويجب المحاسبة عنها وفقا لقانون العقوبات العراقي النافذ رقم 111 لسنة 1969 المعدل ( المادة 200 ).
مقالات اخرى للكاتب