منذ وضع حجر الاساس للنظم العراقية قبل 93 عاما، لم تفكرالنخب السياسية العراقية وبجميع مشاربها السياسية والحزبية يوما في التركيز على مصدر الاخطاء وجذور الازمات التي ألمت بنظام الحكم في العراق، بل ركزت جل اهتمامها على النتائج الكارثية لسياساتها فقط. حيث يعرف القاصي والداني أن جذور الازمة السياسية الراهنة في العراق تنتمي الى أجندة سياسات التهميش والاقصاء التي تمارسها اليوم الحكومة العراقية بانتظام حيال شرائح معينة من العراقيين وفي مقدمتهم أهل السنة في الهلال السني الممتد من مدينة القائم غربا وحتى ديالى ومندلي شرقا. تماما كما فعلت النخبة السياسية "السنيّة" تجاه الاكثرية من أبناء الشعوب العراقية خلال أكثر من ثمانين عاما. بالاضافة الى حرص عرب العراق باعتبارهم أهل الحكم ( سنة وشيعة) في تشكيل عدد من "المرجعيات" التي يمكن الرجوع اليها عند الحاجة وأشتداد حدة الازمات السياسية والطائفية داخل الوطن. لكنهم نسوا أو تناسوا قصدا ضرورة تشكيل مرجعية واحدة تسمو فوق تخوم المذاهب والطوائف واصطفافاتها العشائرية على مر التارخ.
هذه الحقيقة التي تقف بحزم وراء سرعة انهيار خارطة الدولة العراقية الحديثة التي زرعها الاستعمار الانكليزي في عقلية المواطن العراقي قبل 93 عاما بالاتكاء على تخوم الثروات النفطية. مثلما وقفت الحقيقة تلك وراء انهيار بنيّة الدولة الوطنية المشوهة التي ابتدعها مريدو ثورة 14 تموز عام 1958 ضد الملكية ثم حولها البعث الفاشي لاحقا الى محرقة ألقت بظلالها الكئيبة السود على أجندة الطموحات المشروعة للشعوب العراقية وتحديدا الشعوب العراقية الصغيرة التي يحق لها أن تحلم كشقيقاتها من شعوب العالم، بربيع مزدهر تتورق فيه زهور الديمقراطية والعدالة والتحرر من نير الدكتاتورية ولو مرة.
علما أن مشكلة الحكم في العراق، تنتمي الى حرص معظم النخب السياسية التي استولت على كرسي الحكم، على خلق نخوة وطنية زائفة منذ ولادتها القيصرية. هذه النخوة التي أخفقت وللاسف الشديد في الصمود مجرد ساعات بوجه جحافل منظمة ارهابية ك"داعش" شكلت قبل أقل من 15 شهرا. هذا ان دل على شيء فانما يدل على حاجة العراق الى اعادة صياغة مفهوم الوطنية في العراق الجديد مع اشراك جميع مكونات الشعب العراقي بغض النظر عن انتمائهم العرقي المذهبي في حكم العراق الجديد، بالاضافة الى قرار الاسراع في اعادة تأهيل البنيّة التحتية للجيش العراقي وتطوير قدراته العسكرية من حيث التعبئة والتدريب والتجهيز بالشكل الذي يسمو فوق حدود الطائفية والمذهبية باعتبارها أجندة الوحدة الوطنية العراقية منذ عام 1921 لحد يومنا هذا.
أما اليوم وبعد سقوط جل الاقنعة وانكشاف أوراق الملف الوطني الزائف لاصحاب القرار السياسي في العراق واستعداد الاكثرية منهم للاستنجاد حتى بالمنظمات الارهابية خارج الحدود في سبيل البقاء على كرسي الحكم والسلطة. في الوقت الذي سهلوا عملية تخوين وتشويه وطنية كل كيان (أقلوي) أصيل أو شعب عراقي غيرعربي ثار بوجه الانظمة الفاشية والدموية المركزية وعلى مدار اكثر من ثمانين عاما. رغم أن النخبة السياسية العراقية "المعارضة" اعترفت علنا خلال سلسلة من مؤتمراتها خارج الوطن وقبل سقوط الصنم عام 2003، أن مشروع الفيدراليات الثلاث أو السيناريوهات الثلاثة التي طرحتها الحكومة الامريكية قبل الغزو، هو الحل الوحيد لانقاذ النظام العراقي من أزمته السياسية وخروجه من عنق الزجاجة اكثر عدالة وديمقراطية. وما التطور الاقتصادي أوالاستقرار الامني السائد في الاقليم الا دليل على صحة البدائل السياسية المقترحة لمستقبل العراق الجديد.
أدون تفاصيل هذه الحقائق التاريخية التي انكشفت رغم تأخرها والمشاهد العراقي يتطلع الى الصور المباشرة التي تنقلها الفضائيات العربية من داخل تكريت لحظة سقوطها بيد جحافل تنظيم"داعش" باعتبارها عاصمة محافظة صلاح الدين. طبعا جاء سقوط تكريت بعد سقوط مدينة" الموصل" عاصمة محافظة نينوى والفلوجة والانبار وبيجي وسامراء وغيرها من المدن التي هي في وشك السقوط.
في الوقت الذي يشدد السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي خلال كلمته الاسبوعية على كلمة المؤامرة من جديد بقوله:
"ما حصل في الموصل هو مؤامرة وخدعة سمحت بدخول عناصر داعش الى الموصل". هذا الخطاب السياسي الذي لا تختلف مفرداته كثيرا عن الخطابات السياسية التي رددها قبله جميع رؤساء الجمهوريات العراقية الاولى، الثانية والثالثة.
علما ان السيد رئيس الوزراء العراقي أشاد بدور المرجعية وبمواقف الاحزاب والعشائر والدول المجاورة والصديقة والامم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الاوروبي وغيرها من الدول والمنظمات التي قدمت وتقدم المساعدة لانجاح الحملة العسكرية ضد الارهاب كما يقول. لكنه امتنع تماما عن ذكر ولو كلمة يشكر فيها ما قدمته وتقدمه القيادة السياسية في الاقليم من الدعم مثل الايواء والمساعدات الانسانية لجميع الهاربين والناجين من المدن العراقية المتضررة.
مقالات اخرى للكاتب