في مقهى عبد ننه الشعبي والتراثي داخل أسوار مدينة النجف القديمة قرب مرقد الإمام علي (ع)، تعالت أصوات العاملين والجالسين بعبارة "الله بالخير" عند جلوسي مع صديقي على الأريكة الأثرية التي ربما صُنعت في الستينيات من القرن الماضي، روائح الـ"تتن" تفوح من كل زاوية بعضها طيبة وبعضها كريهة، وصوت أقداح الشاي أو الـ"استكاين" وقرقرة الماء الأصفر داخل الشيشة ممزوجاً بصراخ (يوسف سيف) معلق قناة الجزيرة الرياضية وضجيج المشجّعين من وسط اسبانيا ودردشة الزوّار الإيرانيين ومناقشات العراقيين السياسية والكروية يملأ المقهى الذي ارتكز على جدرانٍ ربما ستسجد قريباً بعد طول ركوعها!
كان كل شيء طبيعي فمقاهي العراق حافظت على تراثها وقدمها رغم أنوف الحاقدين، في إحدى سفراتي قال لي عجوزٌ كويتي بعد أن عرف أنني من العراق: (أحبُّ العراق وأحبّ السفر إليه لأنّه يذكّرني بالسبعينيات! المقاهي والـ"چايخانات" وبائعي الكبد "المعلاگ" على الأرصفة والحمير الكادحة والكلاب السائبة كلّ ذلك يذكرني بأيام شبابي في السبعينيات)!! كرهتُ الرجل العجوز لأنني شعرت انه يهزأ ببلدي، فرميت باللوم على الحكومات التي حكمت العراق على مرّ الزمان ولم تحسن إدارة شؤونه! فرد عليّ مستهزئاً (ظننت أن شعبك يحب الحفاظ على تراثه كالبريطانيين)!! زاد كرهي له، على كلٍّ أعود إلى مقهى عبد ننه، كان كل شيء طبيعي في المقهى إلا الرجل الإيراني "المعمم" أو "الشيخ" وهو يجرّ "الناركيلة" بكل جدارة، كان منظره غير مألوف! واضعاً رجله اليمنى على اليسرى ويهزّ بقدمه المعلقة وعمامته البيضاء في مؤخرة رأسه تكاد أن تسقط بين نفسٍ وآخر وحوله شباب من قافلته التي يبدو انه مرشدها!! يجرون معه الـ"معسل"، يدردشون ويتسامرون و"يرطنون" بلغة لا افهمها والابتسامات تعلو شفاههم المليئة بالدخان الأبيض المحترق، بعضهم يخرج الدخان بصورة احترافية ليرسم به دائرة متحركة تتلاشى بعد أن تعلو نحو نصف متر من رأسه!.
وضع صاحب المقهى أمام كل واحد منهم قدحاً من الشاي دون أن يطلبوا منه وكأنه يريد أن يعوض عن النراكيل القليلة التي طلبوها إذ أنهم طلبوا "ناركيلة" واحدة لكل نفرين! لا أدري هل كان السبب اقتصادياً أم صحياً؟! على الأحرى انه كان اقتصادياً بسبب الإصرار النووي!!، شيئاً من الإباء مقابل الرضوخ للغرب وقليلاً من الذل عند السفر إلى بلدٍ يشهد نمواً بالاقتصاد، ضريبة لابد منها!.. نظروا إلى الشاي الأسود مبتسمين بتعجب، قال أحدهم شيئاً وضحك الجميع، ربما ضحكوا على الشاي الأسود والكم الكبير من السكر الذي وصل لنصف القدح تقريباً! شايهم خفيف للغاية وكأنه بول بعير كما يصفه الزائر العراقي الكبير في السن! القند يحل محل السكر في تقاليدهم! رأيت ذلك عند زيارتي إلى بلدهم، القند هو عبارة عن قطة سكر صغيرة سعراتها اقل من السكر يضعون واحدة في أفواههم من دون ابتلاعها ليشربوا عليها الشاي مراً! أكمل الشيخ مهمته في جر الناركيلة وأشّر لحوارييه بيده بأن الجلسة قد انتهت وحان موعد الذهاب، إلى أين؟ مع الأسف لم أفهم ما هي مهمتهم التالية؟!! دفعوا الحساب بعد الكر والفر فالطرفين عانوا من مشكلة الفهم والإفهام في معركة النقود! التفت اليّ صاحب المقهى اذ رآني في حيرة من أمر الشيخ و"نارگيلته" وقال: ليس رجلُ دين بل هو مجرد زيّ يرتديه!! فأجبته: يرحم عبد ننه!
مقالات اخرى للكاتب