بعد غياب العملة الدكتاتورية عام 2003 بدأ العراقيين بمساندة القوی التي أسقطت الطاغي صدام حسين بالعمل علی نظام توزيع السلطات و بناء مؤسسات دستورية تمارس الحكم الديمقراطي في العراق لكي تبتعد بغداد عن الشمولية. فتم بعد ذلك وضع دستور عام ٢٠٠٥ شارك فيه أحزاب عراقية و كوردستانية و صوت له أكثر من ٨٠ بالمئة من العراقيين. كان الهدف من كل هذا بسط الإستقرار والسعي في سبيل مفردات مثل التنمية والبناء والتطور والبحث عن حلول للمشاكل العالقة وتبادل أفكار بعد الإصرار علی أخذ البنود الدستورية والإتفاقيات السياسية بجدية.
بالرغم من أن الدستور العراقي الحالي لا يخبأ في ثنایاه تصور لفلسفة الدولة ، فالدول المتقدمة تحدد السلطة لكي لاتصبح فوق المجتمع و مبدأ الدولة الإتحادية أحد الأسس الدستورية التي لا يجب المساس بها ولكن من الممكن إعادة تقسيم الولايات ، بناء على تغييرات جديدة في الحدود بين الولايات، طالما أن المواطنين المعنيين يرغبون في ذلك. أما إذا فشل السلطة في القيام بدورها ، فلا سبيل إلا أن تحل ويتأتى لانتخابات عامة تفرز من خلالها صناديق الاقتراع منظومة سلطة جديدة. قبل الانتخابات الأخيرة كاد الوضع في العراق تسير بسبب السياسات الانعزالية الخاطئة من قبل رئيس الوزراء نحو وقوع كارثة ، بل وحتی نحو حرب طائفية مع إقتران عواقب وخيمة للمجتمع والاقتصاد. إقليم كوردستان لاتريد أن تكون علاقاتها مع الحكومة الإتحادية مبنية علی اللاشراكة أو سياسة الطرف الواحد ، لە مطالب كانت و مازالت عالقة لأسباب ذكرناها في مقالاتنا السابقة.
اليوم وبعد إعلان نتائج الإنتخابات التشريعية في العراق الإتحادي التعددي ، نری وضوح الخطاب والموقف الكوردستاني الموحد من العمل في سبيل تشكيل حکومة الشراكة الحقيقية في بغداد.
لتتعلم الجهة التي تريد أن تتحمل مسٶولية السلطة في بغداد من تجارب الشعوب كيف تبنى الأوطان علی أساس الشراكة الواقعية والاحترام الطوعي لبنود الدستور والقوانين ، دون إلغاء الآخر ، بها تتجه بوصلة الحكم في العراق الفدرالي نحو تقسيم السلطات وليس تجميعها وتمركزها بيد مسؤول واحد، كي يعود زمن الدكتاتورية بثوب جديد.
علی الحكومة التي تتشكل في بغداد ضمان إنجاح مجمل المشاريع والقضايا والبرامج المتعلقة بالتحديث والتنمية أو بالحرية والعدالة أو بإنتاج المعرفة والتقنية وعلی الأحزاب الفائزة في الإنتخابات منع بروز الثوابت التي تعيد التجربة السياسية في العراق الی الوراء وتقود هذا البلد الی العزلة الخانقة.
القيادة الكوردستانية تتمنی أن تظل الثقة ، التي بناها مع الفصائل التي كانت أبان الحكم الصدامي تمارس نشاطاتها لسنوات طويلة من أرض كوردستان کمعارض للنظام الشمولي والقمعي في سبيل إسقاطه باقية لبناء دولة الشراكة الحقيقية والديمقراطية التشاركية لتحقيق الاستقرار والنمو ، إذ من الجليّ بأنه لا يمکن التعامل مع النفس إلا من خلال التعامل مع الآخر.
القيادة الكوردستانية بموقفها وخطابها الموحد مع فلسفة إنتهاج لغة الحوار الموضوعي في نقاط الخلاف الفكري والعقائدي والعملي، وليس لغة العنف والفرض والإكراه. فهي الآن مع القرارات النهائية ولن تنتظر عقداً آخر للمرور بنفس التجارب السابقة وإذا رأت بأن العملية السياسة تسير بإتجاه تبعدها من مطاليبها الدستورية فسوف تختار مقاطعة العملية السياسية و بالنتيجة سوف تقاطع الإشتراك في البرلمان والحكومة ، بالنسبة للكوردستانيين إنتهی زمن الضمانات الورقية لغير مفيدة والوعود الشفهية الكاذبة.
کفی العراق الإتحادي العيش في ظل رئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة عمل في السابق بمناورات ميكيافيلية من أجل الإستمرار في البقاء في الحكم بعد أن بسط في السابق سلطانه على كافة الأجهزة والوزارات والمؤسسات و بعد أن أبعد خصومه ومنافسيه بالتصفية السياسية والغير سياسية لتحقيق نيته في كتم الأنفاس و تسويد النهار و تنغيص المزاج العام و إشعال نار الفتنة بين المكونات العراقية من دون الإهتمام بالمنطق القائل بأن الناس في الديمقراطية سواء لا آلهة و لا أصفار.
علی رئيس الحكومة الجديد في العراق ، كائن من يكون، التعامل مع محيطه السياسي والاجتماعي من موقع الحرص على سلامة العملية الديمقراطية في العراق وعدم تعميق الخلافات و تعقيدها و التشكيك بإخلاص الخصم. عليه أن لايسعی بشكل لا دستوري من اجل التشبث بالسلطة بهدف خلق صراعات عنصرية ومذهبية وحزبية في كل أنحاء العراق و أن لا يخلق الأزمات المزمنة حتى يستطيع أن يدير الحكومة ويتكالب علی جمع الثروة.
فالعالم تغير بصورة جذرية و بنيوية ومتسارعة فلا سبيل الی الإندراج فيه والمشاركة في صناعته من دون تغييڕ يطال المناهج والمبادیء والنظريات.
العراق بات أشبه بسبب هذه السياسات العقيمة بالرجل المريض في العالم. إن إقرار القيادة الكوردستانية بحقوق الشعب الكوردستاني المشروعة في الاتحاد الفيدرالي هو سعي لتلبية المطالب الدستورية لهذا الشعب والإلتزام بالمادة 140 من الدستور تطبيقاً لحقه في تقرير مصيره بعد أن صار شعب كوردستان عامل الاستقرار في العراق و المنطقة.
السنين الماضية أثبتت بأن إستخدام سياسة القواقع الفكرية الخانقة و نشر فيروس المركزية من أجل تغليب الإعتبارات المذهبية أو القوموية علی الصناعة المفهومية والمشاغل المعرفية و سلب الهوية والإرادة بعد تشعب أذرع رأس تيار التفرّد كالأخطبوط ، لم يبشر للعراق والعراقيين بخير.
لقد ولیّ زمن سماح الشعب الكوردستاني للحكومات في العراق الإتحادي ببسط الهيمنة بعد لبس جلباب ديني أو قوموي والتعمد إلی تفتيت ديموغرافيته علی أساس أقوام لإستغلال نزاعاتها و طوائف لتوظيف صراعاتها أو قبائل لإستثمار نعراتها بهدف إبقاءها خاضعة سياسياً وعليلة إجتماعياً للترويض بإرادتها و نهب ثرواتها و توزيع أسلابها وتعطيل ديناميات الارتقاء الحضاري عندها وكبح تطلعات التواصل الإنساني لديها.
فالحكومة الإتحادية يجب أن تضع في أولويات عملها تحسين شروط العيش للمواطن العراقي في أي بقعة جغرافية كان و علیها العمل علی إحراز التقدم والإزدهار بدل قطع رواتب موظفي الدولة والميزانية علی الإقليم الفدرالي وإستعمال لغة الصاروخ والمدفع والحشد المرصوص والجمهور الأعمی و التهديدات و الوعد والوعيد والسعي في تصدير الأزمات التي لم تعد لغة العصر لأنها لا تصنع حياة و لن تجلب حرية و لن تغير واقعاً نحو الأحسن.
و ختاماً نقول: المجتمعات العراقية اليوم بأشد الحاجة الی ساسة يعملون علی إنتاج ثقافة جديدة منفتحة مدنية و سلمية مبنية علی عقلية المداولة والشراكة الحقيقية لا علی الدعوة و الترويج لعقلية الضد و منطق الإقصاء.
مقالات اخرى للكاتب