لم تعد عربة الدفع الخشبية مكان آمن لمبيت (عباس ظلمة) بعدما حدثت معكرة كبيرة ليلة البارحة على صدره بين كلاب المنطقة المسعورة بسبب اختلاف في وجهات النظر مما اثر سلبا على وجهه الطاعن في السواد وفمه المتسع وانفه الافنص ، فقد اعتاد الفتى ان ينام في تلك العربة صيفا بعد ان يربطها بسلسة كبيرة وقفل صدئ بعمود الكهرباء المجاور لمقهى أبو ستار خوفا من سرقتها بالرغم من احتضانه لها لأنه حين ينام يصبح جثه هامدة بسبب كده وتعبه المتواصل في إيصال البضائع التي لا يقوى على حملها اكبر حمار في منطقة سوق البصرة القديمة في بداية ثمانينيات القرن المنصرم . كان عباس هوية السوق شانه شان شخصيات أخرى ضلت عالقة بالذاكرة ، لأنه بسيط ضحوك يواجه اكبر مشكله بهزة خفيفة من مؤخرته ومصفقا بقوة وضحكة يبان من خلالها أدق تفاصيل جوفه ، لان مشاكله لا تتعدى سوى قلق أمه عليه والتي تقضي يومها بطوله للبحث عنه حاملة معها (علاكة خوص) فيها طعام (لعبيس) دون جدوى . افتقد أهل السوق (عباس ظلمة) لشهر كامل والكل يسال عنه ، ومعظمهم يحرس عربته الموشومة بالـ (حسود لا يسود ) بعدها عرفنا من والدته بان صاحبنا قد تم سوقه للجيش الشعبي على يد مسؤول المنطقة (جميل حاروكه) وضلت أمه وحيدة تندب حضها يوميا بل جعلت من أبواب بيوت المنطقة مآتم تشاركها فيها النسوة ، وفي لحظة من ساعات العصر الصيفي الرطبة شاهدنا أطفال المنطقة مبتهجين وكومة متحركة من الأطفال وبعض المجانين يتقدمهم (سرور) ذالك الطفل المنغولي حاملا حقيبة عسكرية كبيره (يطغ) ووسط الجمع رأينا (الرفيق عباس) قادما من الجبهة مرتديا كم من التجهيزات العسكرية وكأنه ثكنة تمشي . وانطلقت (الهلاهل) مبشرة بعودة البطل وحامي حمى الأمة من الريح الصفراء ودرع البوابة الشرقية للوطن العربي آنذاك ... وسط هتاف أم عبيس (هله يالبيكم كل جف لاويناه) والكل يعلم بان عباس كان طول تلك الفترة يغسل قدور الطبخ في قاطع المهلب المتعسكر بجانب جسر خالد ، والتجهيزات التي يرتديها تم إضافتها على ذمة (المكرود) لكي يخف وزر مسؤول المشجب في القاطع . بعدها بأيام اختفى عباس للمرة الثانية ولا كن هذه المرة أخذوه (خواله) إلى ايران ، وعلمنا من هذا الخبر عندما جاءت عجلة (الاندكروزر) البيضاء محملة بمسؤولين من الجيش الشعبي تسال عن رفيقهم ولماذا تأخر بالالتحاق فأجابتهم أم عباس من خلف الباب انه ذهب إلى أخواله في إيران (ايكول الشغله ما أتصرف) فامتعض الرفيق من ذلك الخبر مخاطبا ام عباس أين روح النصر وفكر القائد الملهم والمبادئ والقيم والبعثية الصميمية ، فجابته أم عباس (لحظة يمه) ودخلت لتجلب كيس بضائع كبير متمتما للرفيق (يمه كل إلي كلته موجود بالكونية) وإذا كان هناك أي نقص بيعوا (عربانته) . هكذا كانت المبادئ والقيم وقت الطاغية ، لقد كانت بضاعة كاسدة يسخر منها عامة الناس أما الآن وقد فرغ العراق من طاغية رعديد حرق اليابس والأخضر أما آن الأوان أن ننمق مبادئنا وقيمنا ونخرجها من (كونية أم عباس) تلك التي كان جوابها عنوان بلون الشمس لفترة مررنا بها جعلت من مبادئ العراقيين وقيمهم مهزلة المهازل ، لماذا استبدلنا (كونية ام عباس) بـ (كواني ) أخرى منها ما حمل جثث أطفال ومنها ما حمل ملايين الدولارات وهربها للخارج ومنها ما حمل بها ملابسه وتاريخه وهاجر هائما على وجهه يبحث عن الكرامة . فلنكن جميعنا أم عباس في تلقائيتها وطيبتها المفرطة وقلقها المشروع على ابنها ذخرها وبكائها المتواصل عندما تحس بجوعه ، ولنكن كلنا عباس الذي رفض الواقع دون علمه وهرب لكي لا يشترك في تلك المهزلة ، بات علينا الهروب في دواخل أنفسنا لكي نصحح أخطائنا وننظف مجتمعنا من الدخلاء والسراق وأصحاب أحزمة العار والشنار القادمين من خلف الحدود المفتوحة لأصحاب الكروش البارزة والحاقدين على تجربتنا الفتية والتي تقض كروشهم وعروشهم ، واني واثق من إننا نحن العراقيين مهما اختلفنا او تفرقنا تجمعنا طيبة ام عباس وعفوية ابنها ومنهجية تفكيره الساذج وضحكته البريئة لأننا امة عريقة طيبة معطاء وأملي ان لا ننحني للعاصفة بل نقف أمامها ولن ننكسر لان فينا قلوب بيضاء وأيادي أنظف ، ولنجعل تجاربنا السابقة ميزان تصحيح لأجيالنا القادمة .
مقالات اخرى للكاتب