يفترض بالإنسان حين يكون متديّناً أن تفيض مشاعره بالمحبّة والاحترام لمن حوله من الناس، وأن تظهر على سلوكه وممارساته نزعة اللطف واللين في علاقاته مع المحيطين به؛ ذلك لأن التديّن يعني استهداف رضا الله سبحانه وتعالى، فالمتديّن هو من يريد الحصول على رضاه عزّ اسمه. وقد دلّت النصوص الدينيّة الواردة عن الله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي و الأنبياء وأوصيائهم على أن الله عزّ اسمه يرضى بحسن التعامل مع الناس، ويسخطه سوء التعامل معهم، فمن كان يريد الحصول على مرضاة الله فعليه أن يسلك هذا الطريق، ولأن المؤمن يفترض فيه أن يستهدف الوصول إلى مرضاة الله، فهذا يعني أن يكون ملتزماً بسلوك طريق المحبّة والاحترام لمن حوله من الناس.
لكن ما نراه في الواقع الخارجيّ يحكي شيئاً مخالفاً في كثير من الأحيان لهذه التعاليم الدينيّة؛ فبعض المتدينين غالباً ما يكونوا عابسيّ الوجوه ومنقبضين في أخلاقهم، وقاسين في تعاملهم مع من حولهم، فترى بعضهم مهتماً بتفاصيل مسائل العقيدة، أو بجزئيّات الأعمال العباديّة، لكنّه ليس حريصاً على رعاية مشاعر الآخرين واحترام حقوقهم، يجتنب عن بعض الخدوش في عباداته حتى لا يسخط ربه، لكنه ليس حريصاً على اجتنابها في العلاقة مع الآخرين، مع أن ذاك يسبب سخطاً كبيراً من قبل الله تبارك وتعالى، وما هذا إلا انفصاماً وازدواجيّةً في الشخصيّة.
طالعت قبل مدّة ـ في أحدى الصحف المحليّة ـ مقالاً لكاتب يتحدّث عن انطباعات أحد أصدقائه وزملائه عن والده، حيث يقول وهو يستذكر والده: إن والده وخاصة في شهر رمضان كان حريصاً على صلاة الجماعة، وقراءة القرآن، والأوراد والأذكار والمستحبات، لكنّه يضيف الشيء الذي لم يستطع فهمه حينما يقارن بين تديّنه والقسوة التي يلحظها من أبيه تجاه أمّه؛ فطالما رآه ـ وهو طفل ـ يجرّها من شعرها ويضربها!!
ولا ندري: كيف يوفّق هذا الإنسان بين مواظبته على صلاة الجماعة وصيامه وتلاوته للقرآن، وبين هذه المعاملة القاسية مع زوجته، وبعضهم مع أبنائه، وبعضهم مع عمّاله والخدم الذين يعملون لديه، أو مع جيرانه حيث نرى جاراً لا يسلّم على جاره المسلم المختلف معه مذهبياً، أو جاره الذي يتفق معه في المذهب والعقيدة ويختلف معه في بعض الآراء والتوجهات، في الوقت الذي نراه مواظباً على صلاة الجماعة وشعائر الدين، ولا ندري كيف نفسّر هذه الازدواجيّة؟!!
وبغية فهم خطورة هذا الأمر نلاحظ التركيز الذي أولته النصوص الدينيّة على الترابط والتلازم بين العبادات وبين حسن التعامل مع الناس؛ فالإنسان المؤمن الذي يهتم بأداء العبادات، ويريد أن تكون صحيحة مقبولة، عليه أن يهتم بحسن التعامل مع من حوله، وحيث إنّا نعيش في رحاب فريضة عظيمة وهي صوم شهر رمضان، نجد التركيز على الارتباط بين أداء هذه الفريضة، وبين مراعاة مشاعر الآخرين و الاهتمام بحقوقهم، وهذا ما نستطيع أن نلمسه في موارد عديدة تؤكّد عليه النصوص والأحكام الشرعيّة؛ فإن من جوانب حكمة فريضة الصوم هو لأجل إشعار الصائم بمعاناة الآخرين من الفقراء والمحتاجين كما تشير إلى ذلك نصوص عديدة:
ومنها: «سُئِلَ الْحُسَيْنُ عليه السلام: لِمَ افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى عَبِيدِهِ الصَّوْمَ؟
قَالَ: لِيَجِدَ الْغَنِيُّ مَسَّ الْجُوعِ فَيَعُودَ بِالْفَضْلِ عَلَى الْمَسَاكِين»([1]).
ِ ومنها: «عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ عِلَّةِ الصِّيَامِ؟
فَقَالَ: إِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الصِّيَامَ لِيَسْتَوِيَ بِهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْغَنِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَجِدَ مَسَّ الْجُوعِ فَيَرْحَمَ الْفَقِيرَ لِأَنَّ الْغَنِيَّ كُلَّمَا أَرَادَ شَيْئاً قَدَرَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَأَنْ يُذِيقَ الْغَنِيَّ مَسَّ الْجُوعِ وَالْأَلَمِ لِيَرِقَّ عَلَى الضَّعِيفِ وَيَرْحَمَ الْجَائِعَ»([2]).
فهذه الفريضة فرضت من قبل الله تعالى حسب هذه النصوص، من أجل إشعار الإنسان بآلام الآخرين والإحساس بمعاناتهم؛ لأن الله يريد أن يربي الإنسان على الاهتمام بأوضاع الآخرين وآلامهم.
أحكام الصوم قرينة على أخلاقيّته
وحينما نريد أن نطلّ على حقيقة هذه الفريضة وطبيعة مدياتها، نلاحظ مثلاً آخر يؤكّد هذه الحكمة التي آشرنا إليها آنفا، وهو أنه يجوز للحامل المقرب التي تخاف من الصوم على نفسها أو جنينها الإفطار والقضاء بعد ذلك، وكذا الأمر فيما إذا كانت تُرضع ولداً وكان الصوم يؤثّر على لبنها، كلّ هذا يؤكّد على أن هذه الفريضة مأخوذ بالاعتبار فيها عدم التجاوز على حقوق الآخرين كما بيّنت ذلك تفاصيل مختلفة من أحكامها الشرعيّة.
أولوية حقوق الآخرين ومشاعرهم على المستحبات
وفي سياق الشواهد التي تُظهر النزعة الإنسانيّة في عبادة الصوم نلاحظ مراعاة مشاعر الآخرين وحقوقهم حينما تتزاحم مع أمر عبادي آخر هو: استحباب تقديم صلاة المغرب على الإفطار؛ فقد دلّت النصوص على أن هذا الاستحباب إنما هو في حالة عدم وجود من ينتظر على الإفطار، أمّا في حالة وجود صائمين جالسين على مأدبة الإفطار، فلا استحباب في البين وعلى الإنسان أن يراعي مشاعرهم، فقد ورد:
«عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: تُقَدِّمُ الصَّلَاةَ عَلَى الْإِفْطَارِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يَبْتَدِءُونَ بِالْإِفْطَارِ فَلَا تُخَالِفْ عَلَيْهِمْ وَأَفْطِرْ مَعَهُمْ، وَإِلَّا فَابْدَأْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْطَارِ، وَتُكْتَبُ صَلَاتُكَ وَأَنْتَ صَائِمٌ أَحَبُّ إِلَيَّ»([3]).
«وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْإِفْطَارِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا؟
قَالَ: إِنْ كَانَ مَعَهُ قَوْمٌ يَخْشَى أَنْ يَحْبِسَهُمْ عَنْ عَشَائِهِمْ فَلْيُفْطِرْ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّ وَلْيُفْطِرْ»([4]).
إفطار الصائم ثواب جزيل
ومن النماذج الأخرى التي تظهر النزعة الإنسانيّة في عبادة الصوم هي: «إفطار الصائم»؛ فإن الاهتمام بالآخرين ومراعاة مشاعرهم لا يقلّ ثواباً عن نفس فريضة الصوم، وقد أشارت النصوص الدينيّة لذلك:
ومنها: عَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا»([5]).
ومنها: عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله «فَطْرُكَ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ وَإِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ صِيَامِك»([6]).
حُسن الخلق جواز على الصراط
ومن النماذج أيضاً في موضوع الصيام هو التأكيد على حسن الخلق في حين أداء هذه الفريضة؛ فالصائم لكونه يحسّ بالجوع والعطش، وبتغيير في برنامجه، فربما يكون هذا الأمر مبرّراً لعدم الاهتمام بمشاعر الآخرين وأحاسيسهم، لكن النصوص ركّزت وأكدّت على ضرورة أن يلتفت الإنسان إلى ضرورة تفادي خطورة هذا الأمر، من هنا نلاحظ ما جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وآله حيث نصّت ٍعلى أن من حسّن خُلقه في هذا الشهر الكريم كان له جوازاً على الصراط يوم تزلّ الأقدام فيه.
ما قدّمناه عيّنات ونماذج نلاحظ مثلها في الصلاة؛ فلو تابعنا أحكام الصلاة وآدابها لوجدنا النصوص الكثيرة التي تدلّ على الترابط بين أداء هذه الفريضة وبين احترام مشاعر الآخرين والاهتمام بحقوقهم، وكلّ هذا يؤكّد على أن التديّن ينبغي أن يكون دافعاً لحسن الخُلق والتعامل، والمتديّن الذي يسيء التعامل مع الناس عليه أن يعرف إنّه يسلك الطريق الخطأ، و ابتعاده عن الفهم السليم للتديّن، وإن ما يريده من رضا الله وثوابه لا يتحصّل بهذا الاسلوب وبهذه الطريقة.
([1]) ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: ج4، ص68.
([2]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه: ج2، ص73.
([3]) المفيد، المقنعة: ص318.
([4]) الكليني، الكافي: ج7، ص474.
([5]) الترمذي، السنن: ج2، ص162.
([6]) ابن الاشعث، الجعفريّات: ص60.