عندما اسقط مجلس النواب العراقي المادة (50) من قانون الانتخابات، في المرة الماضية، والمتعلقة بـ (كوتة) الاقليات، شاركت في تظاهرة دعت اليها عدة منظمات حقوقية عراقية في ولاية ميشيغن الاميركية.
وقتها القيت كلمة بالمشاركين، بناء على طلب من منظمي التظاهرة، قلت فيها ما نصه:
ان هويتي (مسلم شيعي عربي عراقي) ولكنني منذ هذه اللحظة اعلن امامكم بان هويتي الجديدة (كلداني آشوري) حتى يقرر مجلس النواب اعادة المادة (50) الى قانون الانتخابات لاطمئن على حقوق الاقليات، وانها مصانة بلا تجاوز او سحق او الغاء.
لم اكن وقتها امزح او اجامل احدا، كما انني لم اكن ادافع عن الاقليات بقدر دفاعي عن نفسي كمواطن عراقي، لان من يتجرأ على حقوق الاخر سيتجرا يوما على حقوقي، لانني اعتقد بان من يريد ان يصون حقوقه من الضياع فان عليه اولا ان يصون حقوق الاخرين من الضياع، فالحق واحد لا يقبل القسمة ابدا، فاما ان يتمتع كل العراقيين بحقوقهم، او لا يتمتع بها احد، بغض النظر عن الاقلية والاغلبية، فالحقوق لا تسقط عن احد كونه من الاقلية مثلا، او انه يجب ان يتمتع بحقوقه لانه من الاغلبية ابدا، فهذا كلام هراء، لا ينبغي ان يتبناه عاقل، ولذلك وصف الله تعالى واحد فقط بانه سيعض يده يوم القيامة ندما الا وهو (الظالم) كما في قوله تعالى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ}.
اذا اراد احدنا يوما ان يدفع الظلم عن نفسه، فان عليه ان يدفعه عن الاخرين، وهذه القاعدة هي التي يجب ان تسود ثقافتنا في العراق الجديد، وعندها فسوف لن تهدر حقوق احد من المواطنين، كما اننا سندفع الظلم بها عن انفسنا وعن الاخرين.
واليوم، فعندما اثرت شخصيا الراي العام على موظف يعمل في سفارة جمهورية العراق في الرياض، حاول لي عنق الحقيقة المتعلقة بشريحة من شرائح المجتمع العراقي، لم انطلق بهذا الموقف من كونه مس هويتي الشخصية، ابدا، وانما لانه تجاور على ثابت وطني هو الاساس في تحديد حقوق المواطنة، وكذلك في تحديد معنى الظلم الذي يتعرض له المواطن، بغض النظر عن هويته واتجاهاته ومتبنياته، ولو ان العراقيين يتعاملون مع الظلم كمفردة عامة، لسادت ثقافة التكافل الاجتماعي باوسع واسمى صورها ومعانيها، الا ان الاغلبية، وللاسف الشديد، تتعامل مع هذه المفردة بحدودها الخاصة، ولذلك ترى احدنا يصرخ بكل ما اوتي من قوة اذا ما تعرض هو لظلم ومن اي نوع كان، اما اذا تعرض آخر للظلم فتراه لا ينبس ببنت شفة، فلا يتذكر الا قول الله تعالى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فتراه لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، ولهذا السبب فان الظلم عندنا على انواع، كما ان الحقوق عندنا على انواع، ظلم محمود وظلم ممقوت.
ولقد اثبتت (حادثة) الموظف الموما اليه ان العراقيين لا زالوا ينقسمون على انفسهم فيما يخص الظلم والتجاوز على الحقوق، فبينما كان من الواجب على كل العراقيين وبلا استثناء ادانة المشار اليه والانخراط في الحملة الواسعة التي اثارتها شريحة من العراقيين، والتي شعرت بالظلم المباشر من تصريحات الموما اليه، ضده، راينا كيف ان البعض تلفع بصمت اهل القبور وكانه لم يسمع شيئا، ليس على المستوى الشعبي فحسب وانما على المستوى الرسمي كذلك، سواء الحكومة او مجلس النواب، وهذا مؤشر خطير يدل على مدى تشبعنا، كعراقيين، بالعنصرية والطائفية.
على كل حال، فهذا امر ساتحدث عنه في مقالات لاحقة، لان مثل هذا الواقع الثقافي المزري والمريض، يكرس الانقسام المجتمعي الذي يعد احد اسباب فشل الكثير من المجتمعات.
اما الذي اريد ان اسلط الضوء عليه من هذه (الحادثة) فهو موضوعة الراي العام، وكيف يمكن ان يكون قائدا، يؤثر في اتجاهات مؤسسات الدولة العراقية المختلفة.
ان طريقة تعامل العراقيين مع (الحادثة) والتي خلقت رايا عاما هادرا وكاسحا اجبر الحكومة العراقية على الاهتمام بالموضوع والتعامل معه بكل جدية، الى حد استدعاء الموما اليه، دلل على ما يلي:
اولا: يمكن للراي العام ان يفرض نفسه على مؤسسات الدولة اذا كان صلبا وقويا ومثابرا، اما اذا كان وقتيا وضعيفا فهو بالتاكيد لن يؤثر، وانما يكون مثله كمثل سحابة الصيف التي عن قريب تقشع.
ثانيا: وانما يكون الراي العام مؤثرا وقائدا ان كان (وطنيا) اي ينطلق من مفهوم المواطنة والوطن وليس من مفاهيم ضيقة كالدين والمذهب والاثنية وما اشبه، فالاول يحشد الشارع خلفه، ولو بعد حين، اما الثاني فلا يحشد الا طائفة دون غيرها من طوائف المجتمع.
لذلك، فان علينا من الان فصاعدا، ان نتعامل مع القضايا كامور تخص الوطن والمواطنة لتبقى متبنياتنا وطنية صرفة بعيدا عن كل انواع التمييز التي سببها احادية النظرة وضيق الافق والتخندق المحدود.
ثالثا: يخطئ من يتصور ان الراي العام عديم الطعم واللون والرائحة، على العكس فانه يمكن ان يغير ويبدل ويحول ويصلح، شريطة ان يعرف المجتمع كيف يتعامل معه بما يضمن له صناعة تيار قوي.
خذ مثلا على ذلك، فانه لم يكن باستطاعة الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام ان يصعد اعواد المنبر في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية في قصره بالشام لولا الراي العام الذي مارس ضغطا ملفتا للنظر اجبر الطاغية على السماح للامام بالحديث الى الراي العام وتوجيهه بما يفضح الطاغية وبني امية عموما، وبما يشرح لهم كل الحقائق التي تخص ثورة ابيه سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهم السلام.
ولا اريد ان استغرق كثيرا هنا في الحديث عن اثر الراي العام في قيادة اتجاهات السياسات العامة، الداخلية منها والخارجية، في البلاد الديمقراطية، فمتى سنتعلم كيف نتعامل مع الراي العام كقائد في المجتمع؟ متى سنترك عبارة (ميفيد) اي لا ينفع، والتي لم ار مجتمعا يرددها على لسانه كالمجتمع العراقي، فكلما طلبت شيئا من احدهم اجابك بالقول (ميفيد) وكان المجتمع برمته يؤمن بنظرية الجبر، اي ان الله تعالى خلق الامور على ما هي عليه في الواقع، فكيف تريد من المواطن العراقي ان يغير ويبدل ويصلح اذا كانت الامور تسير بما كتب لها رب العزة؟.
ما يلفت الانتباه هو ان كل الانبياء والرسل والمصلحين كانوا يواجهون بهذه العبارة كلما حاولوا التغيير، او على الاقل البدء به، فلقد حدثنا القران الكريم عن هذه الحالة بقوله {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} اما جواب المصلحين فيكون عادة {قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فان مجرد وجود نسبة من احتمال التاثير والتغيير، ولو قليلة، فان ذلك يكفي لتحمل المسؤولية، فما بالك اذا كانت نسبة الاحتمال كبيرة وكبيرة جدا؟.
تعالوا ايها العراقيون ننسى عبارة (ميفيد) ونحذفها من قاموس قوالب المفاهيم الخاطئة المعشعشة في اذهاننا، لنبدا في اشاعة ثقافة جديدة تعتمد صناعة الراي العام القائد والمؤثر في واقع المجتمع، وفي واقع الدولة ومؤسساتها المختلفة.
لماذا يصيبنا الياس بسرعة البرق، عند اول مواجهة؟ فيما يثابر عدونا بلا كلل او ملل؟ على الرغم من اننا على حق وهو على باطل؟ واننا المظلومون وهو الظالم؟.
اننا بحاجة الى التسلح بالمثابرة والديمومة ازاء كل ما نريد ان نصنع لصالحه او ضده رايا عاما قائدا، والا فان الكلمة والكلمتين، والمقال والمقالين، والخطبة والخطبتين لا تنفع في مثل هذا ابدا.
بقي ان انبه هنا الى امر في غاية الاهمية، الا هو: ان على المسؤولين ان يتعاملوا مع الراي العام بجدية فلا يتجاهلونه ابدا، فهو عامل مساعد على تصحيح الخطا، او على الاقل التنبيه اليه، ما يساهم في نجاحاتهم، وهو اذا تراكم بلا انتباه من المسؤول فسيتحول الى طوفان هادر في يوم من الايام، والحر تكفيه الاشارة.