..... تعرضت بلدان الشرق الاوسط قاطبة الى ظاهرة المد الديني المتطرف مظهرا وليس جوهرا منذ الثمانينيات...فكان ان ازدحمت المدن بالمعالم والاشارات المرتبطة بالدين والتي قام بتشجيعها بعض التيارات السياسية والاقتصادية المجهولة.... كان من المتوقع ان يتعرض اقليم كوردستان الى تلك الظاهرة ايضا لكونه يتوسط الوطن العربي بالرغم من الاختلافات الاثنية والثقافية الواضحة بين الشعب الكردي والشعوب العربية قاطبة..
عند النظرة الأولى لمجتمع السليمانية لاترى تلك المعالم الدينية المبالغ بها والتي تعودنا عليها في الاقليم الجنوبي...فلا توجد لافتات حمراء وخضراء...سوداء او بيضاء تنتشر في شوارع المدينة...وحتى المحال التجارية فهي تحمل في الغالب اسماء اصحابها او اسم السلع التي تحتويها...بينما تعودت في الجنوب على الأسماء الدينية الرنانة والتي توحي اليك بثواني عن الخلفية العرقية لصاحب المحل.... كما ان المساجد تنتشر بهدوء بين المنازل...وتصدح مكبرات الصوت بالأذان وهو يرفع بجلال خمس مرات في اليوم...وطبعا هذا اختلاف جوهري عما يحدث في باقي المحافظات من الصراخ خلال مكبرات الصوت في المساجد والحسينيات طوال الليل والنهار ولكأن الاعلى صوتا هو الأكثر غلبة....
تنتشر النساء اللاتي يرتدين الحجاب في السليمانية بنسبة 40% تقريبا....ويختلف مدى إلتزامهن بقواعد الزي الاسلامي حسب درجة تدين عوائلهن..ولكن الجميل في الأمر هو التعايش الرائع بين المححبات وغير المحجبات في المدينة.. فلا يوجد ذلك التزمت والتحزب في صفوف المحجبات تجاه غير المحجبات..بل من الممكن ان تنشأ بينهن اروع الصداقات والعلاقات الانسانية ذلك لان الفتاة المحجبة ترتدي زيها عن قناعة تامة بالأهداف والواجبات التي دفعتها لأرتدائه ...ولهذا فليس هناك من داع لمعاملة غير المحجبة بالحقد الذي تشعر فيه من اجبرت على ارتداء الحجاب بسبب ظروف وظغوط مجتمعية..ومن الاعتيادي جدا رؤية إمرأة ترتدي الزي الاسلامي المتكامل تمشي في السوق مع اخرى ذات طراز اوربي مثلا.
القصد من كل ماسبق من كلامي إن المجتمع الكردي لاينظر للتدين نظرة مظهرية محدودة الافق بل يتوسعها الى تأمل جوهري عميق فأصحاب المحال يميلون احيانا للاستماع الى القرأن الكريم في محالهم...ولكن بصوت معتدل لا يتعارض مع الاغاني الحديثة التي يستمع اليها جارهم.. فالدين في كوردستان دين قلوب وليس مظاهر.....وتلمس تعاليم الدين الاسلامي جلية في تعاملاتهم....فلا يوجد غش في الميزان...ولاخداع في التجارة....ولامغالاة في الاسعار ...ولا استغلال للمواقف....اليس هذا هو الاسلام حقا... ؟ ام إطلاق اللحى وزيادة مكبرات الصوت والزعيق هو الاسلام....
في يوم الجمعة....تخلو الشوارع من السيارات والمحال من الباعة بينما تزدحم السيارات والسابلة امام المساجد لتأدية الصلاة...ومن الافضل ان لاتحاول المرور بسيارتك امام مسجد في ظهيرة الجمعة لان الشارع سيكون مغلقا حتما..... فصاحب التكسي الذي يقل طوال يومه فتيات غير محجبات..يذهب الى الصلاة في مواقيتها دون ان يتعرض بكلمة الى زبائنه معتبرا ان مايرتدينه حرية شخصية ...وكذلك صاحب المحل التجاري....والاستاذ الجامعي..... لم اشاهد اي مظهر من مظاهر التطرف عند اي من الطرفين المتدينين ولا العلمانيين...حيث يتقبل كل الاخر من منطلق الحكمة القائلة......"من انا كي احكم عليك"...
هذا هو جوهر الدين....."السلام".....فكل الاديان على اختلافها سواء اكانت رسائل سماوية ام تعاليم وضعية...الهدف منها هو السلام.... السلام بين الروح والجسد.....بين الكائنات والطبيعة....بين المخلوقات والخالق......
فلو ادرك كل المتناحرين اليوم هذه الحقيقة وتعلموا من اهالي السليمانية معنى حب الاخر وتقبله..لتوقف نزيف الدم في بلدي
مقالات اخرى للكاتب