قبل أيّ شيء، من البديهيّ أن تظهر بين فترة وأخرى، مؤشرات وطنية متجددة صادقة ونابعة عن وجدان مجروح لشريحة مواطنية تحتفظ بكل المحبة والوفاء والإخلاص للوطن، كي تدلي بدلوها في الأحداث، أيًا كانت. بل إنّ مثل هذه التسريبات أو الآراء أو الرؤى، مهما كانت مقاصدُها وحيثياتُها وتوجهاتُها، ضرورية من أجل تفاعل نسيج الوطن بجميع انتماءاته مع ما يحصل على الأرض. فما تتعرّض له البلاد وأهلوها عمومًا منذ عقود وخصوصًا بعد دراما 2003، من مهانة وقساوة واستخفافٍ باستحقاقات فردية وجماعية بحقّ شرائح أصيلة ووفية للأرض وتاريخها وتراثها، يقتضي من الأمناء والأصلاء وضع حدود لشتى مثل هذه التجاوزات الحاصلة من دون وازع ضمير، بسبب الرؤية القاصرة لمَن قادتهم مصالحُ الغزاة كي يحكموا ويتسلطوا ويفسدوا في الأرض. وإنّي أجد أنَّ مثل هذه الملاحظات أو الرؤى التي تصدر عن عقلاء، هي أساسًا من ضمن الحقوق المواطنية للشرائح المهمّشة، وليسَ منّةً أو عطفًا أو سمّي ما شئتَ من عبارات جارحة تنخس الضمير والوجدان وتزيد الحسرة بسبب عوادي الزمن الغادر وتسلّط فئاتٍ عاثت فسادًا في أرض العراق الطاهرة وسلبت ثرواته ظلمًا وحرمتْ أجيالَه القادمة من حصصها ومن حقّها في التمتّع بثرواته الوطنية، حتى قبل رؤيتِهم النور. هكذا يقول دستور العراق: ثروات الوطن، هي ملك الشعب وليس ملك الطغمات الحاكمة، التي جعلت ثرواته الغزيرة أسيرة بأيدي مصالحها الطائفية والكتلوية والحزبية!
والمواطن المسيحي مثل غيره من العراقيين، له أصالتُه في أرض الرافدين. بل أصولُه متجذّرة عبر آلاف السنين، كما يشاء البعض وصفه، منذ عهد سومر وبابل وأكد وآشور، مرورًا بحضارات كبيرة وكثيرة، سادت ثمّ بادت. ومن حظّ العراق، أنَّ تلك الأصالة لم تندثر، طالما وجد بين ظهرانينا مَن يحرسها ويحرص على تفعيلها وتجديد فاعليتها، بالرغم من كبر المشاكل وتأثير ما جرى ويجري على أيدي أدوات وأفرادٍ أغرابٍ لا يمتّون بصلة إلى الأرض التي سارت فوقها أقدامُ الأنبياء وباركها الأولياء وعمّذها القدّيسون والأصفياء والشهداء بدمائهم الزكية حبًا بالوطن وأهلِه الطيبين. ومن المؤسف أنَّ مَن يسوس البلاد والعباد هذه الأيام خالو الوفاض من شيء اسمُه الضمير والوفاء والتسامح والرحمة والمحبة والإرادة الطيبة للمصالحة وجبر المكسور بين الإخوة الأعداء.
كثيرًا ما يطرق أسماعَنا ويتكرّر كلامٌ معسول، بعضُه نابع من قلوبٍ عامرة بالمحبة والرغبة في الجيرة الطيبة، في الإشارة إلى سمة التجذّر والأصالة والطيبة التي يُنعت بها المسيحيون بصورة خاصة "أنتم الأصلاء في البلاد، ونحن ضيوفكم". وبالرغم من الإيمان المطلق بالعزاء والراحة والانتعاش التي تبدو على ملامح المسيحيين بفضل تباشير هذا الكلام الطيّب، فهو بالتالي، تعبير نابعٌ عن الرحمة وصفاء الأفق ونقاوة الروح حينما تسمو مثل هذه الكلمات بفعالها نحن الأجواء العليا الصافية الخالية من دنس الفكر الضيّق القذر، والرؤية المريضة في الحكم على الأشياء، بشرًا وحجرًا. ف "الكلمة الطيبة صدقة" بل و"رحمة" تُحدثُ فعلَها لدى السامع والمتلقّي وتشفي النفوس المتعبة، وتفتح أبوابًا للخير وتغلق أخرى للشرّ. ومن ثمَّ، فمفردة الرحمة، وما أدراك ما تعنيه هذه في القاموسين المسيحي والإسلامي على السواء حينما كان هذا الأخير يعيش بعدُ في أجواء المشورة النصرانية في مكّة، كريمةٌ في عطائها، أثيرةٌ في سموّها، أبيّةٌ في تطبيقها. ولأهمية هذه الفضيلة العليا، جاء إعلان بابا الفاتيكان، كي تكون سنة 2016، سنةً للرحمة وتصافي النيات وفرصة للمصالحة. ومن ثمة بالتالي، إنْ هي إلاّ دعوة ربّانية للتفكير والعيش بموجب مفاعيلها، وطنيًا ودينيًا وفكريًا واجتماعيًا، بل وحتى سياسيًا. ولما لا تكون كذلك في أجواء العراق المتلبدة، حينما تنقشع غيوم الدواعش قريبًا وتزول إلى الهاوية، وبئس المصير، لها ولكلّ مَن ساندَها وموّلَها ودعا لها وحشّدَ واقترفَ المنكرات باسمها وقتلَ ونكّلَ واختطفَ واغتصبَ وسبى وحزّ الرؤوس وهجّرَ ظلمًا وبهتانًا باسم الدّين؟
والرحمة، أولاً وآخرًا، هي الأخرى، أداة لبناء للإنسان والمجتمع والدولة على السواء من خلال روحية التفاهم العقلانيّ والحوار المتجدّد البعيد عن أية تأثيرات هرطوقية ومغالطات تطرّفية وتفسيرات متخلّفة عن الواقع والعصر في شدّة تشدّدها وبُعدها عن متطلبات الوعي والفكر والإدراك المعاصر والمتجدّد مع الزمان والمكان والرؤية. كما أنَّ مفردة الرحمة عظيمة في مدلولاتها، وهي الموازية لوصية المحبة التي أوصى بها المسيح أتباعَه والعالم كي يحفظوها ويطبقوها مثل السلسلة في أعناقهم، حتى في محبة الأعداء!
والرحمة، كما الصدقة والمحبة، سمات وفضائل متلازمة للبشر من أجل بنيان مجتمع صالحٍ متفاهم متعايشٍ تُطبق فيه كلّ معايير الإنسانية التي أرادها الله الخالق حينما خلق البشر متساوين، ذكرًا وأنثى، لينميا ويكثرا ويملآ الأرض ويأكلا مع ذراريهم من خيراتها. ومن ثمّ، فخيراتُ الأرض والأوطان، ليست ملكَ أحد ولا طابو مسجلّة بأسماء مَن يدّعون استملاكَها من دون وجه حق بشتى الوسائل والسبل.
والمؤمن الحقيقي، أيًا كان، لابدّ من وضع نصب عينيه التماهي مع هذه السمات والفضائل وغيرها مما يمكن أن يأتي من تفرّعاتها الطيبة، والتي يدعو لها الأبرار والأئمة الصالحون والطيبون من أبناء الله لدى عموم الأديان والملل والنحل. وهذه نفسُها، هي التي تقوده إلى الخلوة مع النفس والصلاة بالحوار مع الخالق، باعتبار هذه الأخيرة هي الزوادة الضرورية التي ترافقه عندما يبحث عن راحة الفكر والعقل والضمير في حضرة هذا الخالق الجبار، وعن الأمان الذي ينشدُه حينما يقصد الواحدُ بيوتَ الله، أكثر من أي مكان آخر. وهذه طبيعة الشرقيين، ونحن منهم في العراق، حيث نحنُّ إلى هذه الدور، كنائسَ ومساجدَ وجوامع وحسينيات ومعابد لمختلف الأديان والنحل، لنلقي بهمومنا وأثقالِنا وأتعابِنا عند أقدام الله الخالق، القادر على كلّ شيء، مالك الدنيا وما فيها وعليها، وفي حضرة الأنبياء والأئمة والقدّيسين، ونطلبَ الصفح والغفران من الله الطيّب خالق هذا الكون العجيب، ونسألُه الرحمة ببني البشر والسلام في الأرض التي دنّسها الإرهاب وأشكال الفساد بسبب نزوات وخطايا الحكّام الأثمة الذين يزوّرون مشيئته الأبوية ويلوون أعناق الأبرياء كثيرًا باسم الدّين والمذهب والطائفة. حتّى السياسيّون عندما تَسْودُّ الدنيا في وجوههم ويفقدون بوصلة الراحة الفكرية والنفسية المتزنة، نراهم يتراكضون نحو مصادر الدّين ومراجعه، تودّدًا وطلبًا لما يرضي أنفسَهم وقناعاتهم. فبالرغم من إيغالهم في الشرّ والفساد وهموم الدنيا الكثيرة، من سلطة زائلة وجاه باطل ومالٍ آيل، يتوقون لأن يكونوا أفضلَ. ولكنَّ النفسَ البشرية أمّارةٌ بالسوء! فمّن تربّى على الشرّ وفتاتِه وترّهاتِه، لا يمكن أن يعدلَ به الزمن. فهيهاتِ أن ينال أمثال هذه الفئات الاستغلاليّة، خاوية الضمير والأخلاق، راحةَ البال والنفس تكليلاً لفعالهم الخبيثة ومحاولاتهم الماكرة في كسب ودّ المراجع الصادقة الأمينة على الدّين والأرض والبلاد والعباد! فقد تكرّر انزعاجُ هذه المراجع ممّا جرى ويجري، بل بحّ صوتُها من النصح والإشارة والتأنيب مرارًا وتكرارًا!
ما سبق أعلاه، وغيرُه ممّا لا يمكن المرورُ عليه عجالةً، خيرُ إشارة على عدم إمكانية فصل المجتمع المتديّن تقليديًا، مثل حالة العراق، عن شؤون السياسة والفكر والاقتصاد. فهو مختبر حقيقيٌّ ومثاليٌّ للأديان والطوائف والملل والنحل بمجمل جماعاتِه. بل إنّ الوطن بتنوّعه الخلاّق هذا، دينيًا وإتنيًا، لهو خيرُ فأل لحياة أفضل، وأعظمُ غنى بقيمِه العليا الكثيرة التي ترتبط أواصرُها بجميع أبنائِه الطيبين. ففي هذه الأرض، التحمت عناصر التاريخ والجغرافية والدّين وترابطت معًا لتشكل فسيفساءً قلّ نظيرُها في دول ومجتمعات أخرى. وممّا زادها عنفوانًا وجمالاً وأصالة في الحضارة والتراث والتنوّع، بل وفي الفكر والرؤى التي أخذت في النضوج، هو استعداد نسيجها الاجتماعي للتآلف والعيش المشترك بعيدًا عن متاهات الساسة الجهلاء قاصري النظر، وأصحاب العقول المريضة، والمرائين من مرتادي "المساجد الديمقراطية" و"دور العبادة المزركشة" لأجل التباهي والتظاهر وممارسة طقوس مظهرية لا تغني ولا تسمّن، أو في تمرير خرزات السبح أينما حلّوا وارتحلوا بكلّ أنواعها وألوانها.
فيما تُؤشّرُ على المسيحي بالذات، سماتٌ متميزة ومتفرّدة في العيش والأداء والعمل والسلوك، أنا لا أدّعي توريدها، إنّما نستقيها جميعًا من عمق الحياة ومن خبرتها اليومية المعاشة. أسلوب المسيحي في الحياة، بل برنامجُه اليومي، يستقيه من وحي تعليمات معلّمه "المسيح"، أي في ضوء وحي الإنجيل وتعاليمه التسامحية التي تضع سمات "المحبة، والصفح، والعفو، والتواضع والعبادة الصادقة" ضمن الموجبات. كما أنّ البشارة الإنجيلية توصي بوحدة الجماعة ضمن المجتمع الواحد الذي تتواجد فيه. بمعنى أنّ الحياة، لا تقتصر على ما يؤمن ويعتقد به المسيحي ضمن كنيسته وجماعته وملّته، بل تشمل حياتَه في وسط المجتمع الشامل، أي أنها تطال الوضع السياسيّ والاقتصادي والعلمي والفكري على السواء. وقد اتضحت الصورة الأخيرة في امتحان المسيح من قبل حاسديه والمغرضين من قوم الهيرودسيين والفريسيّين عندما أفحَمَهُم بالقول" أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ" (انجيل مرقس 12:12-17). وبهذا الكلام أسكتهم ولم تنجح حيلُهم. وهذه الحادثة، تبشّر بدعوة رصينة وجادّة لاحترام الواجبات الوطنية التي تُعدّ من المقدَّسات في احترام السلطات المدنية، على ألاّ تتناقض وتتخالف مع واجبات الخضوع للّه. وهذا ما نقرأه في تعاليم إسلامية رصينة أيضًا، "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وهذا من الدلائل على ضرورة رفض الفساد ومحاسبة الفاسدين ومَن يعيثون في الأرض استخفافًا واستهتارًا بحقوق العباد. والمسيحي، شانُه شأن أصحاب الأفكار النيّرة من المعتدلين والجادّين في رصد ما يغيض الخالق ويخرج عن الصواب في هداية البشرية ورفاهة المجتمعات وفي ضمان مصالحها في إطار الحق والعدل، وفقًا لما توصي به الأديان المعروفة منذ القدم في هذه الأرض الطيبة. وهذه الآصرة المشتركة بين الشعوب والمجتمعات على أرض الرافدين الخالدين، لابدّ لها من التغيير والتجديد والتفاعل في تفاصيل أحكام أديانها وقوانينها ونظمها طبقا لما تشهده البشرية في هذا العصر من أنواع التطور في الفكر والإدراك ونوع الثقافة، وبالاستناد إلى طبيعة ما مرّت به حضاراتها وتشابكًها مع المعنويات والمستجدّات والماديات، ومع مشاكل هذه جميعًا وتعقيداتها.
أخيرًا، وليسَ آخرًا، فالأديان التي عرفتها المنطقة وبلاد الرافدين، تنجلي تجلياتُها في مسألة مهمة ذات قيمة كبرى، وهي إسعاد البشرية في العيش الكريم، كما في تفويض الحكم وفي أدوات التقنين، عبر احترام جميع المواطنين وفق معيارية المواطنية وما تمليه هذه من واجبات الولاء للوطن والأرض، بشرًا وحجرًا، حتى لو كان فيه اختلافٌ في الفكر واللون والعرق والعقيدة عن طبيعة الحاكم أو الأغلبية العامّة الحاكمة. وهنا يأتي دور العقلاء في وضع موازين وضوابط وطنية تعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه، من دون المساس بأوجه الاختلاف المقصودة بين أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد. فالمسيحية ترى في عقيدتها وفي تعاليمها لأتباعها أنها بشرى الفرح للجميع، الذين يستحقون صفة الأخوة مع بعضهم والبنوّة لله الخالق "أنتم جميعُكم إخوة" (انجيل متى 23:8)، يقول المسيح مخاطبًا الجموع والتلاميذ الذين كانوا احتشدوا لسماع كلامه. وبهذا الحديث، يكون المسيح قد شملَ الناسَ، وكلَّ العالم بهذه البشرى الطيبة، في أن يكونوا "جماعة واحدة"، كلّ حسب إيمانه وقناعته من دون استعلاءٍ أو تكبّر أو سموّ الواحد على الآخر، إلاّ بطيب الأعمال الصالحة ونقاوة القلوب وطهارة النيات. فالله هو الذي يحاسب البشر خليقته، ولمْ يخوّل قط أحدًا بذلك، لأنه ليسَ فيه قصورٌ ولا نقصٌ كي يفعلَ هذا. فهو قد أتى بتعاليمه خالية من ثنائية التناقض في المغزى والهدف، "أتيتُ لكي تكون الحياة للناس وبوفرة" (إنجيل يوحنا 10:10)، من دون الدخول في تحديدات للهدف في الحياة.
وفي ضوء هذا الكلام الواضح، يتطلّبَ من المراجع المسيحية أن يكون لها موقفُها في شؤون الحياة الكثيرة ومنها السياسية أيضًا. فما جرى منذ 2003، وما بعد التهجير في 2014 بسبب استقدام داعش وفكره الإرهابي، وما يحصل اليوم على الساحة السياسية العراقية، لم يكن ليتحمّل السكوت، انطلاقًا من كون الرعايا من مسؤولية الرؤساء والحكّام. ولا يمكن استثناء الرئاسات المسيحية من هذه المسؤولية الكبيرة. فقد تحمّلت مراجعها مسؤولية الدفاع عن كلّ أشكال المظلومية التي طالت مواطنين عراقيين، وليسَ ما ضربَ ابناءَها وأتباعَها في الأعماق، فحسب. كما أنّ تهجير أكثر من 120 ألف مواطن عراقيّ مسيحيّ من مناطق سكناهم التاريخية في سهل نينوى في 2014، لم يكن بالأمر الهيّن، حينما لم تتمكن السلطات العراقية من معالجة الحاجة والعوز والفاقة والمشاكل المترتبة على ذلك، لأسباب عديدة، لا نودّ التطرّق إلى مجملها. بل كان دور الرعاة المسيحيين ورؤساء الكنائس بمختلف طوائفهم، على قدرٍ عالٍ من المسؤولية، بالرغم ممّا شابَ بعض فقرات المساعدات والبرامج من إشكاليات وشجون ومخالفات شخصية من بعض ضعاف النفوس.
واليوم، المصيبةُ ماتزال قائمة ونزيفُ الهجرة ما يزال ساخنًا والأمل بالعودة إلى الوطن والبلدة والقرية والبيت ما يزال يشوبه الضبابية، وسط توقعات كبيرة وصريحة باحتمال نشوب صراعاتٍ ما بعد التحرير، بين الإخوة الأعداء هواة السلطة والجاه والمال، بين طرفين متصارعين على الأرض والبشر، بين حكومة المركز الضعيفة المنهكة بهواجسها ومشاكلها وفسادها، وحكومة الإقليم التي تنزع لفرض سطوتها وأجندة أحزابها بشتى السبل والطرق والمحاولات، خارجًا عن المألوف. نأمل أن تأخذ المراجع المسيحية دورها في التصدّي لأية محاولات تسعى لاستغلال المواقف، أيًا كانت الجهة صاحبة المسعى. فقد أن أوان النطق بضرورة المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية والسعي لها بكلّ الوسائل المتاحة، والتأكيد على مبدأ المساواة في المواطنية، حقوقًا وواجبات ومصيرًا، كونها الضمانة الحقيقية لبناء الأوطان وتعزيز نسيج المجتمعات وترسيخ السلم الأهلي فيما بينها، بعيدًا عن عورات الطائفية التي نخرت المجتمع العراقي بتشجيع من الغزاة قساة الرقاب، وبوتيرة لا تعرف الشبع والنهم من جانب ضعاف النفوس من سياسيّينا المراهقين والموغلين في الفساد وفي نهب المال العامّ.
وإلى ذلك اليوم الذي تتطهّر فيه أرض العراق وتتحرّر المدن والقرى والبلدات المسلوبة من سلطة داعش الإرهابي المتطرّف، نقول: نعم لتشكيل مرجعية سياسية مسيحية وطنية عراقية مستقلّة تتولى إلى جانب الرئاسات المسيحية الروحية ومثيلاتها في الأديان الأخرى، متابعة حقوق أتباع جماعاتهم والمساهمة الفاعلة في تعزيز المصالحة الوطنية في عموم البلاد ومن دون استثناء إلاّ فيمن تلوثت أياديهم بدماء الأبرياء، وترسيخ القيم الإنسانية والوطنية التي تبني الأوطان وتُصلح الأرض وتعمّر المدن وتنمّي الثروات وتمدّ الجسور مع أبناء الوطن كافة. فلأجل الوصول إلى هدف إعادة بناء الإنسان العراقي من جديد بموجب القيم التي عهدها نسيجُه الاجتماعي، ومن أجل بناء الدولة العراقية على أساسٍ مؤسساتيّ صحيح، لابدّ من الإقرار بإقامة دولة مدنية ديمقراطية يسودها دستور مدنيّ وطنيّ غير منحاز، يحفظ حقوق الجميع في القوانين التي تسنها سلطة تشريعية رصينة غير متحزبة أو طائفية، تفكّر بعقلانية ووفق مبادئ عابرة لهوس الطائفية والحزبية والعرقية المعمول به لغاية الساعة. وهذا هو السبيل الأسلم للحفاظ على التعددية والتنوع عندما تُحفظ كرامة المواطن من أيّ دين أو طائفة أو ملّة أو عرقٍ، تحقيقًا لميثاق الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وإعلاءً للسمة الإنسانية العليا.
مقالات اخرى للكاتب