من أحد مظاهر الدولة الفاشلة في العراق هو عدم قدرتها على تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وعجزها عن تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، فما بالك في العراق، حيث يضاف إلى ذلك شحّ المشاركة السياسية الحقيقية باستمرار الظاهرة الطائفية، وكذلك عدم التمكّن من إنجاز المصالحة الوطنية الحقيقية، الأمر الذي أدّى إلى انحدارها تدريجياً من الدولة الفاشلة إلى الدولة الرخوة والكيان الهش المعرّض للتفتت.
نقول إن العراق دولة رخوة وكيان هش، بل وبدأ يتحلّل بشكل خاص منذ الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 حيث بدأت بعض الإرهاصات الطائفية تأخذ طريقها إلى الممارسة السياسية بتهجير عشرات الآلاف من العوائل العراقية إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية وضعف الولاء للدولة العراقية، وزاد تدهور الدولة بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 وحرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991 وقاد الأمر إلى ضعف الشعور بالمواطنة وارتفعت موجات التمييز، وتدريجياً بدأت الدولة بالتراجع، حتى أن إقليم كردستان أصبح خارج سيطرتها منذ أواخر العام 1991 ثم وقع العراق تحت الاحتلال في العام 2003 في حرب محسومة النتائج سلفاً، وبعد حصار دولي دمّر النسيج المجتمعي العراقي دام نحو 13 عاماً، خصوصاً وأن دخول العراق في حروب لا معنى لها قد أضعف من مكانة الدولة العراقية، ولاسيّما بعد غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990.
ولا يقلّ العجز السياسي عن العجز الاقتصادي، بل إن كليهما يثبت هشاشة ورخاوة وعجز الدولة، ذلك أن عدم التمكّن من تحقيق الاستقلال الوطني، قاد إلى عدم التمكّن من تحقيق الاستقلال الاقتصادي في ظلّ تخبّطات عرفتها الدولة وسياساتها المالية والاقتصادية وغياب الحوكمة، وقد ارتبط العجز في مجال التنمية وتدهور مستوى الخدمات إلى عجز مماثل في ميدان العدالة، اجتماعياً وقانونياً، مدنياً ودينياً، وبسبب ذلك أيضاً تعرّض مسيحيون وإيزيديون وصابئة وأبناء طوائف أخرى إلى سلسلة من عمليات القمع والإرهاب والتنكيل وغير ذلك.
وجعل العجز في الحقول الثلاثة، الدولة العراقية قابلة للاختراق من الخارج، مثلما عرّض المجتمع العراقي والمواطن العراقي إلى امتحانات شديدة القسوة بسبب ذلك، خصوصاً بضعف الحصانة وشعور فئات واسعة من السكان بالتمييز والتهميش ، والأمر له علاقة بغياب المشاركة السياسية الضرورية وتسلّط نخب تجهل آليات عمل الدولة وأجهزتها، فضلاً عن انخراطها في عمليات الفساد المالي والإداري.
لا يمكننا فقط التركيز على الوضع الذي وصلت إليه البلاد على العامل الدولي ونقصد بذلك الاحتلال، وإنْ كان أساسياً، لكن العامل الإقليمي مهم جداً بوضع مثل العراق، فلإيران مشروعها السياسي القومي المذهبي الآيديولوجي، ولتركيا مشروعها السياسي القومي المذهبي الآيديولوجي، أما العراق فقد انقسم إلى طوائف وإثنيات وكتل وجماعات متناحرة متضاربة لا يجمعها جامع يمثّل الحد الآن من الانتماء إلى الوطن وإلى حمل صفة المواطنة، وقد يكون مناسباً في هذا المقام استعادة مذكّرة الملك فيصل الأول العام 1933? بخصوص غياب المواطنة العراقية، وذلك بعد أكثر من 12 عاماً على حكم البلاد، التي وجدها مقسّمة طائفياً وإثنياً بين مللٍ ونحلٍ وطوائف وعشائر لا يجمعها جامع.إن عدم وجود مشروع عراقي موحّد أو مشروع عربي جامع للعب دور توازن مع المشروعين الإيراني والتركي، إضافة إلى المشروع الصهيوني الذي له يد طويلة في الامتداد والاختراق، ولعب دور التنفير والتوتير بين دول المنطقة وشعوبها ولدى كل دولة في الوقت نفسه، أقول أن غياب هذا المشروع يعني أن العراق الذي نعرفه قد يتعرّض كيانه للتفتيت أو للتجزئة، وذلك سيناريو محتمل بسبب استفحال الأزمة وإمكانية تفاقمها في المستقبل لأسباب داخلية أو خارجية. وإذا ما تحقّق مثل هذا السيناريو فسيكون أول المسلسل للدول العربية، فقد تلحقه سوريا واليمن وليبيا، وهناك إشارات إلى بعض دول الخليج، خصوصاً في ظل التداخل الإقليمي.
إن التحدّيات التي تواجه استمرار العراق كدولة قائمة هي:
1 – تحدّيات سياسية خارجية، إضافة إلى تحدّيات اقتصادية دولية بسبب شروط التبادل التجاري واستيراد الغذاء وانخفاض أسعار النفط واستيراد السلاح والمديونية، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر خضوعاً للهيمنة الخارجية، وخصوصاً في ظل وجود النفط، وذلك يطرح تحدّيات جيوسياسية من خلال روابط التبعية، ولا تأتي هذه فقط من الغرب الإمبريالي، بل من إيران وتركيا و”إسرائيل”، سواء باستخدام القوة العسكرية أم لاقتطاع الأراضي، أو لإجبار العراق على توقيع اتفاقيات “سلام” استسلامية مع “إسرائيل” وإنهاء كل علاقة بقضية العرب المركزية ” فلسطين” وفتح أسواقها للصناعات والتكنولوجيا “الإسرائيلية”، وكذلك لإحداث المزيد من التصدّع داخل المجتمع العراقي.
2- تحدّيات داخلية، وأولها وأهمها وأخطرها هو الاحتراب الطائفي المعلن والمستتر، وهيمنة الطائفية السياسية على مقاليد الدولة وأجهزتها وممارستها للتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني. يضاف ذلك عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي، ولاسيّما وإن مشاكل الإثنيات والأديان والطوائف أخذت بالظهور على نحو شديد بعد الاحتلال، أما بسبب كبت طويل الأمد واضطهاد وعدم مساواة، أو بسبب رغبة في التعبير عن هوّية فرعية وخصوصية جرى طمسها أو تغييبها خلال مسار الدولة العراقية. والمسألة تتعلّق بالكرد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان كتعبيرات قومية وإثنية، وبالأديان مثل المسيحية والإيزيدية والصابئة وغيرهم، وفي إطار الأديان بما فيه الإسلام والمسيحية وطوائفهما، وبالطبع فإن نهج الاستعلاء والإقصاء والتهميش الذي عانت منه هذه المجموعات الثقافية على مرور تاريخ الدولة العراقية دفعها للتعبير عن نفسها وهوّيتها الفرعية وفي بعض الأحيان بانغلاقها وضيق أفقها بسبب ما عانت منه.
وتبقى المسألة الأساسية هي التحدّي الطائفي المحتدم والمصحوب بالكثير من عناصر الكراهية والحقد والبغضاء، لاسيّما التي يقوم أمراء الطوائف والمستفيدون من الانشطار الطائفي بتغذيتها، ولاسيّما علاقة الشيعة بالسنّة، حيث أدى هذا الإنقسام إلى احترابات وتكفير خصوصاً، وإن دعاة الطائفية هم في الغالب الأعم ” طائفيون بلا دين” على حد تعبير عالم الاجتماع علي الوردي واستخدموا الطوائف بما يسيء إلى الدين، بتقديم ذلك على مبادئ الوطنية والمواطنة، وليس ذلك بعيداً عن التداخل الخارجي الإقليمي والدولي.
إن التحدّي الديني وفروعه الطائفية قاد إلى موجات مختلفة من التعصّب والتطرّف والإرهاب والعنف، وانتشار ما سمي بالحركات الأصولية ” الإرهابية” سواء اتخذت اسم جماعات القاعدة أو جبهة النصرة أو داعش أو جماعات مسلحة خارج دائرة القانون سنّية أو شيعية، ولاحظنا كيف اهترأت دولة مثل العراق واقتطع جزء عزيز منها هو الموصل، بكل تلك الخفّة واللاّمسؤولية، والأمر ذاته في سوريا، حيث لا تزال الرقة ونحو ثلث الأراضي السورية تحت هيمنة داعش. وللإرهاب أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مثل الفقر والأمية والتخلف وعملية غسل الأدمغة التي تقوم بها الجماعات الإرهابية والتفسيرات الخاطئة للدين وغير ذلك.
مقالات اخرى للكاتب