مالتوس ... وغد من أوغاد العالم الرأسمالي, وضع نظريته التشاؤمية الشهيرة متجردا من أدنى المشاعر الإنسانية ومتبنيا أحط الأفكار الهمجية وأكثرها شيطانية في محاربة الفقراء, يعد أحد أكثر المنظرين الاقتصاديين تأثيرا في الوعي الليبرالي الغربي, ترجم أفكاره في كتاب "أصل المشكلة السكانية – 1898, وكتاب "مبادئ الاقتصاد السياسي – 1820" ليكونا مرجعين أساسيين للرؤى الليبرالية ومحدد أيدلوجيتها المستقبلية لمفهوم الثروة وعلاقتها بالأختلالات الديموغرافية, استمدت القوى الاستعمارية الرأسمالية تطبيقاتها كنظرية حكم تفرض على مستعمراتها وعلى الأنظمة الضعيفة الفاسدة أيضا, حتى تجلت تطبيقاتها العملية بأبشع صورها في عراق ما بعد الاحتلال.
تبلورت افكار مالتوس بعد الثورة الصناعية وما أعقبها من تحولات اجتماعية واقتصادية أدت إلى اتساع حدة الفقر في المجتمع البريطاني, فصب جام غضبه على الفقراء وعزا أسباب الفقر إلى الاختلالات الديموغرافية والزيادة السكانية, متجاهلا اختلال توزيع الثروات في المجتمع هو السبب الرئيسي لنشوء الفقر, داعيا إلى تكريس مقومات التفاوت الطبقي والمناداة بالملكية الفردية المطلقة وإلغاء الملكيات العامة وإطلاق اليد دون وازع إنساني أو قانوني للملاك والإقطاعيين تحت مسمى الليبرالية الاقتصادية, لخلق نخبة مجتمعية تدفعها غريزة الجشع ونهم التسلط والاستحواذ لتكون كابحا أمام تنامي أعداد الفقراء, وتصل نزعة مالتوس أللإنسانية إلى المطالبة بمنع الإعانات المقدمة في حالات الضرورة كالمجاعات وغيرها لتسهم في التقليل من النسل, بل ويذهب أبعد من ذلك ويرى إن العدد الفائض من ولادات الأطفال ينبغي أن يفنى إلا بمقدار نسبة الوفيات الطبيعية لكبار السن لحفظ عدد السكّان عند المستوى المطلوب, وعليه "فانّه يجب علينا (كما يقول) بدلاً من السعي الأحمق غير المثمر للوقوف بوجه عمليّات الطبيعة في إحداث هذا الموت والفناء وبدلاً من أن نوصي الفقراء برعاية النظافة والطهارة، أن نحثّهم علی عادات معاكسة، وعلينا جعل شوارعهم أضيق، ومنازلهم اصغر, وأن نضع عدداً أكبر من السكّان في المنازل، وندع الطاعون يعود من جديد... بل إن علينا- فوق هذا كلّه- أن نقف في وجه نشاط هؤلاء الأفراد الخيّرين (الأطباء) الذين يرتكبون خطأً فاحشاً ويَتخيّلون أنهم يقدّمون خدمة إلی البشريّة بإيجاد خطط لاستئصال بعض الأمراض" !!!
ولم يغفل مالتوس أهمية الفقراء ودورهم في زيادة ثروات الأغنياء كايدي عاملة رخيصة لا يمكن الاستغناء عنها, فوضع نظريته "أجور الكفاف", نادى فيها بمنح العمال الحد الأدنى للأجور لأبقاهم على قيد الحياة فقط, لا اقل لتؤدي إلى وفاتهم, ولا أكثر لتؤدي إلى اختلال ثروات الأغنياء.
ورغم الانتقادات الشديدة التي تلقاها الفكر المالتوسي من كبار المفكرين الاقتصاديين والحقوقيين في أوربا والولايات المتحدة, إلا إن الرؤية الاقتصادية التي سادت الوعي السياسي الغربي تبنت منطقه ومقولاته، خاصة عند تحليلها الوضع الدولي ورسمها للسياسات الاجتماعية والاقتصادية للعالم الثالث, وأسهم الفكر المالتوسي في بلورة مواقف لا إنسانية تجاه الشعوب وحقها في العيش الكريم, تبنتها منظومة واسعة ومتشابكة من المؤسسات الاقتصادية الرأسمالية والأجهزة المخابراتية, تسعى لنشر الفتن والاضطرابات والحروب الأهلية والأوبئة الفتاكة وتغيير الحكومات وزعاماتها بالاغتيالات والانقلابات والاحتلال ورسم سياساتها بما يرسخ الأفكار المالتوسية, حتى تجلت أسوأ تطبيقاتها مع ما نلحظه في العراق اليوم من الانقياد التلقائي لتطبيق الأفكار المالتوسية ليس اقل ما يقال عنها إنها تنفذ تحت باب الفساد, وفي حقيقة الأمر إنها إبادة جماعية منظمة للفقراء تجري تحت هذا الغطاء.
أجور تحت مستوى خط الفقر تتذرع الحكومة باعتراض صندوق النقد على زيادتها, ولكن هذا الصندوق لا يعترض على إهدار ثلث الموازنة العامة لصالح النخبة الحاكمة, لترسيخ التباين الطبقي وخلق نخبة إقطاعية متحكمة بمصير الفقراء, وأزمة سكن خانقة اضطرت الفقراء إلى العيش تحت ظروف لا تتوافر فيها أدنى مقومات العيش البشري ظلت الحكومة تتذرع بتعطل الاستثمار, مع إن المستثمر لا يوزع العطايا على الفقراء وهذه مسؤولية الدولة, أسواق فتحت أبوابها على مصاريعها لنفاذ المواد الغير صالحة للاستخدام البشري, فيتهافت عليها الفقراء لرخص أثمانها ولا احد يعلم مكوناتها ومصدرها والطامة الكبرى إنها تدخل من المنافذ الرسمية وغير الرسمية التي اعتاشت على تمرير هذه المواد, ووزارات اعتادت على استيراد مواد منتهية الصلاحية أو أغذية مسرطنة أو أدوية ملوثة, فتحيل أجساد الفقراء إلى حاضنات للأمراض والأوبئة, أعمال إرهابية تستهدف الفقراء وتجمعاتهم وأسواقهم تجد التسهيلات الكاملة لاختراقها بأجهزة كاذبة لكشف المتفجرات وقادة أمنيين لا يجيدون حتى القراءة والكتابة, تحيل اجساد الفقراء إلى أشلاء متناثرة في مواقع تجمعهم وناشرة الأمراض الاجتماعية كالترمل واليتم والعوق, الفقراء أحيائهم مقفرة مغبرة آسنة, مدارسهم مهدمة ومستشفياتهم مهلهلة, وأمراض انتشرت أكثر من أي وقت مضى, حتى ارتفعت نسبة الوفيات لهذه الأسباب وانخفض معدل عمر الفرد العراقي إلى "58.2" سنة, وهو معدل منخفض حتى في الدول النامية الفقيرة, واقل بكثير مقارنة مع دول الجوار التي يفوق موازناتها العامة أضعافا مضاعفة مثل "الأردن 77.3 سنة" و"سوريا 71.9سنة".
سيشعر"مالتوس" بالفخر والزهو وسينام قرير العين وان حقده على الفقراء ترجم من أقوال إلى أفعال أكثر من أي وقت مضى, فليس هنالك دولة في العالم عبر التاريخ كله تبنت أفكاره الشيطانية مثل ما تبنته الحكومة العراقية.
مقالات اخرى للكاتب